المواطنة المصرية والوعي بالإسلام

محمد حلمي عبد الوهاب

TT

في الوقت الذي وجدت فيه الفكرة العربية أنصارا لها، باعتبارها محددا لشخصية مصر العربية، انطلقت أقلام أخرى تتحدث عن الوحدة والهوية الإسلامية. ففي عام 1958 (عام الوحدة المصرية - السورية) كتب الشيخ محمد أبو زهرة كتابه «الوحدة الإسلامية»، مثلما ألف الشيخ أحمد حسن الباقوري كتابه «العروبة والدين» في إطار من الوسطية الفكرية التي تمزج بين العروبة قوميا والإسلام دينا، وتوحد بينهما، بل وتقرن الإسلام بالعروبة والعروبة بالإسلام، وتقول بالحضارة العربية الإسلامية.

وضمن التوجه الأخير، أصدر المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، بعد موت عبد الناصر، كتابا بعنوان «جمال عبد الناصر بطل العروبة والإسلام»، وفي إطار التوازنات نفسها كتب عيادي العيد العيادي في عام 1958 كتابه «المسيحية والقومية العربية»، مثلما كتب شفيق الحوت في عام 1959 كتابه «اليسار والقومية العربية».

أيضا كتب أستاذ علم الاجتماع الشهير، الدكتور علي عبد الواحد وافي كتابه «مشكلات المجتمع المصري والعالم العربي وعلاجها في ضوء العلم والدين»، وذلك في ما يتعلق بزيادة السكان، وعمل المرأة، والاختلاط، وتعدد الزوجات... إلخ، مناقشا تلك القضايا وطارحا حلولا لهذه المشكلات في ضوء العلم الديني، وليس العلم الوضعي وفق المعنى الاصطلاحي.

أما في عام 1959، فقد كتب السيد محمد أبو المجد عن «الوحدة العالمية في ضوء الإسلام»، منطلقا من أن الإسلام دين لا يختص بإقليم دون إقليم؛ وإنما ينظر إلى العالم كله نظرة موحدة، وأن الوحدة العالمية التي يريدها الإسلام إنما تقوم على امتزاج الأمم، واختلاط الشعوب لتبادل المنافع، وتشابك الأرحام، وتقارب الأنساب، بفعل الهجرات، حتى يصير الجميع أمة واحدة موحدة تلتقي قلوبها وعقولها في عبادة الواحد القهار.

في الوقت نفسه، انبرى المعارضون للاشتراكية للهجوم عليها، مقرنين إياها بالشيوعية وبالاستعمار والإلحاد!! ورأوا - على العكس - في الإسلام وديمقراطيته حلا مناسبا ومثاليا لمشكلات المجتمع، فكتب عباس محمود العقاد في عام 1956 كتابه «الشيوعية والإنسانية» لينفي عن الشيوعية الجانب الإنساني!! ثم كتب في العام التالي (1957) كتابه «لا شيوعية ولا استعمار»، مؤكدا أن الشيوعية استعمار يحيط بعيوب الاستعمار كله، وأن استعمارها ليس طارئا يمكن التخلص منه بعد فترة تقصر أو تطول؛ لأنها مذهب يقرر لأصحابه السيطرة على ثروة الأمة وعلى سياستها.

في السياق ذاته، أوضح محمد مصطفى عطا أن الاشتراكية وعدت الطبقة الكادحة بأن يكون لها في الحياة نصيب، أما الإسلام فقد وعد المؤمنين المتقين بالجنة وبحياة أفضل من الحياة الدنيا، كما أن الإسلام يدعو إلى الاتحاد وإنكار الذات والوحدة والتعاون وتضحية الفرد بنفسه في سبيل المجموعة.

وفي العام نفسه (1957) أعاد محمد عبد القادر العماوي طبع كتابه «هذا هو الإسلام»، مبينا مبادئ الإسلام في العدل الاجتماعي، وكذلك فعل محمد قطب في ما يتعلق بإعادة طبع كتابه «الإنسان بين المادية والإسلام».

كما كتب محمد عبد اللطيف السحرتي (1957) عن أهمية اعتماد الروح الديمقراطية النقية بعد تجريد الديمقراطية الغربية من نزعة التملك والاستغلال والاستعباد؛ لأنها تحترم كرامة الإنسان وتقر مبدأ الحرية والمساواة وتكافؤ الفرص في تهذيب الشخصية الفردية، لا التكافؤ في خدمة الدولة وطاعتها طاعة عمياء!! ومن الملاحَظ أيضا كثرة الكتابات، من منظور إسلامي، لمواجهة التيار الاشتراكي الذي أخذت به الدولة تحت شعار «المجتمع الاشتراكي التعاوني الديمقراطي»؛ ففي عام 1958 - بعد تأميم شركة قناة السويس (يوليو - تموز 1956) وبداية توجيه النشاط الرأسمالي - كتب عثمان خليل عن «الديمقراطية الإسلامية»، وإبراهيم علي أبو الخشب عن «الإسلام المظلوم»، وفي عام 1959 كتب مصطفى درويش كتابه «الإسلام في مواجهة الرأسمالية والاشتراكية».

كما كتب محمد عرفة ناقدا الشيوعية بعنف في كتابه «الإسلام أم الشيوعية؟!»، وفي عام 1960 كتب عباس محمود العقاد كتابه «الإسلام في القرن العشرين.. حاضره ومستقبله»؛ مثلما كتب لبيب السعيد كتابه «الشيوعية والإسلام»، وعبد الرازق نوفل «الإسلام دين ودنيا».

أما في عام 1965، وقت أن كانت الدولة قد أخذت فعليا بالتطبيق الاشتراكي بعد إنشاء القطاع العام بمقتضى قرارات التأميم الكبرى في يوليو 1961، فقد كتب عبد الرازق نوفل كتابه «الإسلام ونظم الحكم المعاصرة». وفي عام 1967 كتب خالد محمد خالد كتابه «لله وللحرية»، وفي عام 1970 كتب أحمد الشرباصي كتابه «بين الدين والدنيا»؛ مثلما كتب محمود الشرقاوي كتابه «الدين والدولة المصرية».

ثم ظهرت كتابات وسطية من قلب التيار الإسلامي لا ترى في الاشتراكية تناقضا مع الدين! ومنها، على سبيل المثال لا الحصر، ما كتبه أحمد شلبي (1966) بعنوان «الاشتراكية.. دراسة علمية نقدية يدعمها اليقين الروحي»، وكذلك كتاب مصطفى الهمشري «مع الدين في سبيل الاشتراكية» (1967).

أما في السبعينات، فقد حدثت مجموعة من التحولات السياسية والاقتصادية كان لها تأثيرها على سؤال الهوية والمواطنة. وتبعا لذلك، عادت الفكرة الإسلامية من جديد لتنازع الفكرة العربية التي كانت قد استقرت، إلى حد بعيد، طوال عقدي الخمسينات والستينات من القرن الماضي.

وبالتالي بدا أن مصر آخذة في التخلي عن عروبتها تدريجيا، خاصة بعدما أقدم السادات على زيارة إسرائيل (نوفمبر – تشرين الثاني 1977)، ومضى في طريق التسوية السياسية للصراع العربي - الإسرائيلي، منتهيا بتوقيع اتفاقية السلام في مارس (آذار) 1979.

وعندئذ انقسم ولاء المصريين بين الاتجاه الإسلامي من جهة والاتجاه العربي من جهة أخرى. فأصدر اتحاد طلاب هندسة القاهرة في عام 1972 كراستين، الأولى بعنوان «الإسلام عقيدة وحياة»، والثانية بعنوان «إلى أين نحن مسوقون؟»، وفي عام 1972 أيضا كتب أحمد كمال أبو المجد كتابه «الفكر الديني وبناء المجتمع العصري»، كما كتب عبد الكريم الخطيب كتابه «الإسلام ومواجهة العصر وتحدياته»، وكتب عبد العزيز كامل كتابه «الإسلام والعصر»، وكتب أنور الجندي «مشكلات الفكر المعاصر في ضوء الإسلام».

أما في عام 1974، فقد أعاد السيد محمد ماضي أبو العزايم طبع كتابه «الإسلام وطن والمسلمون جميعا أهله»، وفي عام 1977 كتب محمد عزت إسماعيل الطهطاوي كتابه «النصرانية والإسلام.. عالمية الإسلام ودوامه إلى قيام الساعة»، وفي 1978 كتب الشيخ محمد الغزالي كتابه «حقيقة القومية العربية وأسطورة البعث العربي».

وبموازاة ذلك، بدأت مشاعر «الفتنة الطائفية» تتصاعد؛ حيث أحرقت كنيسة الخانكة (1972)، ثم كنيسة سمالوط (1979)، وانتهت بحوادث الفتنة والشغب الكبرى في منطقة الزاوية الحمراء (يونيو – حزيران 1981) والتي خمدت مع اغتيال السادات (6 أكتوبر – تشرين الأول 1981) ولكن إلى حين!! وهكذا انشطرت الهوية والمواطنة المصرية إلى هويتين: واحدة إسلامية للأغلبية، وأخرى مسيحية للأقلية!! وعاد من جديد استخدام مصطلح «أهل الذمة» الذين يتعين عليهم دفع الجزية «عن يد وهم صاغرون»!! وفي المقابل، توارت الهوية العربية بعد أن انتقد السادات العرب بشدة بسبب موقفهم المعادي من التصالح مع إسرائيل!! وفي الثمانينات قويت الجماعات الإسلامية وعادت الأقلام «الإسلاموية» من جديد؛ ففي عام 1988 كتب جمال البنا «الإسلام هو الحل»، كما كتب أنور الجندي «إسلامية الثقافة»، وكتب محمود عبد الوهاب فايد «كفاحنا في مقاومة الشيوعية»، وفي عام 1989 كتب سعيد طه «الإسلام والشيوعية والرأسمالية»، مثلما كتب مصطفى حلمي «الصحوة الإسلامية عودة إلى الذات».

وقد امتدت هذه الكتابات طوال عقد التسعينات؛ حيث كتب أحمد شوقي الفنجري «كيف نحكم بالإسلام في دولة عصرية» (1990). وفي عام 1991 كتب يوسف القرضاوي «أولويات الحركة الإسلامية في المرحلة القادمة»، مثلما كتب الشيخ الشعراوي «الإسلام بين الرأسمالية والشيوعية»، وكتب محمد عبد الهادي المصري ضد العلمانية وموقف أهل السنة والجماعة منها، كما كتب محمد شاكر الشريف في الموضوع نفسه «العلمانية وثمارها الخبيثة»، وفي عام 1992 كتب محمد رشدي حمادي «البلاغ الأخير نحو قيام جمهورية الولايات العربية المتحدة – الاتحاد الإسلامي».

وحين كتب جابر عصفور كتابه «دفاعا عن التنوير» عام 1993، ثم «محنة التنوير»، وأعاد المجلس الأعلى للثقافة نشر المؤلفات العقلانية تحت شعار «المواجهة»، انبرى محمد إبراهيم مبروك ليكتب «مواجهة المواجهة.. المناقشة الإسلامية للأفكار العلمانية وكتب المواجهة».

في كتابه هذا يهاجم مبروك الأساس الفكري للعلمانيين المعاصرين في مصر، الذي يتمثل، برأيه، في ثلاثة كتب، هي: «الشعر الجاهلي»، و«مستقبل الثقافة في مصر» لطه حسين، و«الخلافة وأصول الحكم والسياسة» للشيخ علي عبد الرازق. ولذلك فإنه يتناول، بإسهاب بالغ، موقف الحركة الإسلامية، بمختلف أجنحتها، من إحدى عشرة مسألة، في مقدمتها: «العلمانية، والعقلانية، وتطبيق الحدود، والدولة الإسلامية والدينية والمدنية، والأقباط وموقعهم في الدولة الإسلامية»، معتمدا في ذلك على أفكار المدرسة الإخوانية، والإمام المودودي، وتنظيم الجهاد، والجماعة الإسلامية، وحزب العمل، ومن سماهم التجديديين المعاصرين، وفي مقدمتهم فهمي هويدي!! كما ناقش بشكل خاص كتابات كل من: غالي شكري، وجابر عصفور، ورفعت السعيد، وحسن حنفي، وحسين أحمد أمين، باعتبارهم علمانيين معاصرين!!

* كاتب مصري