الدين والسياسة في الولايات المتحدة: المشهد الجديد

رضوان السيد

TT

تصبح حواس الباحثين والمراقبين الاستراتيجيين في الولايات المتحدة أكثر حدة ومتابعة عشية انتخابات الرئاسة، التي تجري - كما هو معروف - كل أربع سنوات. ومنذ الثمانينات من القرن الماضي، تتركز المراقبات الاستراتيجية حول دور الدين وتدخلاته أو استخداماته في الشأن العام. فقد لاحظ هؤلاء المراقبون أن جيمي كارتر (الديمقراطي) كان أول من استخدم بنجاح مسألة الدين في الانتخابات عام 1976 - 1977 عندما أعلن أنه من الإنجيليين الجدد أو المولودين ثانية أو المولودين من جديد. وهذا التيار ضمن البروتستانتية، الذي صعد في السبعينات على أثر حركة الحقوق المدنية، وثورة الشباب عام 1968، والانقسام الوطني حول حرب فيتنام، كان من خارج الكنائس الكبرى التاريخية للبروتستانتية. وفي أواخر السبعينات كان عدد أنصاره بحسب الاستطلاعات نحو الـ15 مليونا. وهذه «النهضات» داخل البروتستانتية في الولايات المتحدة على الخصوص، معروفة ومتوقعة، ولأنها تتكرر بوتائر وظروف وسياقات معهودة؛ فإن الباحثين في تاريخ الدين والتيارات الدينية، صاروا يستطيعون متابعتها، بل والتنبؤ بها، بيد أن الاهتمام بالأصوليين أو «التائبين» هؤلاء، ما جاء من كونهم جزءا من نهوض بروتستانتي جديد، بل من دخول عنصر جديد على الموقف، وهو تدخل هؤلاء بشكل مباشر في الشأن العام، وفي المعركة الانتخابية. فقد حولوا «عقائدهم» الذاتية إلى برنامج انتخابي إذا صح التعبير، ومن ضمنها حظر الإجهاض، وحظر العلاقات المثلية، والاهتمام بتقاليد العائلة، وتدريس الدين في المدارس العمومية. وهم لم يرشحوا واحدا منهم للرئاسة أو لمجلسي الكونغرس؛ بل قالوا إنهم سيدعمون كل من يعلن عن تبني البرنامج. وبالفعل فإنهم دعموا كارتر وأنجحوه أو أنهم كانوا بين مرجِّحي الكفّة لصالحه. إنما في دورة عام 1980 استطاع رونالد ريغان مخاطبة هؤلاء بشكل أفضل، لأن كارتر كان قد لقي فشلا في إيران عندما حاول إنقاذ الرهائن في السفارة الأميركية بطهران، كما أنه بدا مترددا وغير حازم في مسألة تدخل السوفيات في أفغانستان. وهكذا فإن ريغان في مخاطبته لهؤلاء الجدد المصرين على التأثير في الشأن العام، أضاف إلى إعلانه عن تأييد برنامجهم للأسرة والأخلاق والدين، عنصرين آخرين: اعتبار الاتحاد السوفياتي رأس الشر، والإصرار على هدمه لصالح الإيمان والحرية، والتركيز على حضور أمارات القيامة الواردة في «رؤيا يوحنا» في الإنجيل، التي تبشر بمعركة هرمجدون التي ينتصر فيها النور على الظلام! وعلى أي حال؛ فإن سني ريغان الثماني، حولت الأجواء باتجاه هجمات سائر المتدينين البروتستانت (وباسم الدين) على التأثير في الشأن العام؛ فظهرت «الأكثرية الأخلاقية»، وظهرت منظمة «الإيمان والحرية»، وكان من هؤلاء نيوت غنغريش الذي صار رئيسا لمجلس النواب ذي الأكثرية الجمهورية في التسعينات. وما أضعف من جانبه إلا اتهامه في مسائل أخلاقية في حياته الخاصة. وقد توارى غنغريش عن الأنظار لأكثر من عقد من الزمان، وها هو ذا يعود للمنافسة على ترشيح الحزب الجمهوري للرئاسة. وخصمه الرئيسي هو ميت رومني، الذي ينافسه في اجتذاب أنصار تيار «حفل الشاي» الذي يوشك أن يستولي على القرار في الحزب الجمهوري! ورومني لا يستطيع الزعم أنه من «المولدين ثانية»، فهو من أصول مورمونية (والبروتستانت الكبار يعتبرونهم مثل شهود يهوه من المنشقين لقولهم بتعدد الزوجات وأمور أخرى «غير مسيحية»)، لكنه يظهر تدينا شديدا في الحياتين الخاصة والعامة، وهو كثير التبرعات للجمعيات الدينية لأنه واسع الثراء، كما أنه يدعم بحماس كل برامج الإنجيليين الجدد لـ«تمسيح» أميركا، وتجديد أخلاقياتها، ومن ضمن ذلك الإقبال على دعم إسرائيل وحمايتها (وهذه نقطة لا يختلف عنهم فيها الديمقراطيون، إنما لأسباب غير دينية)! هناك إذن ثلاث ظواهر معروفة أو صارت معروفة منذ أواخر السبعينات؛ إقبال الجماعات الدينية الجديدة على التدخل في الشأن العام باندفاع وقوة وتنظيم، وظهور تيارات لها أسماء آخرها تيار «حفل الشاي» تبلور وتتبنى البرامج الخاصة بتلك الجماعات وتطرحها في المجال العام وتدعم النواب والحكام والرؤساء على أساس منها، وتحول هاتين الظاهرتين إلى عامل ثابت في السياسة الأميركية الداخلية والخارجية، خاصة في زمن الانتخابات على شتى المستويات. إنما الجديد.. الجديد هو ما كشفت عنه حملات المرشحين الجمهوريين للرئاسة في سياق التنافس فيما بينهم. وقد بدأ الحملة التي لها علاقة بالدين واستخداماته وتأثراته كل من غنغريش وسانتوروم. وكان اللافت لدى سانتوروم (الكاثوليكي) إلقاء خطاب عرمرمي في مهاجمة الرئيس الكاثوليكي الوحيد في التاريخ الأميركي: جون كيندي! في ماذا هاجمه؟ ما هاجمه في سياساته تجاه الاتحاد السوفياتي، ولا في دعمه للحركة المدنية للمساواة بين البيض والسود، بل هاجمه في خطابه المشهور للفصل بين الدين والدولة أو التمييز بين الدين والسياسة. فقد كان كيندي كاثوليكيا من عائلة متنفذة في مدينة بوسطن. وقد خشي أن يحسبه البروتستانت داعما لتقاليد البابوية التي كانت مستولية على الدين والدولة قبل حركة الإصلاح البروتستانتي. والمعروف أن أميركا البيضاء في الأصل أسسها مهاجرون بروتستانت من أوروبا هربوا من الاضطهاد الكاثوليكي، وصراع المائة عام بين الكاثوليك والبروتستانت. وقد أراد كيندي إشعار سائر الأميركيين بأنه منتمٍ لتقاليدهم في الدولة المدنية، ومنتمٍ أيضا إلى تقاليد «الدين العام» السائدة في الولايات المتحدة. إنه مؤمن، ولكنه مرتبط بالتقاليد الإيمانية الأميركية، وليس بالتقاليد الكاثوليكية السابقة على الإصلاح. وتقاليد «الدين العام» بالولايات المتحدة تسلم بأن الأرض الجديدة هي أرض الإيمان من دون تفرقة، وهي تهدف إلى حماية الدين من الدولة، وليس الدولة من الدين، كما تؤكد تقاليد العلمانية الناجمة عن الثورة الفرنسية. إن المهم هناك أن سانتوروم يتهم كيندي بالعلمانية العبثية، لأنه أراد تنحية الدين وأخلاقياته عن التأثير في الشأن العام! وهذا تأويل مغرض ولا شك يهاجم من خلاله «كاثوليكي جديد» كاثوليكيا أميركيا من أهل الدين العام. وحدث أمر آخر أيضا، وهو أن غنغريش وداعميه من جماعة «حفل الشاي» أقبلوا على أمرين: ربط أنفسهم بالمولودين ثانية، وربط هؤلاء بحفل الشاي وبالحزب الجمهوري، بمعنى أنهم هم وحزبهم المسيحيون الحقيقيون في البلاد اليوم! لقد انصرف الباحثون وأهل الاستطلاعات إلى مساءلة الجمهور بمناسبة هذه الظواهر أو الظاهرة الجديدة: ربط الدين بحزب سياسي، واعتبار البرامج السياسية لهذا الحزب هي «التطبيق الحقيقي» للمسيحية الأصلية! وقد تبينت من الاستطلاعات والإحصائيات أمور شاسعة وواسعة بالفعل. فحتى السبعينات من القرن الماضي كان المتدينون الممارسون يزيدون على الستين في المائة في أسئلة الاستطلاعات على الأقل. وما كانت هناك فروق بين المتدينين في الانتماء إلى أحد الحزبين الديمقراطي أو الجمهوري. بمعنى أن نحو نصف المتدينين (البروتستانت)، كانوا يدعمون الجمهوريين، والنصف الآخر كانوا داعمين للديمقراطيين. وقد تبين الآن (بعد عام 2005) أن نسبة المتدينين البروتستانت الممارسين قد تراجعت بمقدار 15 في المائة، وأن الممارسين هؤلاء كثرتهم الكاثرة من ناخبي الحزب الجمهوري. وذلك باستثناء الأقلية السوداء، والسود شديدي التدين، لكنهم يدعمون الحزب الديمقراطي بغالبيتهم العظمى! وفي المقالة التي كتبها ديفيد كامبل وروبرت بوتنام بمجلة «فورين أفيرز» (بعنوان: كيف ضربت جماعة «حفل الشاي» الدين بأميركا؟!) تفاصيل أخرى كثيرة، إنما المهم في هذا الصدد الاستنتاجان اللذان خرج بهما الكاتبان؛ أولهما أن الاتجاهات الدينية الجديدة في الولايات المتحدة (وهي ليست قاصرة على البروتستانت) تتجه للتدخل بقوة في الشأن العام، وهي لذلك تزداد تحزبا وتربط نفسها بأجندات اجتماعية وسياسية محافظة. وثانيهما أن ازدياد تدخل الجماعات الدينية في الشأن العام، يبعد طردا وعكسا فئات اجتماعية كثيرة عن الدين، خاصة فئات الشباب. وقد ترتب على ذلك أن الذين يخرجون من التدين أو الممارسة (وهو أدق) لا يعودون للتقليد أو الدين العام، بل إنهم يخرجون من الدين كله، وعندما يسألون عن أسباب إعراضهم، يتذمرون من الحزبيين الرجعيين باسم الدين، كما يتذمرون من تدخل الجماعات الدينية في الشأن العام، غير مراعين للدستور ولا للأعراف الأميركية! ولذلك فقد قال روبرت بللا صاحب مقولة الدين العام: إذا أردت أن تقضي على الدين في أميركا أو في مدينة معينة، فسلم زمام الأمور للراديكاليين الدينيين أو لأي جماعة عقدية متشددة، لأن هؤلاء يبعدون الجمهور والكثرة عن الدين، إذ يريدونه لأنفسهم خاصة، فيهرب النخبوية والطهورية الناس الذين كانوا يريدون اجتذابهم! هل يمكن قياس حالتنا على الحالة الأميركية؟ كما أن التاريخ لا يعيد نفسه فكذلك الظاهرة الأميركية لا تتكرر. إنما، وعلى الرغم من ذلك، عندي إحساس بأن الحزبية باسم الدين سوف تهبط وتيرتها في المرحلة المقبلة، وأن المستفيد من ذلك سيكون المدارس الفقهية التقليدية إذا أهلت نفسها لذلك. فالذي حصل خلال العقود الخمسة الماضية اتجاه بعض المتدينين إلى التشدد والتحزب بحجة العصبية للدين وتطبيقه أو تطبيق الشريعة في مسائل الشأن العام. والإسلام اليوم بعد الثورات هو في أوج قوته وظهوره وتأثيره في الشارع. وهذا الظهور الشديد لن يصرف الناس عن الدين، بل عن الحزبية الدينية إلى المذاهب الفقهية الهادئة وغير الصاخبة.