في التاريخ المنسي لعلاقة الإسلام بالغرب

إميل أمين

TT

هذه قراءة في عمق التاريخ المنسي بين الإسلام والغرب، ذلك أنه وإن كان من الواضح أننا نعيش في عالم منقسم بفعل الخلاف المستمر بين المسلمين والمسيحيين واليهود حول العالم، إلا أن العلاقة بين الإسلام والغرب لم تكن دوما علاقة عدائية، إذ شهدت أيضا فترات كثيرة من التعاون والازدهار وعلى مدى القرون الأربعة عشر الماضية.

في كتابه «أهل الكتاب.. التاريخ المنسي لعلاقة الإسلام بالغرب» لمؤلفه زاكري كارابل، والصادر عن «دار الكتاب العربي»، بترجمة الدكتور أحمد ايبش تذكير بأسلوب تحليلي سردي رائع بأن هذه الأديان الثلاثة التي تقاتلت يوما ضد بعضها البعض، تعلمت أيضا الكثير من بعضها البعض، واسترجاع هذا التاريخ المنسي هو أمر ضروري جدا للوصول إلى عالم ينعم أكثر بالأمن والاستقرار.

في مفتتح هذا العمل البحثي الكبير تاريخيا وحياتيا تأكيد على أن كل واحد من الأديان الثلاثة ينطوي على بذرة سلام في داخله ففي داخل الكنائس عبر أقطار العالم بأسره يلتفت المصلون بعضهم إلى الأخر قائلين «سلام لك»، وكذلك ادخل أي متجر أو بيت أو مسجد في أي بقعة من العالم الإسلامي تلق التحية القائلة «السلام عليكم»، والجواب عليها دائما هو ذاته دوما «وعليكم السلام»، أما اليهود في إسرائيل فيبدأون الحديث ويختتمونه بتحية «شالوم (سلام)» المجردة.. فلماذا إذن حلت صورة العداوة أو تكاد بين الشرق والغرب؟

في تقدير كارابل أن الباحثين الثقات لم يغب عن نظرهم تراث التعايش المتقدم، فأي طالب في أغلب الجامعات يمكنه أن يتلقى حصصا أو يقرأ واحدا من آلاف الكتب والمقالات التي تطنب في ذكر ذلك، ولكن بشكل ما يبقى هذا الوعي الإيجابي حبيس مكتبات الجامعات أو محصورا في نطاق الدروس الجامعية.

ونتيجة لذلك فإن كل ما يسمع به الناس في أميركا وأوروبا هو أصداء الفتوحات الإسلامية وفي العالم الإسلامي تحجب ذكرى الاحتلال الإمبريالي والعدوان الغربي ذكريات التعايش والتعاون.

ما الذي يغذي علاقة الكراهية هذه بين الإسلام والغرب؟

يحصر الرجل الأمر في نقطتين: الجهل والذاكرة الانتقائية، ويرى أنه إذا غلبنا على مشاعرنا عوامل الكره والاحتقار والحرب والغزو، لا يعود في مقدورنا ملاحظة وجود أي طريق أخر نسلكه، وإذا اعتبرنا أن الدين هو المصدر الرئيسي للنزاع لا يعود بإمكاننا تحديد العوامل التي لا علاقة لها البتة بالدين.. هل هذه أحاديث نظرية مجردة؟

بالقطع لا، والجواب من الكتاب، أن الأميركيين على سبيل المثال ميالون إلى الاعتقاد، أنه ما لم يصبح المسلمون أقل إسلاما مما هم عليه ويميلوا أكثر إلى مفاهيم الغرب فإن الإرهاب والانتشار النووي والحروب تبقى أمورا لا مفر منها.

يطرح كارابل في سطور كتابه إحدى الإشكاليات الفلسفية التي تسبب التناحر حول العالم «إشكالية ملاك الحقيقة المطلقة»، وهي بدورها كانت سببا رئيسيا وراء نزعات عنصرية في القرن المنصرم أدت إلى قتل ملايين البشر.

والمقطوع به أن صراع المطلقات الدينية قد أثر ولا يزال على تراث التعايش السلمي بين أتباع الأديان الثلاثة حول العالم، مع الأخذ في عين الاعتبار أن ثلاثتهم يشكلون أقل من نصف عدد سكان العالم، ومن هذا المنطلق فهو يخلص إلى أن إعادة إلقاء الضوء بموضوعية وإيجابية، وبود وصدق خالصين، على تراث التعايش السلمي، وإن لم يجعل العالم آمنا بالمطلق، إلا أنه يؤدي في أضعف الإيمان إلى تبيان حقيقة مهمة هي أن الإسلام والغرب لا حاجة بهما إلى التشابك في رقصة الموت، فلقد عاش المسلمون والمسيحيون واليهود معا على نحو بناء مثمر، ولقد علم بعضهم البعض الآخر وتعلم بعضهم من بعض.

في سطور الكتاب لحظات نور وصدق لكاتب محايد فهو يلقي أضواء ساطعة على أحوال اليهود في العالمين العربي والإسلامي، حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، وكيف أن هؤلاء نعموا تحت الحكم الإسلامي بالأمن والحرية والحكم الذاتي على نحو أكبر مما نالوه على الإطلاق في ظل الحكم المسيحي، فلقد سمح نظام الحكم الإسلامي بالتعددية الدينية، ولم يلزم جانب الإصرار على محاولة تحويل أبناء الديانات الأخرى عن دينهم.

ومنذ صدر الإسلام كانت الدول المسيحية والإسلامية تتداول التجارة فيما بينها، وعبر أربعة عشر قرنا من الزمان حارب المسيحيون كجنود في الجيوش الإسلامية، ثم في القرن العشرين أضحى العرب المسيحيون أداة محورية لتكوين دول الشرق الأوسط المعاصر.

يأخذنا كارابل إلى نموذج التعايش الإسلامي المسيحي اليهودي في الأندلس، وكيف أن الربع فقط المعروف عن تلك العلاقة كان متسما بالعنف والكراهية، في حين أن ثلاثة أرباع المشهد مفقودة وقد تراوحت بين الأنفة والاحترام الضنين إلى التعاون الفعال لأهداف مشتركة وقد تضمنت الأهداف عادة متابعة المعرفة ومهمة ترجمة فلسفة العالم القديم وحكمته.

وفي الوقت ذاته أيضا كان هناك تعاون عابر بين فلاحي المسلمين والمسيحيين في الأندلس الذين كانوا في كثير من الأحيان يحتفلون بأعياد بعضهم، ويصلون جنبا إلى جنب، وكان كل واحد منهم يحتاج لحصاد جيد فرأوا أن ترديد المسيحي لصلوات المسلم وترديد المسلم لترانيم المسيحي، قد يساعد في نظرهم على ضمان نزول المطر وسقاية الأرض وحصاد الحبوب، وعليه فإن تحديد لحظات العنف ووصفها بأنها حقيقية ومعبرة عن التاريخ أكثر من سواها، يعد تحريفا وتشويها للتاريخ إلى درجة عدم التمييز ويصبح التاريخ جدليا.

من الأندلس يصحبنا كارابل إلى القسطنطينية ومحمد الفاتح السلطان العثماني الذي فتح عاصمة الروم «بيزنطة» الشرقية وقتئذ عام 1453، وقصته مع الحرية الدينية هناك كأحد أوجه التعايش الرافض لرقصة الموت على حد تعبيره.. ما الذي جرى هناك؟

لم يسع محمد الفاتح أن يخلي كامل المدنية من سكانها اليونان ومن أجل الحفاظ على حيوية المدنية فقد فعل محمد ما بوسعه ليؤكد للسكان أن حقوقهم ستبقى محفوظة، حتى إنه حاول أن يغري من بقي منهم بالعودة وعرض عليهم تعويض ممتلكاتهم التي تضررت أو دمرت.

وكحافز آخر وعد محمد بأنه لن يتدخل في الشؤون الدينية، غير أن بطريرك الكنيسة الأرثوذكسية كان خارج البلاد وقت سقوطها، لذا فقد أمر محمد موظفيه بأن يبحثوا في القسطنطينية عن شخص يستحق المنصب ووجد بالفعل راهبا يدعى «غيناديوس» كان معروفا بمعاداته القوية للسلطات السياسية في روما فأعلنه راعيا للكنيسة، وتمكن غيناديوس في وقت قصير من إثارة إعجاب السلطان فأحاطه الأخير بتقدير واحترام عظيمين، ومنحة الحق في زيارته في أي وقت وكرمه بمنحة حرية مخاطبته وفي يناير (كانون الثاني) عام 1454م قلد السلطان البطريرك منصبه، ومنحه السلطة على شؤون الحياة اليومية للسكان المسيحيين في المدينة «بما لا يقل عما كان عليه الأمر في زمن الأباطرة».

من الأندلس وبيزنطة إلى القرن العشرين إذ يحدد كارابل متغيرين أثرا بشكل عميق في تفاعل المسلمين والمسيحيين واليهود مع بعضهم في القرن العشرين، أما أولهما فهو الثورة العربية ضد العثمانيين، وثانيهما خلق دولة يهودية في فلسطين.

غير أن القارئ المحلل لما كتبه كارابل يدرك كيف أن نشوء دولة إسرائيل كان الحدث الفصل في العصور الحديثة، لتعكير صفو العلاقات الإسلامية الغربية مما قاد إلى استرجاع الماضي المضطرب في ضوء الحاضر.. كيف ذلك ولماذا؟

في تفكيك الفصل الخاص بـ«ولادة إسرائيل وعواقب نشوئها» بحسب كارابل، نجد إشارة مهمة للغاية تتمثل في أن الرؤية الغربية في عمومها الغالب لـ«التعصب الإسلامي» تستخدم صورة الصراع العربي الإسرائيلي لتصنف تاريخ الإسلام بأكمله، وأن مواقف العالم العربي المعادية بشدة للإسرائيليين منذ منتصف القرن العشرين تعود إلى ألف وخمسمائة سنة مضت، وأنه إذا كان العرب المسلمون الحاليون يكرهون أو يعادون دولة إسرائيل اليهودية فإن ذلك يعود إلى أحد المكونات الأساسية للإسلام.

وعلى الجانب الآخر توجد رؤية مقابلة، إذ يميل المسلمون إلى عدم التمييز بين الديانة اليهودية ودولة إسرائيل ونتيجة لكرههم لوجود إسرائيل فهم يزجون معها الدين اليهودي، وبالتالي ينسون التعايش مع اليهود الذي طالما وسم تاريخهم لمشترك.. ما الذي ترتب على هذه الرؤية المغلوطة ثنائية الأبعاد؟

مع تقدم إشكالية قيام دولة إسرائيل وحروبها مع العالم العربي بتزايد مستمر وحتى الساعة، بدا وكأن المسلمين واليهود بالإضافة إلى مسيحيي الغرب الذين تدرجوا من العلمانية الأوروبية إلى التعصب الأميركي أخذوا يعتبرون الصراع العربي الإسرائيلي كمرحلة أخيرة من حرب طويلة بين العقائد، وكان الاعتقاد السائد في العالم الغربي أن المسلمين لطالما عارضوا وجود اليهودية وغذوا العداء تجاه الغرب والمسيحيين على حد سواء.

أما في العالم العربي فقد أصبح وجود إسرائيل رمزا لضعف العرب، ودليلا على أن المصلحين والقوميين قد فشلوا في تحقيق هدفهم بإحياء مجد العرب.

يأخذنا تحليل كارابل هذا مأخذ الجد حال التطلع إلى سوء العلاقة بين عدد كبير من دول العالم الإسلامي والغرب، دول إسلامية تباعد آلاف الأميال بينها وبين فلسطين، لكن الاحتلال الإسرائيلي ومن سوء طالعه بات جاثما على أرض مقدسة بالنسبة للعالم الإسلامي أيضا، هذا هو حال مسلمي نيجيريا والهند وأفغانستان وباكستان وإندونيسيا والفلبين.

وباختصار كان ينظر إلى المشهد على أنه مأساة أنهت دفعة واحدة وللأبد أحلام الإصلاح والتطور وبالنسبة لكثير من مسلمي العالم القريب والبعيد لم يكن عام 1948 بداية بل نهاية، ومن داخل رماد الوعود الفاشلة انبثقت أفكار جديدة سوداء ومظلمة ويائسة سارت بشكل معاكس لقرون من التاريخ.

ماذا عن الحاضر واستشرافات المستقبل لا سيما في ضوء تعقد مسار الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي على نحو خاص وتصاعد مكاسب التيارات الإسلامية السياسية في المنطقة بعد ثورات ما عرف بالربيع العربي حتى الساعة؟ عند صاحب المؤلف المتميز أننا جميعا أسرى ثقافتنا بدرجات متفاوتة، وأنه مع بعض الاستثناءات يمكن القول إن الصورة الحالية للعلاقات ما بين المسلمين والمسيحيين واليهود هي صورة سلبية، وإن الاعتقاد بدوام وجود الصراع قد يرسخ بشكل عميق.. أين تكمن المشكلة إذن؟ هل هي رابضة بين ثنايا رؤيتنا للماضي، والوقوف عند مروياته المؤلمة وسردياته الحزينة؟

قد يكون ذلك بالفعل كذلك، فعندما تنظر أجيال المستقبل إلى النصف الثاني من القرن العشرين والعقود الأولى من القرن الحادي والعشرين، سنرى كما غير متسق من المعلومات، وما لم نحاول إيجاد قصص أخرى ذات طابع إيجابي خلاق، سوف ينطبع في أذهانهم - والعهدة على كارابل الراوي - أن هذه السنوات التي هي حاضرنا نحن الآن، قد اتصفت بحرب بين الحضارات، وبعداء متزايد بين المسلمين والمسيحيين واليهود، وسيقولون إن زماننا اتسم بتصاعد العنف فيه والأعمال الإرهابية والتفجيرات الانتحارية والخوف من استحواذ واستخدام جماعة ما لأسلحة الدمار الشامل.. من المذنب؟ وهل من مذنب فعلا؟.

تلقى خلاصة الكتاب باللائمة على المسلمين والمسيحيين واليهود، بسبب تركيزهم العنيد على الصراع إذ يميل كل فريق إلى تصوير الماضي وكأنه سلسلة من المهانات عانى منها على أيدي الفريقين الآخرين، والنتيجة الحتمية لذلك ازدياد التعصب الديني حول العالم الحديث.

يتحدث الروائي الفرنسي الكبير فيكتور هوغو ذات مرة بالقول «الأخطار الكبار فيها نوع من الجمال وهو أنها تسلط الضوء على أواصر الأخوة بين الغرباء».. أليس جديرا بالموحدين مسلمين ومسيحيين ويهودا البحث عن هذا الجمال الآن؟