الهوية القومية وإقصاء المواطنة

محمد حلمي عبد الوهاب

TT

على الرغم من أن «الناصرية» قد وجدت تعبيرها الأول في وثيقة نظرية مميزة حملت توقيع الرئيس عبد الناصر، ألا وهي «فلسفة الثورة»، فإنها بقيت في المقام الأول بمثابة مسيرة عملية أكبر منها ثوبا نظريا. ومن ثم؛ فإنها تجذرت وتعمقت بهدي الممارسة أكثر منه بهدي النظرية، معتمدة في ذلك على منهج عملي بامتياز، ألا وهو: التجربة والخطأ!! وتبعا لذلك؛ يرى الناصريون - ومن جرى على شاكلتهم - أن انقلاب يوليو (تموز) العسكري الذي يدعونه «الثورة الناصرية»!! قد حقق إنجازات بالغة الأهمية في مجال بلورة فكرة «المواطنة» في مجالها القاعدي! أي في ما يخص الترتيبات القانونية والإدارية والاقتصادية التي استهدفت تطوير مفهوم «الجماعة السياسية»!! أما من حيث المشاركة الفعلية في العمل السياسي، والمحاور الفكرية حول القضايا المتصلة بفكرة المواطنة، فلم يكن الإنجاز على المستوى نفسه من التقدم!! وهو ما دفع البعض لأن يطلق على «المواطنة» في المرحلة الناصرية مصطلح «المواطنة المبتسرة»!! وفي الواقع، لقد ساهمت أولوية السلطة، أو بناء الدولة - كما بررتها بعض المقاربات القومية - في تراجع البعد الديمقراطي، ومن ثم في تهميش مبدأ المواطنة، إن لم يكن تجاهله وإهماله كلية!! وبطبيعة الحال؛ لا يمكننا الاستدلال على حضور المواطنة في الفكر الناصري بمجرد القول: إن الرئيس عبد الناصر كان يتوجه إلى الجماهير بالقول: «أيها المواطنون»!! بعد أن كان الملك فاروق يخاطبهم قائلا: «يا شعبي العظيم»!! فقد أدت السياسات التي اتبعتها «حكومة الثورة» خلال حقبة الخمسينات والستينات من القرن الماضي إلى تحديد مفاهيم الفكر السياسي والاجتماعي للسلطة الحاكمة. ويذهب قايد دياب في كتابه «المواطنة والعولمة.. تساؤل الزمن الصعب» إلى أن قضية المواطنة في العهد الناصري يجب أن تعالج من منظور أوسع نسبيا، وذلك من خلال دراسة المحاور التالية: الاستقلال الوطني وتحقيق الهوية القومية، والعدالة الاجتماعية، وحقوق وحريات المواطنين في الدساتير الناصرية، وأخيرا وليس آخرا؛ مسألة الوحدة الوطنية.

غير أن المحصلة النهائية لقراءة دياب إنما تفضي إلى القول بأن «قضية المواطنة قد ربحت الكثير على يد الناصرية، على الرغم من الظواهر المعاكسة لهذا الأمر»!! وهو قول، أو نتيجة، غير منطقية أولا؛ فضلا عن أنها غير صحيحة تماما؛ فباسم السعي نحو الاستقلال الوطني وتحقيق الهوية القومية تم تقديم حرية الوطن على حرية المواطن؛ فضلا عن أن النظام الناصري قد زج بعشرات الآلاف من المعارضين الإسلاميين وحتى الشيوعيين في غياهب المعتقلات وأتون السجون بدعوى الحفاظ على الهوية والوحدة القومية!! وباسم العدالة الاجتماعية أيضا، تم انتهاك حقوق شريحة لا بأس بها من المواطنين. ولهذا لا يجوز الاستدلال على اهتمام النظام الناصري بالمواطنة بما ورد في الدساتير التي صدرت إبان الحقبة الناصرية؛ لأن التنصيص على الحقوق شيء؛ والواقع العملي شيء آخر مغاير تماما!! ويبدو لي أن البعض يختزل «المواطنة الناصرية» في إحساس المواطن بالعزة القومية التي تعني - بحسب الفهم الناصري - «أن تحكم مصر بأبنائها»! ومع إقرارنا المبدئي بأن المحدد الرئيسي لانقلاب يوليو كان «تعظيم الاستقلال الوطني وتحرير الإرادة السياسية مقارنة بالقيم السياسية الأخرى؛ بل إن هذه القيم والممارسات السياسية كانت في تقديره طريقا لتحقيق وتكريس الاستقلال الوطني»؛ لكن ذلك لا يصح أن يتخذ ذريعة لانتهاك المواطنة والديمقراطية بحال من الأحوال.

فضلا عن ذلك؛ فإنه سرعان ما تم الاستقلال للدولة المصرية وحكمت مصر بأبنائها فعلا، لكن لم تتغير الأوضاع كثيرا، بل إنها ربما ساءت في مصر اليوم عما كانت عليه وقت الاحتلال!! وفي المحصلة؛ لم ينظر عبد الناصر إلى التنويعات الموجودة في المجتمع المصري باعتبارها أمرا إيجابيا؛ وإنما على العكس من ذلك تماما، نظر إلى «التعددية» نظرة سلبية، ومن ثم، سعى إلى فرض هوية واحدة ومحددة، وهو يعبر عن ذلك أفضل تعبير حين يقول في «فلسفة الثورة»:

«وأنا أنظر أحيانا إلى أسرة مصرية عادية من آلاف الأسر التي تعيش في العاصمة.. الأب مثلا فلاح معمم من صميم الريف، والأم سيدة منحدرة من أصل تركي، وأبناء الأسرة في مدارس على النظام الإنجليزي، وفتياتها في مدارس على النظام الفرنسي، وكل هذا بين روح القرن الثالث عشر ومظاهر القرن العشرين.. أنظر إلى هذا وأحس في أعماقي بفهم للحيرة التي نقاسيها، والتخبط الذي يفترسنا، ثم أقول لنفسي: سوف يتبلور هذا المجتمع.. سوف يتماسك.. وسوف يكون وحدة قومية متجانسة»!! وبذلك يصح القول: إن الناصرية قد بلورت مفهوما متماسكا لـ«الهوية القومية»، لكن ما لا يصح تماما هو مرادفة «الهوية» بـ«المواطنة»! ففي ذلك قراءة مغلوطة لمعنى المصطلحين وللتاريخ معا. وقد يصح القول أيضا، مع لويس عوض: «إن الناصرية قد حققت لشباب الثلاثينات والأربعينات ثلاثة من أحلامهم الكبرى؛ ألا وهي: طرد الإنجليز، وتمصير الاقتصاد، وتقليل الفوارق بين الطبقات». لكن مالا يصح تماما هو القول بأن الناصرية قد سعت، بموازاة ذلك، لتحقيق وإرساء مبادئ المواطنة والديمقراطية والحكم الرشيد على أرض الواقع!! ففي مقابل «حتمية الحل الإسلامي»، تبنى النظام الناصري «حتمية الحل الاشتراكي»، قاصدا بالاشتراكية «إقامة مجتمع يقوم على العدل الاجتماعي لا على الربح الفردي.. على التخطيط، وليس على قوى السوق.. على التصنيع، لا على إنتاج المواد الخام للتصدير إلى الخارج. إن ذلك الحل الاشتراكي هو الطريق (الوحيد) الذي تضمن استخدام جميع الموارد الوطنية المادية والطبيعية والبشرية بطريقة عملية وعلمية وإنسانية لكي تحقق الخير لجموع الشعب، وتوفر لهم حياة الرفاهية»!! والحاصل من ذلك كله؛ أن البعد الاشتراكي في السياسة المصرية قد أخذ يتآكل مع حكم السادات، ثم أخذ يزداد تآكلا في حقبة مبارك وتشريعات الخصخصة التي ابتدأتها حكومة عاطف صدقي عام 1985، وما تلاها.

أما على مستوى المواطنة السياسية؛ فقد حرصت «حكومة الثورة» على التماسك الاجتماعي أكثر مما عنيت بالحرية السياسية. ومن ثم؛ سعت لإلغاء الأحزاب السياسية في يناير (كانون الثاني) 1953، وأقامت التنظيم السياسي الواحد لدرجة أنها منعت السياسيين القدامى ممن صدرت بحقهم قرارات «العزل السياسي» من التمتع حتى بعضوية التنظيم السياسي الجديد؛ مما أثار جدلا كبيرا حول مشروعية العزل السياسي وقانونية نفي المواطن داخل وطنه وحرمانه من مباشرة حقوقه السياسية وتقييد حريته!! أما في عهد السادات، وفي إطار تحرير الاقتصاد المصري من المركزية ونقل نشاطاته إلى الأفراد، فقد كان من الطبيعي أن تحدث انفراجة مماثلة في التنظيم السياسي، وهو ما حدث بالفعل في ما يتعلق بإعادة تكوين المنابر السياسية، فيما بقي قانون الجمعيات الأهلية على حاله!! نصل في مقاربتنا هذه إلى ملاحقة التطور الذي طرأ على الفكر القومي العربي منذ مطلع الثمانينات في القرن الماضي، حيث عاود القوميون العرب الاهتمام مجددا بالديمقراطية بعد أن دفعت الدولة العربية - بسبب غيابها - ثمنا فادحا من سيادتها واستقلالها ووحدتها الترابية والوطنية وتقدمها الاقتصادي والاجتماعي، وبعد انفراط عقد النظام الذي التأم فيه شملها عشية الحرب العالمية الثانية.

لذلك يؤكد البعض أن عقد الثمانينات يعد بمثابة النقطة الزمنية التي استؤنفت منها الاهتمامات الفكرية العربية والإسلامية بالمواطنة والديمقراطية، ونفذت فيها الكتابات رأسا إلى لب المشكلة التي عاناها الواقع العربي جراء الغياب القسري لمبدأ المواطنة في الحياة السياسية العربية.

وفي هذا السياق، ازدادت الأدبيات المتعلقة بالمواطنة؛ حيث عقدت في الثمانينات ثلاث ندوات عربية مهمة: أولها ندوة «التجارب الديمقراطية في الوطن العربي» التي دعا إليها «منتدى الفكر والحوار» في المغرب عام 1981. وثانيها دعا لعقدها «مركز دراسات الوحدة العربية» وعقدت في قبرص عام 1983 تحت عنوان: «أزمة الديمقراطية في الوطن العربي». أما ثالثتها، فدعا إليها «منتدى الفكر العربي» في عمان عام 1989 وكانت بعنوان: «التعددية السياسية والديمقراطية في الوطن العربي».

والحقيقة أن هذا الاقتراب لم يكن مقصورا على الفكر القومي العربي فحسب؛ وإنما طال أغلب التيارات الفكرية الأخرى، بما فيها اليسارية والإسلامية على النحو الذي سنعالجه لاحقا. هذا، وقد ارتفع الفكر القومي المعاصر في تثمينه للديمقراطية إلى حد اتخاذها شرطا يضمن نجاح الوحدة العربية، ويحول دون انتكاستها في المستقبل!! وقد خلص عبد الإله بلقزيز إلى أن انفصال الديمقراطية عن الوحدة كان سببا من أسباب تدهور الفكرة القومية العربية، وفكرة الوحدة بالذات.

ومع ذلك؛ بقيت معالجات الفكر القومي المعاصر لمسألة الأقليات القومية غير العربية، كالأكراد والتركمان والأمازيغ، قاصرة لا تتناسب وأهميتها المفترضة، أو تضاهي المعالجة المهمة التي قام بها المستشار طارق البشري في كتابه: «المسلمون والأقباط في إطار الجماعة الوطنية» (1982)، أو حتى مقاربة أبو سيف يوسف الفريدة لـ«الأقباط والقومية العربية» (1987).

* كاتب مصري