مصر: ميثاق شرف لمحاربة «الانفلات» الدعوي لأئمة المساجد ودعاتها

بعد أن تحولت منابرها إلى مبارزة في التشدد الديني والتطرف السياسي

TT

في محاولة لمواجهة حالة الانفلات الدعوي التي عمت مساجد مصر في أعقاب ثورة «25 يناير»، وحتى لا ينصرف الدعاة عن المقصد الديني السليم إلى المقصد السياسي الذي تسيطر عليه لغة المصالح الحزبية والفئوية الضيقة، طالب علماء دين ودعاة في مصر بـ «ميثاق شرف للدعوة» للحفاظ على المنهج الوسطي والتصدي لتلون الأئمة على منابر المساجد، مؤكدين أن الهدف من الميثاق محاربة فوضى الخطاب الديني. وبرر مراقبون سبب المناداة بهذا الميثاق بأن المنابر عقب الثورة منحت شهادة ميلاد جديدة للأئمة الذين ظلوا قابعين تحت طغمة النظام السابق، يحددون لهم نوعية الخطبة، بشكل يخدم النظام ويتغاضى عن أخطائه وفساده.

واستهجن المراقبون أن يتحول مناخ الحرية بعد الثورة فوق منابر المساجد في مصر إلى ميدان للمبارزة بين الخطباء، وتحول الخطيب بدوره إلى محلل سياسي، وأصبح رأيه «حكما فاصلا» في الكثير من الأوضاع الداخلية والخارجية.

وكان عدد من الأئمة والدعاة في مصر وضعوا عدة نقاط لميثاق شرف الدعوة تضمن: «استحضار الخطر من المحاولات الدائبة لأعداء الفكر الإسلامي الوسطي، وضرورة العناية المتساوية بين الشكل والمحتوى للخطاب الدعوي، وعدم انشغال الداعية بالسياسة حتى تنتفع بنصائحه كل الشرائح، وكذلك عقد دورات للتدريب الإعلامي يحاضر فيها الأئمة المتمرسون بالأساليب المهنية في طرق توصيل المعلومة بشتى الوسائل التقنية الحديثة، وأن يكون الهدف العام للدعاة بناء الأمة على مبادئ الإسلام وقيمه وأخلاقه وثوابته المستندة إلى قطعية الثبوت والدلالة من النصوص الشرعية وتجنب الخلافات الفرعية والمذهبية، والتدقيق المجرد من الهوى».

كما لفت المراقبون إلى أن النظام المصري السابق لم يع خطورة المنبر والمسجد في توجيه الرأي العام، وأنه عقب اندلاع الثورة المصرية ظهرت لغة خطاب ديني متشدد وغريب في المساجد، لذلك وجب وضع منظومة محددة يلتزم بها الجميع على المنابر.

من جانبه، قال الدكتور نصر فريد واصل مفتي مصر الأسبق، عضو مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف، إن «الانفتاح السياسي الذي طرأ على الساحة المصرية بعد الثورة ودخول الجميع في معترك الحياة السياسية يحتاج لميثاق شرف دعوي للأئمة يحفظ عليهم العمل الدعوي، بحيث لا يسيس منبر الأزهر الوسطي المعتدل»، مشيرا إلى أن ميثاق شرف الدعاة أو الأئمة هو طريقة التوعية بأمور الدين والدنيا بما لا يختلط بهما، ويجب علينا أن نأخذ من أهل الاختصاص ونبين الحكم الشرعي بما يجب وما يكون لصالح الحاكم والمحكوم والسلام المحلي والعالمي.

وأضاف الدكتور واصل «لا بد على الداعية أن يكون حافظا لكتاب الله ومتقنا للغة العربية ويعرف الأحاديث النبوية ومواطن الاستشهاد بالنسبة للحوادث والوقائع وتنزيلها على حكم الله وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم، فيما لا يقبل الاجتهاد في معرفة الحكم الشرعي من خلال البحث والدراسة لأئمة الفقه للمذاهب، اعتمادا على ما يراه راجحا للأقوال، ومناسبا للعباد والبلاد ويبتعد عن التشدد لرأي فقهي ومذهبي دون رأي آخر»، قائلا: «التعصب ليس من الإسلام في شيء».

وقال مفتي مصر الأسبق: على الأئمة الالتزام بالمعايير الشرعية وأن يحترم الإمام نفسه أولا، وألا يستدل بغير الله سبحانه، وأن يكون متواضعا في علاقته بالناس وأن يساويهم وينزل كلا منزلته، كما قال صلى الله عليه وسلم «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يُوَقِّرْ الْكَبِيرَ، وَيَرْحَمْ الصَّغِيرَ، وَيَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ».

وقال الداعية الشيخ حسن الجنايني، إن «التغيرات السياسية التي شهدتها مصر تركت مجالا واسعا أمام الدعاة والأئمة خلال الفترة ما بعد الثورة وأصبح الأئمة مستيقظين سياسيا، لأن معظمهم ينتمون إلى أحزاب سياسية»، مشيرا إلى أن هذا ليس عيبا؛ ولكن العيب والخطر الكبير أن يؤثر الانتماء السياسي على الفكر الوسطي، وبالتالي نجد خطابا دينيا موجها وملونا في كل المساجد.

وأوضح الجنايني أن «وضع ميثاق شرف للدعوة حتى لا تتلون المساجد بالألوان السياسية وحتى لا يكون ولاء الإمام لحزبه السياسي أكثر من ولائه للفكر الوسطى»، مؤكدا أنه بعد ذلك لا يكون هناك لوم على الأئمة، إذا تحولت منابر الأزهر والأوقاف في مصر إلى منابر في دول خارجية، مضيفا: أن «من مصلحة القائمين على الأزهر أن يبادروا بهذه المطالبة وأن يهتموا بقواعد المهنة وبعدها المهني، حتى نبني الفكر الوسطي للأزهر، وأن يخلع الإمام عباءة الحزب ويرتدي عباءة الأزهر في خطبه».

وقال الشيخ محمد شديد عضو نقابة الأئمة والدعاة بوزارة الأوقاف المصرية، لا بد قبل أن نضع ميثاقا للشرف الدعوي أن يكون للإمام حصانة كحصانة القاضي ونائب مجلس الشعب (البرلمان) خاصة في هذا العصر الذي تتمتع فيه كافة المهن بالحرية الكاملة والحصانة العارمة وأهمها رفع قبضة الأمن من على الدعاة خاصة والشعب عامة.

وأشار الشيخ شديد إلى أنه لا بد من القضاء على المعوقات التي تجعل الإمام غير قادر على مواكبة العصر وتثقيفه من عوائق مادية حتى يستطيع أن يوفر مقومات التثقيف، مضيفا أن مشاكلهم مرتبطة بمشاكل الوطن، وتلك الأزمة العاصفة التي يمر بها، غير متناسين لواجبهم المقدس في الدفاع عن هويته مدركين حجم الأخطار المحيطة به، متلمسين أن يكشفوا للأمة الطريق الذي اعتراه الضباب من كل جانب وهم يرون كل فرقة تتناحر لتفوز بشيء ثمين أو مكانة زائفة، متمسكين بقول المولى سبحانه: «وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ».

وأضاف أن الأئمة والدعاة التمسوا ميثاق شرفهم من رحاب بيت العلم الذي حافظ على الإسلام أكثر من ألف عام وذلك المنهج الوسطى السمح، متعلمين منه قبول الآخر أيا كانت آراؤه ومعتقداته والتعايش معه، مؤمنين بأن الحقيقة تحتمل أوجها متعددة وأنه فوق كل ذي علم عليم، قائلا: إن «الأئمة أصحاب قدم راسخة ومكانة يبحث عنهم أصحاب السلطة كلما حزبتهم الأمور ليعيدوا لهم الدفة».

وأكد الدكتور خالد عبد العال أستاذ مساعد بكلية أصول الدين جامعة الأزهر الشريف بالقاهرة، أن العنصر الذي يجب البدء به للإصلاح هو بناء لبنات الأمة بناء نفسيا وروحيا، وصنع الرجال الذين يرفعون البنيان على أسس قوية وراشدة، وهو عنصر لا يختلف حوله عاقل أو باحث، مشيرا إلى أن قوة الأمة مرتبطة بقوة أبنائها، وأن الأهم في تحقيق هذا الهدف هو من يقوم بهذا البناء، وأول ما تتجه إليه الأنظار والأفكار هم الدعاة المتفقهون المخلصون المقتدون بسيد المصلحين وخاتم النبيين، الملتزمون بميثاق شرف لهذه المهمة الجليلة.

وأضاف أن الإصلاح لا يأتي إلا ممن يطبقه على نفسه، كما قال خطيب الأنبياء سيدنا شعيب: «وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ».

إلى ذلك، أكد الدكتور علي نجار، بكلية الشريعة جامعة الأزهر، أن السياسة جزء لا يتجزأ من الدين، لأن الدين الإسلامي يختلف عن غيره من الشرائع في أنه منهج للدين والدنيا والحياة، موضحا أن المسجد هو لب الحياة الدينية والسياسية.

وأوضح نجار أن المسجد كان له دور كبير في الحياة السياسية، ضاربا مثلا بمسجد الجامع الأزهر الذي اعتبره لؤلؤة المساجد في مصر، بقوله: «جامع الأزهر تاريخيا كان مستقرا للثورات والثوار في تاريخ مصر»، واستطرد قائلا: «لكن المسجد كان له تاريخ سياسي سيئ في فترة حكم مبارك»، لافتا إلى أن النظام السابق لم يلتفت إلى خطورة المنبر والمسجد في توجيه الرأي العام، وظهر وقتها الفكر الجهادي الذي غير وجه الأحداث في مصر.

لكن نجار قال: «على الرغم من عودة المساجد إلى دورها السياسي، فإن هناك أزمة الآن في الدعاة الذين يتحدثون من على منابر المساجد، وهما نوعان: الأول مسيس بالكامل، يستهويه تيار سياسي معين ويأخذ الرأي العام إليه، ويمثله دعاة الإخوان أو التيار السلفي أو الجماعة الإسلامية. والنوع الثاني وهم دعاة وزارة الأوقاف والذين لا يجيد بعضهم التحدث في أمور الدين والسياسة. وتابع: «من هنا يظهر الفرق بين التيارين، لذا فميثاق الشرف ضرورة حتى تستقيم دفتا الميزان لصالح الوطن والدين معا».