في ما ورائيات حرق القرآن في أفغانستان

إميل أمين

TT

مرة جديدة تعود بنا العنصرية الكامنة في نفوس كثير من أبناء المجتمع الأميركي إلى نقطة المواجهة الكبرى، تلك التي تتعلق بالازدراء والتحقير للآخر ولعقيدته؛ ذلك أنه إذا كان ما جرى في أفغانستان مؤخرا، من حرق للقرآن الكريم، يمثل بربرية وهمجية لبعض جنود «الناتو»، لا سيما الأميركيين منهم، فإن الأمر في حقيقته يعكس ما هو أبعد بكثير؛ إذ يلقي بظلاله على إشكالية تطرف داخلية، وكراهية باتت تسم أفعال الملايين من الأميركيين لجهة الإسلام والمسلمين.

ولعل الذي جرى في أفغانستان يدعونا، كما دعا، للأمانة والموضوعية، نفرا من عقلاء الأميركيين، للتساؤل عن أسباب هذا الفيروس الكامن تحت الجلد الأميركي، وعن المستقبل الذي يقود إليه الولايات المتحدة الأميركية وهي ماضية في العمى ودروب الغواية على هذا النحو.

بداية القصة، التي أقر بها الجنرال جون ألان، قائد قوات المساعدة الأمنية الدولية في أفغانستان (إيساف)، كانت مع إحراق مخلفات أوراق، اكتشف أن بها نسخا من القرآن، اكتشفها عمال أفغان في قاعدة باغرام الجوية، وهو أمر مشين يأتي بعد حادثة مهينة بدورها تمثلت في ظهور تسجيل مرئي (فيديو) مؤخرا يظهر قيام عدد من جنود الجيش الأميركي بالتبول على جثث لمقاتلين أفغان، وما بين المشهدين الممتهنين لكرامة الأديان والإنسان حديث طويل عن أصول التطرف اليميني الأميركي الداخلي.

من أفضل من كتب في هذا السياق مؤخرا، ويوضح لنا الخلفيات التاريخية والذهنية للعداوة الراسخة للإسلام والقرآن في الداخل الأميركي، كان البروفسور ريتشارد بوني، أستاذ التاريخ الحديث بجامعة لستر، مؤلف الكتابين الشهيرين «أنبياء مزيفون» و«الجهاد من القرآن إلى بن لادن».

يلفت بوني إلى حقيقة مهمة في الصراع العقائدي الذي بات يسيطر على عقول الأميركيين، لا سيما المحافظين، وأصحاب المؤسسة العسكرية، التي حياتها وعجلة دورانها الرأسمالي في الحروب والغزوات، وتعود تلك الحقيقة إلى مقولة لصموئيل هنتنغتون، أبي الصراع الحديث، ومقسم العالم تقسيما مانويا ويقول فيها: «إن المشكلة التحتية بالنسبة إلى الغرب ليست هي الأصولية الإسلامية، بل الإسلام ذاته».

وقد كانت تلك الحقيقة ترمز، بأسلوب دراماتيكي، إلى نهاية آيديولوجيا القرن العشرين والصراع الآيديولوجي بين الشيوعية والرأسمالية، وإلى بدء زمن جديد يعرف الناس فيه أنفسهم من منطلق الثقافة والدين بشكل أساسي.

وفي توقيت موازٍ، كان دانيال بايبس، أحد أشهر رموز كراهية الإسلام والمسلمين في أميركا اليوم، يشدد على أن «الشرق الأوسط بإسلامه ومسلميه قد حل محل الاتحاد السوفياتي كمحك للسياسة والآيديولوجيا»، وهي عبارة غامضة في حاجة إلى مزيد من الاستيضاح وعلى لسان بايبس نفسه ومن خلال تصريحاته التي يغلفها رداء الإسلاموفوبيا من وقت طويل.

والواقع هو أن غالبية مقالات بايبس تتحدث عمَّا يطلق عليه «الإسلام القتالي»، وقد كان من أوائل المسارعين بالترحيب بحروب بوش المزعومة على الإرهاب بصفتها في حد ذاتها إعلانا للحرب.

ويعلق بايبس، ذات مرة، على الذين يرون أن التوجهات الإسلامية المتطرفة هي تشويه للإسلام بالقول: إن هذا غير صحيح؛ ذلك لأن تلك التوجهات المتطرفة تخرج من رحم الدين الإسلامي نفسه، ثم تسير ببعض ملامحه إلى نهاية من التطرف، والراديكالية وجنون العظمة بحيث تشكل شيئا جديدا.

ولعل تشويه صورة الإسلام والمسلمين في الولايات المتحدة الأميركية يمكن تقسيمه زمنيا إلى تاريخين: ما قبل الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، وما بعد ذلك التاريخ.

ذلك أنه منذ الحادي عشر من سبتمبر 2001، والإسلام منحصر في عيون الأميركيين في مفهوم واحد «الأصولي المقاتل»، والأصوليون المسلمون هم صناع الأخبار في وسائل الإعلام، وفات الأميركيين، أو بالأحرى وجد هناك من فوت عليهم، فرصة التذكير بأن الأصولية كائنة حول العالم منذ زمن بعيد؛ فالأصولية اليهودية هي السبب وراء اغتصاب أرض، وتشريد شعب في فلسطين، والأصولية الهندوسية، والمسيحية، وأصولية الأفارقة القبليين على حد سواء قد أوقعت الآلاف من القتلى في حروب وصراعات، لم يكن الإسلام ولا الأصولية الإسلامية سببا مباشرا أو محركا رئيسيا فيها.

وانطلاقا من هذا المفهوم المعكوس لا يصدم المرء من تصريحات رجل بوزن ريتشارد سويفت، محرر مطبوعة «العالمي الجديد»، وفيها: «أن الإسلام يرشد المسلم الأصولي المتطرف إلى الطريق من كل نواحي الحياة، ثقافية وسياسية واقتصادية، وحتى السلوك الشخصي أيضا».. ويرى كذلك أن الأصوليين الإسلاميين يتبعون ممارسات متطرفة، ويعملون بشتى الطرق على ضمان ألا تمارس في مجتمعاتهم تجليات العالم الحديث.

وفي وسط هذه الحملة الذهنية الضاربة، طفا على سطح «الإنتلجنسيا» اليمينية الأميركية مفهوم أن العرب والمسلمين، بشكل عام، لا يمكن أن يجادلوا باستخدام الأساليب التقليدية للحوار، وأنه يجب بناء على ذلك أن يرغموا من خلال العنف على أن يكونوا في مواقف خاضعة.

الشاهد أن هذا المفهوم وإن وُجد في القاموس الأميركي الإمبريالي منذ زمن بعيد، إلا أنه ترسخ في مواجهة العرب والمسلمين على نحو خاص مع بداية الانتفاضة الفلسطينية الثانية، في سبتمبر 2000، وقد كان الدافع لشعبيتها هو النظرية القائلة إن إسرائيل يجب أن تخضع الفلسطينيين بالقوة لسببين رئيسيين: لتعلمهم أن العنف سيعود عليهم بالعنف، ولتدخل إلى المفاوضات معهم من موقف القوة.. هل كان ما تقدم من زخم للنفس الأميركية ضد الإسلام وعموم المسلمين كافيا لشحن نفوس جنود أميركيين أميين ثقافيا وفكريا، لا يعرفون غير اتباع الأوامر العسكرية الأميركية التوسعية، لحرق نسخ القرآن أو التبول على جثث الأفغان؟

الشاهد أن هناك من الأحداث والسرديات التي جرت طوال العقد الماضي ما يجعل الصورة النمطية للمسلم الإرهابي تترسخ في أذهان الأميركيين، خذ إليك هذا المشهد على سبيل المثال لا الحصر؛ إذ فوجئ طلاب جامعة جورج واشنطن، وهي إحدى الجامعات الأميركية العريقة، بالإعلان عمَّا يسمى «أسبوع التوعية من خطر الفاشية الإسلامية»، وفيه تم نشر صورة للعربي والمسلم على جداريات الجامعة، مرتديا حزاما ناسفا، ومشهرا الكلاشنيكوف، ومن أسفل كُتب ما يشير إلى أن هذه الصورة كان ولا بد لها من أن تدخل عقول أناس كثيرين وتقودهم إلى ما جرى في أفغانستان، وما يمكن أن يجري لاحقا في غيرها من الأوطان.

والمقطوع به أن ما جرى في أفغانستان قد دعا صاحب هذه السطور لإعادة قراءة المشهد الأميركي من الداخل لجهة هذا العداء المتأصل الذي يزدري الكتاب السماوي لمليار ونصف المليار مسلم أو يزيد حول العالم.

والمفاجأة التي تكشفت من خلال البحث هي أن هناك وجودا لجماعات إلحادية أميركية تروج للإسلاموفوبيا بالقدر نفسه الذي تعمل به الجماعات اليمينية الأميركية من جهة، أو جماعات المصالح والضغوط، التي تنشد استمرار المعارك لتحقيق أعلى معدلات ربح من بيع الأسلحة وتشغيل ماكينة المصانع العسكرية.. ماذا عن هذا البعد الجديد؟

في مؤلفه الصغير والمثير جدا «الحروب الهمجية.. العرب والمسلمون وفقر الفكر الليبرالي» يتحدث الأميركي البروفسور ستيفن سالايثا، أستاذ اللغة الإنجليزية بجامعة فيرجينيا، عن محاولة الثلاثي الأميركي المروج للإلحاد الأميركي الحديث: «هاريس»، «داوكينز»، «هيتشنيز»، ودق إسفينا جديدا، إن جاز التعبير، بين القارئ الأميركي العادي، لا سيما المسيحي الملتزم، وبين الإسلام والمسلمين، وبالأخص لجهة القرآن الكريم.

نقرأ في أحد منشورات الإلحاد الجديد كما يقدمه مفكروه البارزون المنتمون إلى عالم الغطرسة الأميركية البيضاء ما نصه: «لماذا لا تنزعج كثيرا حول ما إذا كنت ستؤمن بالإسلام أم لا؟ هل يمكنك أن تثبت أن الملاك جبريل لم يزر محمدا في كهفه؟ بالطبع لا. لكنك لن تحتاج إلى أن تثبت أيا من هذه الأمور كي ترفض معتقدات المسلمين على أنها منافية للعقل. إن عليهم عبء إثبات أن معتقداتهم حول الله ومحمد صحيحة. لم يفعلوا ذلك. ولا يمكنهم فعل ذلك. إن المسلمين ببساطة لا يقدمون مزاعم حول حقيقة يمكن إثباتها».

ويصل التشكيك الذي يقود إلى تدنيس القرآن، كما في أفغانستان، إلى سقفه الأعلى بالقول: «الحقيقة هي أن تعرف بالضبط ما ستكون عليه بكونك ملحدا في ما يخص معتقدات المسلمين. أليس أي واحد يعتقد أن القرآن هو الكلمة المثالية لخالق الكون، لم يقرأ الكتاب بشكل نقدي؟ أليس من الواضح أن تعاليم الإسلام تمثل مانعا شبه كامل أمام البحث النزيه؟».

والجواب عند ثلاثي الإلحاد الكريه: «نعم، هذه الأمور واضحة».

نحن إذن أمام تحدٍّ ثنائي لأي مفهوم إسلامي إيجابي، أو فهم عميق أصيل للإسلام، المبنى والمعنى، ولم تعد المجابهة مع تيار المتعصبين أو المحافظين فقط، بل وجد على السطح تيار الإلحاديين الكارهين، والمشوهين للإسلام عقيدة وشخوصا، دولا ومؤسسات، ما لا يبشر بالخير.

غير أن خير دليل على ما نقول به هو أن الإسلاموفوبيا، وليس الإسلام، أصبحت اليوم عاملا مشتركا واضحا في الطرح الأميركي الداخلي في سباق انتخابات الرئاسة للعام الحالي 2012، وبات واضحا أن هناك مواقف علانية، في معظمها، إن لم تكن كلها، عدائية، باستثناء الرئيس أوباما، من الإسلام، من أجل تحقيق مكاسب انتخابية، الأمر الذي انعكس سلبا على حياة المسلمين داخل أميركا، مهاجرين وأصلاء، وصعَّب من نشاطاتهم الحياتية وممارسة شعائرهم الطقوسية، وقد عرضنا لهذه الإشكالية في هذا المكان من قبلُ، وحكما سنعود إليه في قراءات تحليلية لاحقة.

والمؤكد أن حادثة باغرام وإن اعتذر عنها الرئيس الأميركي باراك أوباما، ووزير دفاعه ليون بانيتا، إلا أنها ألحقت دمارا بالغا بالإمبراطورية المنفلتة وذلك بشهادات أميركية ثلاث تذهب إلى أن ردود الفعل الأفغانية ليست إلا بداية المخاض.

القراءة، أو المشهد الأول، أوردتها «نيويورك تايمز»، ورأت فيها أن إحراق نسخ من القرآن أشعل نارا لن تنطفئ، لا سيما بعد تصاعد العنف الأفغاني المدعوم أحيانا بمواقف رسمية.

القراءة الثانية أوردتها صحيفة «كريستيان ساينس مونيتور» ورأت فيها أن آمال الولايات المتحدة في الفوز بحب وتعاطف الشعب الأفغاني قد قُضي عليها، كما أن آمال «الناتو» في أفغانستان تكاد تكون قد اضمحلت في تحقيق الاستقرار.

أما الثالثة فهي من نصيب الكاتب الأميركي الكبير ديفيد إغناتيوس في صحيفة «واشنطن بوست»، الذي وصف ما قام به بعض الجنود الأميركيين بأنه «تصرف أحمق قد يؤدي إلى تدمير الولايات المتحدة».

وفي الحق أن ما جرى في أفغانستان يذكِّر بالذي حدث في فيتنام من قبل، لكن في الأحوال كلها يبقى الأهم هو الرد المطلوب من العرب والمسلمين، وهو رد ينبغي أن يتجاوز المظاهرات العاطفية، إلى الطروحات العقلانية، وإن لم تفهمها عقلية الـ«كاو بوي»، فانظر ماذا ترى من حتمية القول والفعل العربي والإسلامي بلغة الحداثة والعصرنة، في مواجهة همجية الآخر وازدرائه لمعتقد الغير.

* كاتب مصري