العروبة والإسلام في سياق المواطنة المصرية

محمد حلمي عبد الوهاب

TT

ترتب على تعدد المفاهيم المتعلقة بكل من الهوية ودوائر الانتماء في الحالة المصرية، بروز الكثير من الأدوار الثقافية والسياسية والاجتماعية - تبعا لتحديد مفهوم الهوية - على صعيد المجتمع المصري في الحاضر والمستقبل معا. ونتيجة لذلك فقد عالج كل تيار من التيارات الفكرية المصرية الرئيسية هذه المسألة على حدة، محاولا أن يستجلي غوامضها ويوضح تفاصيلها.

ومن الثابت تاريخيا أن الفكرة العربية في مصر لم تطرح - كما هو الحال بالنسبة للمشرق العربي - كقطب آيديولوجي مستقل ضمن مشروع لتأسيس دولة عربية حديثة تنفصل عن السيادة العثمانية. وذلك بسبب السمات الخاصة للتكوين الاجتماعي المصري، فضلا عن تراث الوحدة الجغرافية والكيان الواحد الذي ساعد على ربط «الفكرة القومية» بمصر «الوطن»، وبمفهوم الكيان السياسي الواحد.

ولاحقا، حين قام عبد الناصر ومن معه بانقلاب عسكري في يوليو (تموز) 1952، أدت السياسات التي اتبعتها حكومة ما سمي بالثورة - خلال الخمسينات والستينات من القرن الماضي - إلى تحديد مفاهيم الفكر السياسي والاجتماعي للسلطة الحاكمة. وتبعا لذلك أصبحت «العروبة» - وفي القلب منها المشكلة الفلسطينية - منهجا أساسيا في سياسة الحكم، لدرجة أن تحددت على أساسها علاقات مصر الخارجية! وضمن هذا الإطار نص دستور عام 1956، في مادته الأولى، على أن «مصر دولة عربية مستقلة ذات سيادة»، وأن «الشعب المصري جزء من الأمة العربية»، الأمر الذي كان جديدا على الحياة المصرية، إذ لم تكن العروبة قبل ذلك جزءا من سياسة الحكم، على الرغم من عضوية مصر في جامعة الدول العربية، ودورها التاريخي في وضع النظام الأساسي لتلك الجامعة.

ونتيجة لذلك، أثار هذا الوعي بالعروبة - في إطاره الجديد - تساؤلات كثيرة من عدة روافد ثقافية حول حقيقة «هوية المصريين»، وما إذا كانت مصر عربية، أم إسلامية، أم فرعونية - قبطية، أم أنها أورومتوسطية! وقد أدى ذلك كله إلى اصطراع هذه الروافد على الساحة الفكرية، وراح كل منها يحاول إثبات صحة فروضه في ما يتعلق بهوية مصر صيانة لماضيها، وحماية لحاضرها ومستقبلها! وعلى هذا انتشرت مقالات «العروبة» وسادت موجة التغني بها، لدرجة أنها أصبحت فائضة!! وتبعا لما يقوله الدكتور عاصم الدسوقي في دراسته «جدل الهوية والمواطنة في مصر في النصف الثاني من القرن العشرين»، فقد ظهر الوعي بالعروبة مبكرا في بدايات عام 1956 حين كتب محمد مصطفى عطا كتابه «نحو وعي جديد»، الذي يستعرض فيه التاريخ العربي المعاصر، وكيف أن الغرب الأوروبي قد تلاعب بمصير العرب، وعمل على تفتيت قواهم، داعيا في نهاية كتابه إلى «قيام اتحاد عربي مكين يواجه الأحلاف المطروحة على الساحة العربية»! وفي السياق ذاته كتب علي رفاعي محمدي، مفتش الوعظ العام بالأزهر، كتابه «وحي النهضة الوطنية في الخطب المنبرية»، مؤكدا أن ثورة مصر قد أيقظت وعي العرب، لأن مصر دائما كانت محط آمالهم، وأن المستعمر الأوروبي استطاع أن يفرق بين من جمعهم الدين والجوار واللغة والمصالح المشتركة. لكن، ولأن الله يأبى إذلال أمة الإسلام فقد قيض فتية من شباب مصر آمنوا بها وقاموا بالثورة! وفي عام 1957 كتب مصطفى عبد اللطيف السحرتي كتابه «آيديولوجية عربية جديدة» يمضي فيه على الدرب ذاته بالقول إن مصر قد ولدت بعد الثورة بوعي جديد، فنالت بجهادها الحاضر استقلالها، وعمت أرجاءها روح القومية العربية، وإن الآيديولوجية العربية تتواءم مع التطور التاريخي لمصر وخصائصها الوجدانية والروحية والثقافية، فضلا عن أنها (القومية العربية) تمتاز على خمس آيديولوجيات أخرى تحوم حول مصر مختلفة في ما بينها، متضاربة ومتصارعة، ألا وهي آيديولوجية طائفية رجعية متزمتة، وآيديولوجية غربية مادية قناصة، وآيديولوجية اشتراكية ديكتاتورية متطرفة، وآيديولوجية أميركية محاربة! ولم يقف الأمر بطبيعة الحال عند هذا الحد، وإنما توالت الكتابات بصورة لافتة، خصوصا بعد إعلان وحدة مصر وسوريا في عام 1958. فقد كتب إسماعيل القباني عن «الوحدة الثقافية العربية» (1958)، وكتب حسين نصار عن «مصر العربية» (1960). وفي العام نفسه كتب صلاح عبد الصبور كتابه «أفكار قومية»، وكتب علي حسني الخربوطلي كتابه عن «المجتمع العربي». كما كتب لمعي المطيعي كتابا يحمل العنوان نفسه «المجتمع العربي»، وكتب إميل شوقي كتابه المعنون «في مجتمع عربي جديد»، وبالمثل كتب منير الشريف في «حب العرب لقوميتهم»، ثم نشرت دراسة أكاديمية عن «الأدب في ظلال القومية العربية» بإشراف محمد قدري لطفي. وهكذا أصبحت الكتابة عن العروبة بمثابة هاجس للمثقفين، سواء من كتبوا عن إيمان بها، أو من باب الزلفى للوسط الحاكم! غير أن اتجاه الرئيس الراحل محمد أنور السادات إلى الاتفاق مع إسرائيل من باب «الواقعية» كان خروجا على الإجماع العربي الذي هز بشدة بناء الهوية العربية لمصر، التي كانت سمة الخمسينات والستينات، وأصابها بشروخ عميقة، لدرجة أن مصر أصبحت تتصرف في المسائل العربية تصرف الدول المراقبة من الخارج! ولقد صادف هذا التوجه الجديد هوى في نفوس بعض المثقفين المصريين الذين استعادوا رابطة البحر المتوسط كما نادى بها طه حسين في كتابه «مستقبل الثقافة في مصر» (1938)، ورموا العرب بالجهل والحماقة وعدم التحضر! وكان في مقدمة هؤلاء حسين فوزي الذي أخذ يتكلم عن أن الصراع مع إسرائيل صراع حضاري في المحل الأول بين التقدم والتخلف! كذلك كتب توفيق الحكيم ولويس عوض أثناء مفاوضات كامب ديفيد بين السادات وإسرائيل! وأصبح التطبيع مع إسرائيل مسألة جدلية أخرى شقت صفوف المثقفين المصريين على مستويات عدة! ونتيجة لذلك أدت هذه التصرفات إلى إلقاء ظلال من الشكوك حول «عروبة مصر» التي لم تتحصل منها على أية فائدة إلا الفشل والخسارة! وراجت الأفكار التي تقول إن مصر خسرت كثيرا بعروبتها، وإنها أقحمت نفسها في ما عاد عليها بالضرر، مثلما تجدد الحديث عن حقيقة الهوية المصرية!! وفي الأحوال كلها يرصد بعض الباحثين ثلاث جولات من الحوار الناري حول «عروبة مصر» منذ الثلاثينات وحتى نهاية السبعينات من القرن الماضي:

الحوار الأول: تم في نهاية الثلاثينات، وكان قطباه كل من طه حسين وساطع الحصري، حيث نشر حوار للأول بمجلة «المكشوف» البيروتية أكد فيه مصرية المصريين، فجاء رد الحصري قويا في مقال له نشر بمجلة «الرسالة» عام 1938، أكد فيه عدم مطالبة المصريين بالتنازل عن مصريتهم، وإنما المطلوب منهم فقط أن يضيفوا إلى شعورهم المصري الخاص شعورا عربيا عاما، وأن يعملوا للعروبة بجانب عملهم للمصرية! أما الحوار الثاني فدار في مطلع الخمسينات ووصل إلى قمته أثناء الإعداد للدستور الجديد أواخر عام 1955، وانتهي بنص الدستور على «عروبة مصر».

وفجّر توفيق الحكيم ولويس عوض وحسين فوزي موجة الحوار الثالث في عام 1978، الذي استمر لمدة ثلاثة شهور، بدأ بمقال للحكيم يدعو فيه إلى حياد مصر تجاه المشكلات العربية السياسية، ودعوتها لأن تتفرغ للقيام بدورها الحضاري الخالص! يتحصل مما سبق أن علاقة المواطنة المصرية بالأفق العربي قد بدأت من خلال الفتح الإسلامي، حيث ترتب على دخول المصريين الإسلام بروز أبعاد هذه العلاقة بينهم وبين الدولة الإسلامية. ثم حدث تحول نوعي مهم منذ عقد الثلاثينات في القرن الماضي، حيث بدأت الدائرة العربية تحتل مكانة واضحة في نطاق الاهتمام المصري.

وقد نتج عن ذلك الاهتمام التزام مصري على المستويات الرسمية والشعبية والفكرية كافة تجاه «العروبة وقضاياها السياسية». ثم حدث نوع من التراجع في السبعينات، رافقه إحساس بالمرارة تجاه موقف العرب من مصر، ومن ثم شعر المواطن المصري أنه في الوقت الذي أوفى فيه بالتزاماته العربية كمواطن عربي لم توفر له الدائرة العربية الحقوق الملائمة في مقابل ذلك. وأخيرا كشفت حقبة السادات عن خبرة مهمة في مجال علاقة مصر بالدائرة العربية، فبقدر ما كشفت سنوات القطيعة عن عجز العرب من دون مصر عن مواجهة المخاطر الداخلية والخارجية، بقدر ما أدركت مصر محدودية المشروع الخاص بها بعيدا عن أمتها العربية.

ومع عودة الطرفين بعضهما إلى بعض في الثمانينات بدأت مرحلة جديدة من التفاعل بين مصر والدائرة العربية، لكن ذلك لم يمنع استمرار حدوث سلبيات في تعامل المواطن المصري مع الدائرة العربية! أما في مطلع التسعينات فقد تعرضت الشخصية القومية لتحدٍّ جديد، ألا وهو العولمة التي تمثل - بحسب البعض - خطورة على الهوية القومية لبلادنا العربية. ومن ثم أصبح جدل الهوية والمواطنة ثلاثي الأبعاد بحيث يشمل كلا من العروبة، والإسلام، والعالمية الجديدة.. وتلك قضية أخرى!

* كاتب مصري