ستيفن سيزر في مواجهة إشكالية الشعب المختار

إميل أمين

TT

في مقدمة القضايا التي كانت وراء كثير من الإشكاليات الذهنية والفكرية، التي تسببت في الاغتصاب الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، وجدت قضية «شعب الله المختار»، وهي الذريعة التي لا تزال إسرائيل حتى الساعة تتذرع بها، من أجل الاستيلاء على أرض ليست لها، بحجة أنها الشعب المختار من الله لامتلاك لا أرض فلسطين فحسب، بل الأرض التي تمتد من الفرات إلى النيل.

وراء هذا المقال الندوة التي نظمتها في القاهرة الكنيسة الأسقفية للقس البريطاني الشهير ستيفن سيزر، وهو أحد رجال الدين القليلين في أوروبا المعروفين بمناصرتهم للقضية الفلسطينية، كما يترأس جمعية لرفض هدم منازل الفلسطينيين، وله وجهة نظر خاصة تجاه الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، وكيف أن إسرائيل لن تتخلى طوعا عن تلك الأرض السليبة إلا بضغط دولي كبير من الدول المحبة للسلام والمؤمنة بعدالة القضية الفلسطينية، على حد قوله.

أثار سيزر عددا من القضايا في محاضرته، كل منها في حاجة إلى حديث مطول بعينه، الأولى هي أكذوبة القول بأن اليهود حتى الساعة هم «شعب الله المختار»، والثانية تطور الفكر الذي يسمى «اليهومسيحي»، والثالثة قضية صعود تيارات الإسلام السياسي في العالم العربي بعد ثورات «الربيع العربي» الأخيرة، ونفوذ الولايات المتحدة الأميركية التقليدي في الشرق الأوسط.

أظهر القس سيزر في محاضرته عمق الخلاف المسيحي - اليهودي بعيدا عن الأحلاف السياسية أو الاختراقات اليهودية للنظم الغربية؛ إذ أكد بما لا يدع مجالا للشك أنه «بمجيء السيد المسيح، وبدء دعوته ورسالته، انتهى الادعاء بكون اليهود هم شعب الله المختار، وأنهم وإن كانوا أول من آمنوا بالله الواحد، وأن الله كان يريدهم منارة له وسط العالم، الذي كانت تسيطر عليه الوثنية في ذلك الوقت، إلا أن هذه الإرادة انتهى زمنها بتوالي الرسالات السماوية».. هل يحتاج هذا الحديث ونظرا لخطورة القضية إلى شرح أوفى وأشمل؟

يلزمنا أولا أن نتوقف عند السؤال الأهم من المنظور المسيحي الحديث: «من هو شعب الله المختار»؟

يرى العلامة المصري الراحل الأنبا غريغوريوس، أسقف الدراسات العليا اللاهوتية والثقافة القبطية والبحث العلمي، في مؤلفه الشهير «وثائق للتاريخ.. الكنيسة وقضايا الشرق الأوسط»، أنه في المسيحية شعب الله المختار هو جميع المؤمنين به، وأنه ليس لله شعب معين بل كل «الذين قبلوه أعطاهم سلطانا أن يصيروا أولاد الله، أي المؤمنون باسمه».

والمقطوع به أنه إن كانت قد مرت فترة من الفترات على اليهود دعوا فيها «شعب الله» بوصفهم أول من عرف التوحيد على يد موسى النبي، فهل عاد الله ورفضهم لأجل شرورهم ولأجل نقضهم عهده وكسرهم وصاياه؟

بالرجوع إلى التوراة يجدها المرء زاخرة بذلك، فعلى سبيل المثال نقرأ في سفر إرميا النبي، الإصحاح السادس، أنهم «كلهم عصاة متمردون (...) كلهم مفسدون (...) الرب قد رفضهم».

وفي سفر هوشع النبي، الإصحاح الأول، مكتوب: «لأنكم لستم شعبي وأنا لا أكون لكم»، ويضيف في الإصحاح التاسع من السفر عينه: «أصلهم قد جف، لا يصنعون ثمرا (...) يرفضهم إلهي لأنهم لم يسمعوا له، فيكونون تائهين بين الأمم».

أما عاموس، المعروف بنبي العدالة الاجتماعية بلغة عصرنا، فيقول في سفره، الإصحاح الثامن: «قد أتت النهاية على شعبي إسرائيل. لا أعود أصفح له بعد. فتصير أغاني القصر ولاول في ذلك اليوم».

أما العلامة المعاصر الراحل الأب متى المسكين، ففي مؤلفه العمدة «تاريخ بني إسرائيل» فيطرح علامة استفهام لصيقة ووثيقة الصلة: لماذا تخلى الله عن شعبه إسرائيل، ذاك الذي سبق واختاره وأعطاه الوصايا العشر، لكنه لم يحفظها أو يقدسها؟

في رؤيته التحليلية يخبرنا الأب الراحل أن الذي يتتبع تاريخ مملكة إسرائيل يظن أن انهيار إسرائيل كان كما يظهر لنا من سرد تاريخها نتيجة مباشرة لازدياد قوة آشور من جهة، ثم مصر من جهة أخرى، مما أدى إلى التضييق عليهما حتى وقعت صريعة بين الاثنين.

لكن الحقيقة غير ذلك.. ترى ما هي؟

الحقيقة أن دولة إسرائيل كانت دولة غير زمانية، بل قصدها الله أن تكون دولة روحانية ولم تقم بالقوة البشرية حتى تنهار وتسقط بالقوة البشرية، ذلك أن إسرائيل وقد أقامها الله بنفسه، فالله هو الذي أسقطها بنفسه، كما أن تحذير الله لإسرائيل كان مستمرا بأنها إذا زاغت من تحت تدبيره فهو حتما مزمع أن يرفضها ويتخلى عنها.

وقد تكرر تحذير الله لهم في كل المناسبات وعلى ألسنة جميع الأنبياء، معلنا لهم أنه مزمع أن يرفضهم ويسلمهم لأعدائهم، ويتخلى عنهم بسبب فساد حياتهم الداخلية، وتعديهم على كل النواميس الأدبية والأخلاقية التي سلمها لهم، علاوة على عبادتهم الأصنام.

لمَ لم يعد إسرائيل «شعب الله المختار» بعد؟

حكما أن الجواب موجود في تاريخ بني إسرائيل، وسنكتفي في هذه العجالة بتصوير الصورة الأخيرة للحالة الروحية والأدبية والأخلاقية التي كان عليها شعب إسرائيل، قبل انهيار مملكة إسرائيل مباشرة بينما كان الأعداء حول أورشليم، ومن خلالها نستطيع أن ندرك سر وقوع قضاء الله المحتوم عليها، وانهيارها وزوال المملكة عنها وتبدد الشعب في السبي.

هذه الصورة يرسمها النبي الباكي أو الحزين إرميا، كما يسمى، في الإصحاح السابع من سفره، فيقول: «أما ترى ماذا يعملون في مدن يهوذا وفي شوارع أورشليم؟ الأبناء يلتقطون حطبا والآباء يوقدون النار والنساء يعجن العجين، ليصنعن كعكة لملكة السماوات (عشتاروت) ولسكب سكائب لآلهة أخرى لكي يغيظوني (...) هذه هي الأمة التي لم تسمع لصوت الرب إلهها ولم تقبل تأديبا».

ثم ينقل لنا إرميا النبي صورة فاجرة لحديث دار بينه وبين نساء الشعب، وهن في منفاهن، عندما كان يوبخهن على عبادة الأصنام ويذكرهن بكلام الله: «إننا لا نسمع لك الكلمة التي كلمتنا بها باسم الرب، بل سنعمل كل أمر خرج من فمنا، فنبخر لملكة السماوات (عشتاروت) ونسكب لها سكائب كما فعلنا نحن وآباؤنا وملوكنا ورؤساؤنا في أرض يهوذا، وفي شوارع أورشليم فشبعنا خبزا وكنا بخير ولم نر شرا».

انكسر إذن العهد وانفك الميثاق وانحل الذي ربط هذا الشعب بالإله الواحد الأحد، الذي طلب إلى موسى في أول وصية أن لا يعبد غيره، فكيف يضحي إذن بعدما عبد الأوثان وبخر لإلهة غريبة وسكب سكائب لمنحوتات بشرية، أن يفاخر بأنه كان ولا يزال الشعب المختار من الله وبإطلاق المشهد؟

يخبرنا الكاتب اللبناني المولد كوستي بندلي في مؤلفه «إسرائيل بين الدعوة والرفض» أن مأساة إسرائيل التاريخية كانت في الصراع الممزق الذي عاشه بين وعيه لذاته كشعب لله مقدس لتحقيق رسالة إلهية من جهة، وجنوحه إلى مجاراة سائر الأمم المحيطة من جهة ثانية، ولقد استمر شعب إسرائيل يتأرجح باستمرار بين خيار وخيار، وهذا ما قاده إلى الاستسلام لشياطين العنف كسائر الأمم، مبتعدا عن خطة الله وعهده، ولأنه يعلم أنه من دون الله يفقد أهم ملامح شخصيته، لذلك أوصى لنفسه بأن يخدم الله بهذا الأسلوب، وهو ما يسمى الكذب الجماعي الذي طرفاه دائما ملك فاسد ونبي كذاب، يتملقان الشعب ويشجعانه على الانحراف والفساد.

هل من صورة للفساد تؤكد بحال من الأحوال بهتان فكرة الشعب المختار صاحب الحق التاريخي في الأرض الموعودة؟

مؤكد أن عبادتهم لعشتاروت ملكة السماوات لم تكن مجرد غواية دينية، بل وقد امتد العفن إلى الأعماق وضُربت الحياة الداخلية بالفساد والانحلال الخلقي المريع، ووصلت درجة الانحلال الخلقي والأدبي في الأسرة اليهودية حدا بلغت معه مشاركة الأب لابنه في اقتراف القبائح، الأمر الذي وصفه عاموس النبي في الإصحاح الثاني من سفره: «ويذهب رجل وأبوه إلى صبية واحدة حتى يدنسوا اسم قدسي».

لم يعد اليهود شعبا مختارا ولم تعد الأرض الموعودة لهم من قريب أو بعيد، وقبل نهاية حياة السيد المسيح على الأرض بكى على أورشليم ومن فيها.. وأطلق في مواجهتها نبوءات مؤلمة حين قال: «يا أورشليم.. يا أورشليم.. يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها.. كم مرة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها ولم تريدوا، هو ذا بيتكم يترك لكم خرابا».

لم يعد اليهود على الإطلاق شعبا مختارا لله، لأنه لو كان اليهود إلى الآن شعب الله المختار، لما كان بقية العالم أجمع من المؤمنين، ذلك لأن كلنا من الأمم، ولسنا يهودا، فلو كان الله لا يقبل غير اليهود لما وجد واحد منا مقبولا عند الله.

أما الوعد بالأرض فكما يقول مفسرو الكتاب المقدس، في عهديه القديم والجديد، قد تم منذ أربعة آلاف سنة، وقد بته الله لذرية إبراهيم كلها، أي لابنيه؛ لليهود بواسطة إسرائيل، وللعرب بواسطة إسماعيل، ثم إن نبوءة العودة إلى أرض الميعاد قد تمت عندما عاد اليهود إلى بلاد اليهودية بعد سبيهم في بابل، وأقاموا حائط أورشليم وأعادوا بناء الهيكل، وعليه فلا يوجد في التوراة وعد برجوع ثان، كما كانت الحجة الأحدث في القرن العشرين الخاصة بقيام دولة إسرائيل.

والمعروف تاريخيا أن الإمبراطور الروماني أرسل، بحدود السبعينات من القرن الأول الميلادي، حملة تأديبية بقيادة تيطس، القائد الروماني، لتأديب هذه الأمة، فأحاط أورشليم بالمتاريس، فانقطعت عنها المؤونة من البلاد المجاورة فهلك من الشعب اليهودي كثيرون بسبب الحرب والجوع، ودمر تيطس وجنوده الهيكل، كما سبق وأنذرهم بذلك السيد المسيح بقوله: «لن يُترَكَ هُنا حجَرٌ على حجَرٍ، بل يُهدَمُ كُلٌّهُ».

وهنا يصف لنا يوسيفوس، المؤرخ اليهودي في كتابه «حروب اليهود» ما جرى، وهو أن مليونا من اليهود ومائة ألف قد ماتوا في الحرب، ومليونا آخر ماتوا جوعا حتى أكل الناس الكلاب والقطط والجيف، وأخيرا صنعوا ما هو أفظع، فإن «أيادي النساء الحنائن طبخت أولادهن» كما يقول إرميا النبي في كتاب «مراثي الإصحاح الرابع»، وأما الباقون من اليهود، وهم نحو المليون الثالث، فقد تشتتوا في العالم، هذا الشتات الكبير المعروف باسم «الدياسبورا» الذي دام نحو ألفي سنة.

هل تعلّم الشعب الذي كان مختارا ذات مرة من تجربة الخطيئة والعبودية التي عاشها؟

لا يبدو أن ذلك كذلك، فإسرائيل التي فارقها روح الرب، كما يقول الأب متى المسكين، تطلب - بل طلبت بالقوة - وطنا في فلسطين على أشلاء العرب، وهي بذلك تسعى لعزلتها الأولى وتنظر إلى «يهوه» كأنه منحصر في تخوم اليهودية تحيط به حدود بلاد يعقوب.

هذا المنحى يراه اللاهوتي الكبير «غباوة روح» إذ تسعى لأن تؤسس لله وطنا على الأرض، ولو على جثث الناس، وبنظرها إلى ذاتها بوصفها شعبا مختارا وحيدا لله تسعى لسيادة فكر عنصري هادم لمعنى الألوهية ولروح البشرية في آن واحد، مع أن المسيحية ترى أن «في كل أمة الذي يتقيه (الله) ويضع البر مقبول عنده»، كما يقول بولس الرسول.

محاضرة القس سيزر في الوقت الذي تحاول فيه حكومة نتنياهو تهويد القدس وما حولها، جرس إنذار لأصحاب الضمائر الحية والعقول الحرة التي لم تقع بعد في حبائل «اليهومسيحية»، الأمر الذي يتطلب حديثا آخر عن الاختراق الذي جرى، لا سيما للعقلية الأميركية.

* كاتب مصري