جدل فقهي حول دور عوام الناس في المشاركة باتخاذ القرارات

ابن منيع لـ «الشرق الأوسط»: الغوغاء فوضويون لا رأي لهم في شؤون المسلمين

جانب من احداث ماسبيرو امام مبنى الاذاعة والتلفزيون في القاهرة (إ.ب.أ)
TT

تزامنا مع الربيع العربي الذي أثبت فيه الشارع دورا كبيرا في تحريك الأحداث وخروج الكثير من الأقوال في مديحه والتغني بالميادين التي احتشدت بالجميع وعلى رأسهم العامة، أثير السؤال القديم حول دور العوام وتقدير هذا الدور سلبا أو إيجابا، لينعكس الخلاف الفقهي من جديد على مستجدات الساحة العربية، داعية إلى ضرورة الكشف أكثر عن ظلال العوام وتصنيفاته بعد أن تفجرت حممه من جديد بين أوساط الفقهاء المعاصرين.

ففي حين يرى فريق أن العوام «دهماء وغوغاء أو حتى رعاع همج»، لا يجوز لهم التدخل في شؤون الدين والأمة، يرى فريق آخر في «العامة» جمهورا يضم في جنباته نخبا متنوعة لها ذات دور الخواص.

بقي العوام بحاجة إلى حسم شرعي في ظل اختلاف مذاهب الفقهاء في تعريفاتهم وتصنيفهم، ما بين طرائق ابن عباس بشرح الغوغاء، أو تقسيم علي بن أبي طالب لطبقات الرجال، أو حتى فتيا حسن البصري (الشرعية) التي صنف فيها لسائله غوغاء زمانه، بعد أن ألقى الأخير بيمينه المغلظ على زوجه إثر شتمها له بـ«الغوغاء».

التخوف من الغوغاء أو العوام لم يقتصر لدى الفقهاء على خوضهم في المسائل الشرعية التي ظلت لديهم من نصيب الخواص، إذ لم يجز للعامة التدخل بالفتيا، وإنما امتدت إلى ما قد يشيعه الدهماء من فتن وصراع على الساحات السياسية، خصوصا عقب تدخل البحث النفسي الذي فند بدائية تعاطي الجماهير للشؤون العامة.

«الغوغاء أو الفوضويون» كما وصفهم الشيخ عبد الله بن منيع، عضو هيئة كبار العلماء، لا يمكن أن تؤخذ منهم أي آراء تصدر بحق دماء المسلمين، كما لا يمكن الأخذ «بما يقولون» لكونهم كما وصفهم «أهل عواطف» فقدت السيطرة على عقلها.

وذهب ابن منيع في تعريفه لـ«الغوغائي» بأنه الرأي الفج والفوضوي، البعيد عن الصواب، مضيفا أن الغوغائيين ليس لهم رأي مبني على تعقل وإنما هو مستند إلى سلطة العاطفة القوية.

وعودة إلى الخلافات بشأن تصنيف «العوام والغوغاء»، اعتبر الشيخ عبد الله بن منيع في حديثه مع «الشرق الأوسط» أن «عوام الناس» إنما هم أعلى شأنا من «الرعاع أو الغوغاء»، مؤكدا أن اللفظين لا يستويان معا والفرق قائم بينهما، فالعوام بحسب ابن منيع أعلى شأنا ممن وصفهم بالفوضويين أو الغوغاء.

وبحسب ابن منيع «فالعوام» لا يملكون فنا من فنون العلوم، أو أي اتجاه علمي، كما أنه ليس لهم باع في العلم، إلا أنه في المقابل أكد عضو هيئة كبار العلماء أن ذلك لا ينفي أصالة عقولهم التي اعتبرها أعلى درجة من الغوغاء.

وأكد الشيخ عبد الله بن منيع مقابل ذلك أهلية «العوام» للترشيح وجواز دورهم في الجوانب الديمقراطية بإقرار نواب يوكل إليهم أمر النظر في أمور الدولة، رغم انتفاء أهليتهم بالقيادة، مشددا على عدم جواز مشاركة الغوغائيين في مثل هذه الأمور وعدم أهليتهم للقيام بذلك، فكما ذكر ابن منيع، «ليس لدى الغوغائيين أي اتجاه أو استراتيجيات محددة». وعلى الرغم من أن إطلاق لفظ عوام الناس في التاريخ الإسلامي بدا على سبيل الخصومة، وكان بداية من نصيب أهل السنة والحديث في العراق من قبل المعتزلة، فقد تحول الوصف ذاته لدى أهل السنة إلى كل من لا يقرأ أو يكتب. حتى ذهبت مدارس علم النفس الحديث إلى طرائق أكثر شمولية في تعريف «العامة» أو «الجمهور» للحاجة إلى ضبطها والسيطرة على عنفها التدميري.

حول ذلك استنكر محمد الدحيم، الباحث الإسلامي، إطلاق الفقهاء مصطلح الجهالة على «العامة»، الذي أكد وجوده في تعبيراتهم ومدوناتهم الفقهية، منوها بأن ذلك «نرجسية فقهية».

وأشار الدحيم إلى وجود سوء تواصل ما بين الفقهاء وعامة الناس، داعيا الفقهاء إلى عدم الانطلاق من فوقية متناهية وبقية الناس من سفلية متناهية، انطلاقا من ضرورة تجاوز مثل هذه التعبيرات من قبل الفقهاء بحسب الدحيم، وعلى أن لا تكون العلاقة استنادا إلى التصور النمطي لعوام الناس أو وصفهم بدهماء لا يفهمون، حتى بات السياسي يطلق عليهم لفظ «رجل الشارع».

ودافع الكاتب الإسلامي عن دور العوام في «الربيع العربي»، واعتبره «طبيعيا» لكونهم يعيشون الفعل ورد الفعل في الوقت ذاته، مناديا بضرورة تحويل العوام إلى استثمار ناجح من خلال الأحزاب ورفع مستوى الوعي بابتكار آليات محددة.

وبشأن واقع الحالة الانتخابية يرى الدحيم أنها شكل حضاري، إلا أنه في حالة تردي الوعي الاجتماعي فسيتم اختيار من يمثل العموم بصورة حضارية دون أن تكون بحقيقة حضارية، حتى يصبح التمثيل صوريا وله معطياته السلبية.

وأكد الكاتب الإسلامي على أن الدولة القانونية هي التي تولد الديمقراطية وستفرض الدولة المدنية، وليس القفز على الديمقراطية.

الكاتب رشيد خيون لخص موقف الخواص من العوام أو من يطلق عليهم الدهماء والغوغاء والسواد، بحاجتهم إلى من يقلدون من المجتهدين، وذلك لقلة فهمهم بشؤون حياتهم العامة والدينية، مما حتم تولي أمرهم مجتهد أو بمكان الخاصة، أي حاشية الخلافة والحكم وحاشية العلماء والمتعلمين، بحسب خيون.

ورغم اقتصار التقليد بحسب الكاتب رشيد خيون في مسائل العبادات والمعاملات، بقي العامي في حالة الديمقراطية والانتخابات بحاجة إلى رأي فقيه أو من يقلده حتى بات كالوكيل الشرعي على اختياراته وعلى صوته.

فتنة العوام التي حذر منها الفقهاء السابقون حتى طالت عددا كبيرا من أعلام وفقهاء الإسلام كان من بينهم الطبري ذاته، حتى بلغ الأمر بأهله وصحبه بإقرار دفنه ليلا خوفا من غوغائية العوام، تعود بحسب رشيد خيون إلى تحريكهم من قبل سلطة أو فقيه، لاستحالة تحركهم الفردي، مؤكدا أنهم لا يتحركون بمفردهم وإنما من خلال قوى من خلف الستار تستفيد من مزاياهم الغوغائية.