دوائر المعارف الإسلامية والنهوض الوطني والديني

رضوان السيد

TT

نظّم المعهد الألماني للأبحاث الشرقية ببيروت ندوةً عن دوائر المعارف الإسلامية لدى الترك والعرب والإيرانيين، وعلاقاتها بدائرة معارف المستشرقين، وبالنهوض الوطني والديني. وقد شارك في الندوة باحثون أتراك وإيرانيون من العاملين في دوائر المعارف الإسلامية في بلدانهم. وليست لدى العرب دوائر معارف إسلامية تستحقُّ هذا الاسم، ولذلك شاركْتُ مع باحثٍ لبناني آخر في بحثين مقارنين. فكتب اللبناني أحمد حطيط ورقة عن «الإسماعيلية»، ومواد دوائر المعارف بشأنها، وكتبتُ أنا بحثا مقارنا عن الأشعرية والسلفية في دوائر المعارف الأربع: دائرة معارف المستشرقين التي تُصدرها دار «بريل» بهولندا منذ قرابة القرن، وقد صدرت منها نشرتان، وجارٍ إصدار النشرة الثالثة، والترجمة المصرية لدائرة المعارف تلك والتعليقات التي كتبها المصريون عليها فيما يتصل بالأشعرية والسلفية. ودائرة المعارف التركية التي بُدئ بكتابتها في السبعينات واكتملت قبل سنتين في خمسةٍ وأربعين مجلدا، وما أوردتْه تحت المادتين. ودائرة المعارف الإسلامية الكبرى الإيرانية، التي بُدئ بالعمل فيها عام 1983 وصدر منها حتى الآن خمسون مجلَّدا. واكتشفت أثناء الندوة أنّ العلماء الإيرانيين عملوا ويعملون في دائرة معارف أُخرى اسمها: دائرة معارف العالم الإسلامي، وقد صدر منها حتى الآن عشرون مجلدا.

إنّ المعروف أنّ دوائر المعارف كانت لها منذ القرن الثامن عشر بالغرب الأوروبي وظائف معرفية وأُخرى وطنية وقومية. وبهذين المعنيين: المعرفي والوطني أو القومي، ظهرت دوائر معارف بالعربية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر والثلث الأول من القرن العشرين مثل دائرة معارف البستاني، ودائرة معارف فريد وجدي. ولسبب لا نعرفُهُ أو ينبغي التأمُّلُ فيه، ما فكّر العرب في القرن العشرين بكتابة دائرة معارف إسلامية من إنتاج علمائهم ودارسيهم، وإنما فكّروا في زمن النهوض القومي فيما بين الخمسينات والسبعينات، بإعادة كتابة التاريخ العربي، وتكونت لذلك مؤسسات بسوريا والعراق ومصر، وما أنتجت شيئا تقريبا. لكنّ المصريين فكّروا منذ الأربعينات من القرن الماضي بترجمة دائرة المعارف الإسلامية التي أصدرها المستشرقون. وقد طال أمدُ المشروع والترجمة حتى انتهى العمل في الإصدار أواخر التسعينات من القرن الماضي. ولذلك تناولت الترجمة النشرتين الأولى والثانية من تلك الموسوعة. وقد وجدْتُ أنّ التعليقات والإضافات ضئيلة، ولا تزيد شيئا تقريبا على ما كتبه المستشرقون، وإنما تُصحّح وتُحرّر بعض المواد المتعلقة بالقرآن أو بالنبي أو بالدين الإسلامي وعلائقه بالأديان الأُخرى. ولذا ما كانت هناك إضافاتٌ أو تعليقاتٌ عربيةٌ لافتة إلى مادتي الأشعرية والسلفية. ولأنّ البحوث الاستشراقية حول هاتين المدرستين كانت متخلّفةً قبل الستينات من القرن الماضي؛ فإنّ هاتين المادتين في دائرة المعارف تلك بقيتا متواضعتين، فضلا على أنهما حافلتان بالأخطاء ووجوه القصور. ووجدْتُ أنّ الأتراك الذين أسسوا موسوعتهم على دائرة معارف المستشرقين، وسّعوها بمقدار خمسة أضعاف، والاهتماماتُ شاملةٌ، إنما هناك عنايةٌ خاصةٌ بالعصر العثماني، وبالمذهب الحنفي وبالماتريدية. لكنْ في مادتي الأشعرية والسلفية، كتب الأتراك عشرات الصفحات، واعتمدوا على كلّ المصادر العربية، كما عرفوا أكثر البحوث الاستشراقية الجديدة الصادرة حتى تسعينات القرن العشرين. أما الإيرانيون؛ فإنهم ألّفوا تأليفا مستقلا، لكنهم عرفوا البحوث الغربية الأوروبية والأميركية واليابانية عن التشيُّع وعن الأشعرية والسلفية. وقد اعتنوا عنايةً خاصّةً بالأشعرية، لأنّ أكثر أعلامها الكبار (مثل الجويني والشيرازي والباقلاّني والغزالي وفخر الدين الرازي) هم من أُصول إيرانية.

وما عادت للموسوعات ودوائر المعارف اليوم الوظائف المعرفية أو القومية التي كانت لها. لكنّ السؤال يظلُّ مُلِحا: لماذا استطاع الأتراك والإيرانيون إنجاز موسوعتين بل ثلاث في الإسلام ومعارفه وعلومه وجغرافيته وحضارته، وما استطاع ذلك العرب. بل إنّ العرب المُحْدَثين ما استطاعوا إنجاز المشروع الآخر: التاريخ القومي، رغم الوعي والإمكانيات؟! فنحن نعلم أنّ تركيا الحديثة هي دولةٌ علمانيةٌ ما كانت بشوشةً مع الإسلام دينا وحضارة. بل إنه كانت هناك إشكالياتٌ لدى مثقفيهم في مَوضعة الدولة العثمانية ضمن التاريخ القومي. ومع ذلك فإنّ وقف الديانة التركي، أنجز هذا الإنجاز الهائل عن دين الإسلام وحضارته، وهو مكتوبٌ بنسبة تزيد على الـ70 في المائة من جانب علماء أتراك. والأمر مفهومٌ أكثر لدى الإيرانيين. فقد قامت لديهم ثورةٌ إسلاميةٌ عام 1979، فحدث لديهم وعي وحَّد بين القومي والديني، ونهض بهذين المشروعين الكبيرين. فالمادة الخاصة بتركيا والعثمانيين بدائرة المعارف الإسلامية الاستشراقية تقع في 33 صفحة أو 66 عمودا، بينما هي في دائرة المعارف التركية واقعة في 165 صفحة، أو 330 عمودا. وفي دائرة المعارف الإيرانية تقع في 120 صفحة أي 240 عمودا! وقد نسيتُ أن أذكر أنّ المصريين أضافوا إلى دائرة معارف المستشرقين التي ترجموها مادةً عن شيوخ الأزهر بلغت ستا وأربعين صفحة، وكانت هي الإضافة الوحيدة المعتبرة! ولنعُدْ إلى السؤال الملحاح: لماذا نجح الأتراك ونجح الإيرانيون، وما نجح العرب في كتابة موسوعةٍ إسلاميةٍ علمية ومعتبرة؟ وأنا أقول علمية ومعتبرة، لأنّ أساتذتنا وزملاءنا في الدراسات الإسلامية بالغَربين دأبوا في السنوات الأخيرة على الرجوع إلى موسوعتي الترك والإيرانيين باعتبارهما موسوعتين علميتين، ونتاجات بحوث معمَّقة. إنّ الاستنتاج الأول الذي خطر ببالي لهذه الظاهرة الغريبة، هو أنّ علائق الترك والفُرس بحضارتهم ودينهم هي علائقُ صحية. ولذا يستطيع المؤرخ العلماني التركي خليل إينالجك أن يكتب دراسةً عميقةً عن فكرة الخلافة في الدولة العثمانية، بغضّ النظر عن اقتناعه بالمؤسسة أو عدم اقتناعه بها. كما يستطيع الإيراني الشيعي أن يكتب مادةً موضوعيةً ودقيقةً عن الجداليات بين ابن المطهّر الحلِّي وابن تيمية، دون أن يرى في ذلك إخلالا بمذهبه أو بدينه. فهذه الأمور هي من مسائل وقضايا التاريخ الديني والثقافي، ولا تحضر فيها بالضرورة الصراعات والتجاذُبات التي شهدتها الأزمنة الحديثة والمعاصرة. أمّا نحن العرب؛ فإنّ مثقَّفينا الكبار الذين أتقنوا طرائق الكتابة الحديثة، وموضوعيات المنهج العلمي، ليست بينهم وبين تراثهم الديني والثقافي علائق معقولةٌ أو صحية. وأكثرهم حتى اليوم ما يزالون يعتبرون الإسلام وحضارته أكبر عوائق التقدم في الزمان والمكان. ولأنّ هؤلاء وأمثالهم هم الذين سادوا خلال نصف القرن الأخير في الإدارات الثقافية والتربوية للدول والأنظمة، فما كان من المنتظر أن ينهضوا بمشروعٍ كبيرٍ كهذا. وأحسب أنّ ذلك كان أهمَّ أسباب فشل مشروع كتابة التاريخ القومي العربي، لأنّ هذا التاريخ لا يمكن كتابتُهُ دون اعتبارٍ للإسلام الدين والإسلام الثقافة والحضارة. ولكي يكون واضحا ما أقصدُهُ، دعونا نتأمل اهتمامات ومؤلَّفات المثقفين العرب البارزين الذين عُنُوا بقضايا الموروث الديني والثقافي. لقد نشر عشراتٌ منهم عشرات الكتب فيما سمَّوه «التراث»، وكان اهتمامهم مُنْصبّا كما قالوا على التحرر والتحرير: التحرر من «وطأة» هذا التراث على الحاضر، وتحرير العرب من تلك الوطأة بإحدى ثلاث سُبُل: الحملة الراديكالية المُلْغية، أو تقسيم ذاك التراث إلى تقدمي ورجعي، أو تأويل ذاك التراث بطرائق ترتهنه لشروط الزمان والمكان، أي تقول بالقطيعة بيننا وبينه لاختلاف الأزمنة والأحوال. فالراديكاليون الإلغائيون عمدوا إلى تفكيك كل شيء حتى القرآن. والذين توقفوا أمام القرآن، قالوا إنه غريبٌ عن العرب والمسلمين الذين أخمدت كثرتُهُم أنفاسَه! واختار الماركسيون «المعتدلون» القيام بعملية انتقاء تحكمي بين التقدمي والرجعي: فالفلاسفة والمعتزلة والباطنية وإخوان الصفا وابن رشد وبعض ابن خلدون، تقدميون، والأشعرية والسلفية والمحدّثون والفقهاء رجعيون لا تُرجى من تذكُّر نتاجهم أو اعتباره فائدة! واعتبرت الفئة الثالثة نفسها أكثر رحمة، عندما قالت بالقطيعة المعرفية على طريقة ميشال فوكو: فهناك بعض التراث الذي يمكن اعتباره إنما في زمانه ومكانه، ولا علاقة له بزماننا ومكاننا في عالم اليوم لاستحالة ذلك! ويتصل الاستنتاج الثاني بالأول على نحوٍ ما؛ فالفئات التي سادت وحكمت في بلدانٍ عربيةٍ رئيسية، كلّها فئات جديدة، لا تعتبر نفسها جزءًا من مجتمعاتها التاريخية. وهي تعرف أو تعي أنّ الماضي أو التاريخ لا يمكن إلْغاؤه؛ ولذلك كانت هناك مساعٍ حثيثة لاستحداث ماضٍ وتاريخٍ آخر، تحضُرُ فيه هي، وتغيبُ عنه الأمة وموروثاتها. وفي الحالتين، أي حالة المثقفين الحداثيين، وحالة الأنظمة السائدة، ما كانت هناك هِمَمٌ لمشروع طويلٍ الأمد حتى لو كان تاريخا قوميا، ما دام المطلوب هو السوادُ في الحاضر، وتعدية ذلك الحاضر إلى الماضي التصوري الذي لا يحضُرُ فيه غيرها. لقد أُنتج تاريخٌ موهوم، وأُنتجت ثقافةٌ موهومة قيل إنها حداثيةٌ أو تقدميةٌ أو تنويرية.

إنّ ما نحتاج إليه من الناحية العلمية بالفعل هو «التاريخ الثقافي». وهذا التاريخ لا يفيدنا فيه الحداثيون ولا الإسلاميون. فالحداثيون لا يريدون هذا الماضي كلَّه ولو على سبيل التأريخ. والإسلاميون يعتبرون الأمر ليس تاريخا بل هو حاضرٌ يستنصرون به للسيادة والسواد في الزمن الطالع. وبسبب هذا الوعي الإشكالي لدى الطرفين، حفل نصف القرن المنصرم بالثَنائيات والتقريظيات للإسلام من جانب الإسلاميين، وبالراديكاليات المُلْغية من جانب الحداثيين. ووسط أجواء كالتي وصفناها، كيف كان من الممكن كتابة تاريخ ثقافي للأمة، تاريخ فاهم وليس مؤدلجا لصالح هذه الفئة أو تلك في الحاضر؟! والتاريخ الفاهم هو شأن الموسوعات ودوائر المعارف وعملها ووظائفها، ولذلك ما كانت كتابتها ممكنة من جانب الطرفين، في المرحلة المنقضية!