الدين والمؤسسة الدينية بعد الثورات

رضوان السيد

TT

يذكر علماء الدين أن له أربعة أركان أو قواعد: الفكرة العليا أو الألوهية، والعبادات، والمنظومة الأخلاقية والسلوكية، والمؤسسة الدينية. بيد أن العلماء المسلمين قديما وحديثا ينكرون أن تكون «المؤسسة» جزءا ضروريا من الدين، لدى أهل السنة والجماعة على الأقل. وبالفعل هناك ملاحظتان في هذا الشأن: أن المؤسسة الدينية تتمتع في بعض الأديان بصبغة قدسية باعتبارها «تدير شؤون الخلاص للمؤمنين». وهذا الأمر غير متوافر في الإسلام. والملاحظة الثانية أن التاريخ الأول للإسلام ما شهد مؤسسة أو إدارة دينية، وإنما كان هناك علماء بالقرآن أو بالسنة، وأنهم كانوا يؤمون في الصلوات الجامعة، ويستفتي الناس بعضهم فيفتون وإن تكن الفتاوى غير ملزمة. ويقال إن المتكلمين، وهم الذين اهتموا بالمسائل الاعتقادية في الدين، وبالجدالات مع غير المسلمين - كانوا هم الفئة الأولى التي تفرغت للعناية بالشأن الديني. لكننا نعرف أنه إذا كان هؤلاء متطوعين إذا صح العبير؛ فإن الفئات التي حظيت بالاحترام العام والخاص هي فئات الفقهاء ورواة الحديث والسنة، وعلماء القرآن. وقد بدأ الأمر بالتدريس في المساجد، ورواية الحديث فيها، وتعليم قراءة القرآن وتفسيره كذلك. وسرعان ما برز «الفقهاء» باعتبارهم الفئة الأكثر التصاقا بفكرة المؤسسة، وإن لم يفرضها الدين، ولا صنعتها السلطات. وربما ما تميزت تلك الفئة إلا بظهور القضاة من بين صفوفها، ثم ظهور المذاهب الفقهية، والتنسيق مع الدولة في بعض الشؤون، وصولا إلى اعتبار الفقهاء «علماء الإسلام»، وورثة الأنبياء بحسب الأثر المعروف. ومع أن الأمور ما كانت على قدر كبير من الوضوح؛ فإن الفقهاء لعبوا في تلك الحقبة دورا يشبه «السلطة التشريعية»، لأن تلك النتاجات الفقهية هي التي كان يحكم بها القضاة، كما أنها كانت تتحكم بالكثير من التنظيمات المدنية وليس الدينية فقط في دار الإسلام. وهكذا يمكن القول بشكل عام إن الفقهاء تولوا عمليا عبر العصور أربع مهمات: التعليم والفتوى والقضاء والشؤون العبادية. ولأن هذه الوظائف كانت - ولا تزال- ضرورية للمجتمع وإن لم تكن ضرورة في أساس الدين، فقد شكل أهل المذاهب الفقهية ما يشبه المؤسسة التي اعترفت بها الدولة في المجال الديني وما يجاوره من الشؤون الاجتماعية. وقد صارت للعلماء والطلاب المشاركين في هذه المؤسسة مواردهم المتمثلة في الأوقاف على المدارس وعلى المساجد وولاية القضاء، إضافة إلى الترتيبات التي تضعها السلطات أو تضعها المجتمعات لخدمة العلم والعلماء. وقد اكتمل تنظيم تلك المؤسسة أيام العثمانيين بظهور مشيخة الإسلام التي وضعت سائر المناشط الدينية تحت إمرتها.

بيد أن كل ذلك الحديث إنما كان في زمان مضى وانقضى. ففي زمن الدولة الوطنية أو القرن العشرين أُلحقت المؤسسة الدينية بأوقافها ومساجدها وشيوخها بالإدارة الحكومية من خلال وزارة الأوقاف. وفي الأعوام الخمسين الأخيرة تعاملت الدولة العربية مع المؤسسة بأحد ثلاثة أنماط: نمط الإبقاء والاستتباع، ونمط الإضعاف والرقابة الشديدة، ونمط الحياد الإيجابي أو السلبي. والملاحظ أنه في دول الإضعاف فإن الحركات الأصولية كانت أكثر وأشد عنفا، وفي دول الإبقاء والاستتباع كان الحراك العنيف أقل؛ في حين كاد التطرف لا يظهر في دول الحيادية غير السلبية. والواقع أن إدارات الدول - وبخاصة في أنظمة الضباط، إنما تحركت ضد المؤسسة الدينية في البداية، لأنها اعتبرتها عائقا أمام التحديث؛ وهذا فضلا عن اعتبار أنها وقفت مع «الطبقات البورجوازية المنقضية». وقد تمثل الإضعاف تارة في مصادرة الأوقاف، أو في التغيير من طبيعة المدارس الدينية العريقة مثل الزيتونة، أو إضعاف صلاحيات المفتي، أو تشديد الرقابة على المعاهد الدينية أو إقفالها، وكذلك المساجد، والحركة فيها. أما في دول الاستتباع، فقد كان المطلوب أن تتغير وظائف المؤسسة أو تتلاءم أكثر مع مصالح الدولة مثلما جرى مع قانون الأزهر عام 1961. بيد أنه ومع ظهور «الخطر الإسلامي»؛ فإن دول النمطين الإضعافي والاستتباعي تخلت عن شيء من الضغط على المؤسسات الدينية للاستعانة بها في مصارعة الإسلاميين المعارضين والمتشددين. إنما في كل الأحوال فإن مرجعية تلك المؤسسات وفعاليتها ضعفت جدا في العقود الأخيرة، لفقدها الكثير من الاحترام والحجية لدى الجمهور ولدى نخب المتدينين، بسبب التبعية التي أخضعت لها، ولأن الإسلام الاحتجاجي الصاعد نافسها على الحجية والمرجعية، متهما علماءها بأنهم قصروا في خدمة الإسلام، وصاروا فقهاء للسلطان! وبسبب ضعف الموارد، وتراجع أنظمة التعليم الديني والإعراض عن عصرنتها، ما استطاعت المؤسسة في كثير من الأحيان أن تبقى على السوية التي تمكنها من تمثيل الإسلام في العالم بالطرائق المجدية واللائقة.

وقد بدا ضعف المؤسسات الدينية بطريقة فاقعة في زمن الثورات. فما كان السلبي في الأمر الإصرار على الولاء للسلطة القائمة دونما محاولة للتوازن أو للتوسط، بل الأكثر سلبا وسلبية هذا الغياب شبه الكامل للمؤسسات الدينية وسط هذه الملحمة الهائلة من الدم والقتل والدموع - وهذا فضلا عن وجود شخصيات دينية كبيرة لا تزال تشيد بالنظام السوري باعتبار أنه «إذا زال، زال الإسلام»! إن الواضح أن هذه المؤسسات ما عادت تفيد أنظمة القمع في شيء مهما امتدحت، ومهما أصدرت من فتاوى. لكن ذلك يرتد بالسوء على مرجعيتها وعلى سمعتها، بحيث يتساءل العقلاء عن فائدة بقائها بعد سقوط الأنظمة. والدليل على أن تلك المؤسسات كانت تستطيع السلوك بطريقة مختلفة، وليس بالضرورة كما سلك الشيخ القرضاوي، بل كما سلك شيخ الأزهر أحمد الطيب، إن الشيخ الطيب ما شتم ولا لعن أحدا، لكنه وقف ضد القمع والقتل، ودعا للتضامن الوطني والإسلامي، كما أيد التغيير ما دام سلميا، ثم إنه أصدر قبل مدة قصيرة وثيقة الحريات الأربع، وهي تدعو للإعجاب في التأصيل والبناء. والدليل من جهة ثانية على أن المشكلة في هذه المؤسسات هي مشكلة عجز وفقد للرؤية، وليست مشكلة استتباع وإضعاف فقط؛ أنه ما بدا شيء منها بعد الثورات وسقوط الأنظمة. وليس بمعنى أن تتدخل بالتعليق على التفاصيل السياسية، بل بمعنى تصحيح المنظور، وإعادة البناء من جديد على الصحة والسلامة، والاتجاه لخدمة الناس بالداخل في نطاق صلاحياتها بما تتحمل وتطيق، والتأهل لمخاطبة العالم في هذه اللحظة الملائمة، والتي صارت فيها المخاطبة ممكنة بسبب مبادرة الشبان العرب، والتي صححت صورة العرب وصورة الإسلام.

إن المؤسسات الدينية في أكثر الدول العربية تشكو من نقص الموارد وضعف الإمكانيات. وذلك لأنها تعتمد في مواردها على الدولة وحدها. أما إذا عادت للقيام بمهامها في الفتوى والتعليم والتدريس والعبادة على الوجه الملائم والمرضي؛ فإن الناس سيقبلون على التبرع لها، وعلى خدمة أنفسهم ودينهم وأولادهم من هذه الطريق. ذلك أنه ما من مسلم عاقل يريد أن يربي الحزبيون الإسلاميون أولاده على التشدد باسم الدين، وعلى تسييس الدين كأنما ما أنزل الله سبحانه وتعالى الشرائع إلا لخدمة الحزبيات الدينية بالصراخ: الإسلام هو الحل! أما الواقع فهو أن المؤسسات الدينية الإسلامية إنما تشكو من القصور وعدم التأهل والاكتفاء بالمراتب والوجاهة. والدليل على ذلك أن الذين نجحوا في الشأن الديني في الماضي القريب واليوم، ما كانوا فقط من الحزبيين الإسلاميين، بل هم أيضا ممن يسمون: الدعاة الجدد، والذين يصطنعون برامج دينية خفيفة على الفضائيات وفي المنتديات. ولذا فإن المطلوب ممن نذر نفسه منا للدعوة، وكان نائما على راتبه ورتبته خلال أربعين أو خمسين عاما في دول الضباط والأمنيين، أن ينفتح على وجوه الوعي الجديدة بالأهمية والدور والطرائق لإنفاذ هذا الدور بالداخل - كما التطلع إلى العالم بنظرة أخرى غير النظرة السابقة التي تشعر بأنه غير معني.

نحن بحاجة اليوم وفي المستقبل للمؤسسة الدينية، باعتبارها مؤسسة كبرى للدعوة وللخير العام. وقد أعطى شيخ الأزهر من خلال وثائقه الثلاث، ومن خلال نشاطه الكبير بالداخل المصري المضطرب، الانطباع بأن هذا ممكن، وينبغي الوصول إلى تحقيقه بشتى السبل. ذلك لأننا لا نريد أن يكون الحزبيون هم الذين يتولون شأننا الديني أيضا، بعد أن بدأوا يتولون شأننا السياسي. ثم لأن العالم على استعداد لاستقبال رؤية جديدة للإسلام، غير تلك التي سادت لأكثر من نصف قرن.