وإذا مرضت فهو يشفين

د. عائض القرني

TT

مكثت شهرا في صحبة والدي المريض شفاه الله وعافاه، وحمدت الله كثيرا على نعمة العافية، لكنني استنتجت أن آباءنا في الغالب أكثر تدينا وعبادة واستعدادا للآخرة منا، وقد كنت مع والدي أحيانا وهو على السرير الطبي، لا يفتر لسانه من ذكر الله ولا تهدأ أصابعه ولا تسكن من الإشارة بالإله إلا الله، وذكرت بهذا مشاهد عشتها مع مرضى من الأخيار الأبرار، فقد زرت في المستشفى بأبها سماحة الشيخ العلامة عبد الله بن يوسف الوابل، رحمه الله، رئيس محاكم عسير سابقا، فوجدته على السرير بالمستشفى يعقد أصابعه بالتسبيح طيلة الوقت كأنه يسبح بعد صلاة الفريضة، ولن تتوقف شفتاه عن ذكر الله، وكان عجبا في ذلك، بل لم أر في حياتي على الإطلاق أكثر ذكرا لله منه، وهو من زملاء وأقران سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، وكنا إذا زرنا ابن باز في الرياض يقول بعضنا لبعض جريا على العادة إن أول سؤال سوف يسألنا إياه الشيخ بن باز: كيف حال الشيخ ابن يوسف الوابل؟ ثم يحدثنا الشيخ ابن باز عن كثرة ذكر ابن يوسف لله، وكيف سهل الله له هذا العمل.

وفي المدينة المنورة زرت شيخنا العالم الرباني عبيد الله الأفغاني، الذي جوّدتُ القرآن عليه بأبها فوجدته على السرير يناجي ربه ويدعو مولاه مستغرقا في الذكر، وإذا رأيته تذكرت سُنة الرسول عليه الصلاة والسلام، وقد وفد إلى السعودية من كابل بعد رؤيا رآها للرسول صلى الله عليه وسلم وكأن هناك من يدعوه إلى بيت الله الحرام ويتلو عليه «إنا فتحنا لك فتحا مبينا»، فيرتحل بأهله إلى السعودية ويلتقي بالعلماء، فيلزم المسجد خمسين سنة ليلا ونهارا يعلّم كتاب الله.

وممن زرتهم في مرضهم جاري بالرياض، بل أنا جاره بالرحمانية، الوالد الشيخ العابد الزاهد الولي عبد الله بن راشد التويجري الذي بلغ التسعين، وهو مَنْ إذا رأيته ذكرتك رؤيته بالله عز وجل، وكان من أقرب المقربين من سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ مفتي الديار السعودية، وكنا إذا زرناه أو حضر مجلسا افتتح المجلس بحديث «كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن.. سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم»، وكان كبار العلماء يزورونه كالشيخ ابن عثيمين، والشيخ صالح الفوزان، وكان سليم القلب طاهر النفس سريع الدمعة رضي الأخلاق بساما كأن وجهه ورقة مصحف من قيام الليل وكثرة العبادة والتلاوة، وبعدما عاد الشيخ ابن عثيمين من أميركا بعد مرضه العضال زار الشيخ عبد الله التويجري في بيته، ولقيت الشيخ ابن عثيمين عنده، فقال الشيخ ابن عثيمين ملاطفا: ما أخبار الشعر يا فلان؟ (يقصدني).. فقلت مناسبة للموقف مستشهدا ببيتي أبي الطيب المتنبي في مرض سيف الدولة:

«المَجدُ عوفِي إِذ عوفِيتَ وَالكَرَمُ.. وَزالَ عَنكَ إِلى أَعدائِكَ الأَلَمُ وَما أَخُصُّكَ في بُرءٍ بِتَهنِئَةٍ.. إِذا سَلِمتَ فَكُلُّ الناسِ قَد سَلِموا»..

ومن ألطف ما قيل في المرض قول الشهرزوري الشاعر الأعجوبة:

«مَرِضَ الْحَبِيبُ فعدتُّه فَمَرِضْتُ ِمْن خَوْفِي عَلَيهْ وَأَتَى الْحَبِيبُ يَزُورُنِي فَشَفِيتُ مِنْ نَظَرِي إِلَيهْ»..

ودخل الصحابة على أبي بكر الصديق وهو مريض فقالوا «ألا ندعو لك طبيبا؟»، فقال «الطبيب قد رآني»، فقالوا «ماذا قال؟»، قال «إني فعال لما أريد»، فنظمها بعضهم فقال:

«كيف أشكو إلى طبيبي ما بي.. والذي قد أصابني من طبيبي؟»..

ومن أجمل قصائد المتنبي على الإطلاق ميمية الحمى الرائعة الذائعة التي يقول فيها:

«وَزائِرَتي كَأَنَّ بها حَياءً.. فَلَيسَ تَزورُ إِلا في الظَلامِ بَذَلتُ لَها المَطارِفَ وَالحَشايا.. فَعافَتها وَباتَت في عِظامي أَبِنتَ الدَهرِ عِندي كُلُّ بِنتٍ.. فَكَيفَ وَصَلتِ أَنتِ مِنَ الزِحامِ؟»..

والمرض تنبيه وكفارة وطهارة وتذكير بالصحة وكسر للنفس الأمّارة، وهو في حق المؤمن أجر ومثوبة وتطهير من الخطايا وحط من السيئات كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم «لا يصيب المؤمن من هم ولا وصب ولا نصب ولا مرض حتى الشوكة يشاكها إلا كفّر الله به من خطاياه» (متفق عليه).. والمرض في القرآن ثلاثة أقسام: مرض شبهة ومرض شهوة ومرض بدن.. فمرض الشبهة هو مرض الكفر والنفاق كما قال تعالى «فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا»، ومرض الشهوة هو مرض التطلع للفواحش كما قال تعالى «فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ»، أما مرض البدن ففي قوله تعالى «فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ»، وأشدها وأفتكها وأخطرها مرض الشبهة لأن مصير صاحبه إلى النار، ومرض الشهوة يرجى لصاحبه العافية بالتوبة، أما مرض البدن فأجر وعافية ورحمة وطهارة وغسول وكفّارة، وأقول للمرضى على الأسرة البيضاء: لا بأس طهور إن شاء الله.. نسأل الله لكم العافية والشفاء العاجل مع الأجر الآجل.. ونقول للأصحاء حافظوا على الصحة بطاعة الله واجتناب ما يضاد الصحة وما يحارب العافية من مطعوم ومشروب، ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة، واسألوا الله العفو والعافية.