المواطنة وخطابات المأزق الطائفي

محمد حلمي عبد الوهاب

TT

رافق تراكم الإحساس بوجود مشكلات يعانيها الأقباط في مصر، نتيجة قبطيتهم، خطابا ظل يتناسخ طيلة القرن العشرين وبصورة مطردة. وبحسب الدكتور سامح فوزي؛ فإن خطابات المأزق الطائفي توزعت تاريخيا في خمسة خطابات رئيسية: أولها خطاب «الوعي بالتفرقة»، ويبدأ تاريخيا بتقديم وفد قبطي للورد كرومر مطلع عام 1897 عريضة تتضمن مطالب قبطية انحصرت في طلب المساواة في الوظائف الإدارية، وفي المطالبة بعطلة جلسات المحاكم أيام الآحاد، وتعيين عضو قبطي ثالث بمجلس الشورى، وآخر بلجنة المراقبة القضائية، وأخيرا تعليم الدين المسيحي للتلاميذ الأقباط في المدارس الأميرية. وقد تمت تلبية هذه الطلبات تدريجيا باستثناء الطلب الخاص بتولي المناصب في إدارة الدولة والتمثيل في المجالس النيابية.

ثم جاء انعقاد المؤتمر القبطي الأول بتاريخ 6 مارس (آذار) 1911 لمناقشة الهموم القبطية تحت شعار «المساواة والعدالة» ليمثل نقلة نوعية في بلورة هذا الاتجاه؛ حيث استندت قائمة المطالب إلى قاعدة «المساواة في المواطنة»، بما يضمن احترام يوم الراحة الدينية، والركون إلى الكفاءة في إسناد الوظائف العامة، والتمثيل النيابي، وحق الأقباط في إلحاق أبنائهم بالكتاتيب، أسوة بأبناء المسلمين.

أما على المستوى النظري، فلم تشهد هذه الحقبة كثرة في المؤلفات التي تعالج شأن الأقباط؛ حيث لم يظهر بها سوى كتاب لطبيب قبطي يدعى زغيب ميخائيل، قدم له سلامة موسى، وهو بعنوان: «فرق تسد.. الوحدة الوطنية والأخلاق القومية» (1950). والكتاب في مجمله يحمل شهادة إدانة لعصر يعتبره الأقباط ذهبيا (1923 - 1952) لتناوله وقائع وأحداثا ومطالبات تبدو غير منبتة الصلة تماما عما يشهده الشأن القبطي حاليا بعد مرور نحو ستين عاما على صدوره! ثاني هذه الخطابات هو خطاب «البحث في الأزمة الطائفية»، ويبدأ في تشكله التاريخي في أعقاب المأزق الطائفي في السبعينات؛ حيث اتجه بعض الباحثين الأقباط إلى دراسة أسباب المأزق الطائفي، وما فرضه من إشكاليات وهموم، وما يحمله من آفاق ومخاوف مستقبلية.

وفي هذا السياق، قدمت نادية رمسيس فرح محاولة لدراسة أسباب الصراع الديني، مؤكدة أن التعديلات التي أجراها نظام السادات وضعت الأقباط كلية في يد النظام من دون وجود أي أساس قانوني يحمي حقوقهم بوصفهم مواطنين يتمتعون بالمساواة الكاملة. ثم ظهرت محاولات تفسيرية أخرى على يد كل من: سميرة بحر، ومحب زكي، وهاني المعداوي، وغيرهم.

أما ثالث هذه الخطابات فيتعلق بـ«استدامة الوعي بالتفرقة»؛ حيث شهد الربع الأخير من القرن العشرين إعادة طرح المشكلات القبطية باستخدام خطاب بداية القرن، الذي يعتمد لغة تقترب من الوجدان الشعبي بما تحمله من عاطفية الإحساس بالمواطنة المنقوصة. وعلى رأس ممثلي هذا الاتجاه أنطوان سيدهم (1915 - 1995)، مؤسس جريدة «وطني» القبطية.

رابع هذه الخطابات خطاب «وجهاء الحياة العامة من الأقباط» ممن لعبوا دورا مهما في إدارة الشأن القبطي، خاصة في لحظات التأزم الوطني. وكان هؤلاء يتحركون في الفضاء السياسي استنادا إلى أصلهم الطبقي، أو موقعهم السياسي، أو ثقلهم الاقتصادي. وعلى رأسهم ميريت بطرس غالي، الذي حاول، في أواخر السبعينات، لحظة احتدام الموقف الطائفي، أن يلعب دورا رئيسيا، استنادا إلى الارتباطات السياسية لأسرته والتاريخ الممتد لها في العمل العام.

نصل أخيرا إلى الخطاب الخامس، خطاب «السياسيين الأقباط»، ويعتبر رشدي سعيد أحد الذين تحدثوا عن تجربتهم السياسية والصعوبات التي اعترضت طريقه في المجال العام بسبب قبطيته.

غير أن هناك خطابا سادسا، ألا وهو خطاب «الباحثين الجدد» ممن ينتمون إلى جيلي الشباب والوسط. وقد ظهر هذا الخطاب في تسعينات القرن الماضي معبرا في مجمله عن أزمة النظرة للذات والآخر. وعلى رأس هذا الاتجاه سمير مرقص، الذي قدم طرحا جيدا حول الهموم القبطية، مستعرضا فيه ست مشكلات رئيسية، مؤكدا أن هناك نوعين من الهموم القبطية:

النوع الأول من الهموم: «دينية مؤسسية»، تتعلق عادة ببناء الكنائس والأوقاف.

أما النوع الثاني فيتمثل في «الهموم الحياتية»، ويُقصد بها تصاعد المناخ الطائفي في شكل نصوص وردت في بعض أدبيات الحركات الإسلامية، أو في شكل ممارسات عنف موجهة ضد الأقباط، إلى جانب كل من: «تديين الحركة السياسية، والتراجع على أرض الواقع وفي الممارسة العملية عن مبدأ المواطنة، والإخلال بتكافؤ الفرص في الحياة العامة، والتشكيك في العقيدة الإيمانية للأقباط».

وفي الاتجاه نفسه، مضى الزميل سامح فوزي في كتابه «الخروج من نفق الطائفية.. هموم الأقباط»، الذي سعى، من خلاله، إلى استقراء آراء النخبة المثقفة حول الهموم القبطية، فأجرى نحو ثلاثين حوارا مع شخصيات مدنية فاعلة: ليبرالية، ويسارية، وإسلامية، تمحورت جميعها حول أسئلة ثلاثة هي: هل هناك هموم للأقباط؟ وما هذه الهموم إن وجدت؟ وما أفضل سبيل لحلها؟! وفي الواقع، ينتمي أتباع هذا الاتجاه إلى خطاب أسبق تاريخيا حمل على عاتقه مهمة إعادة اكتشاف المواطنة من جديد؛ حيث سعت مجموعة من المثقفين الأقباط إلى الاحتماء بمفهوم المواطنة في مواجهة المأزق الطائفي، ومضوا باتجاه إعادة اكتشاف المفهوم مرة أخرى واستخلاصه من قلب الحركة السياسية والدستورية. وعلى رأس هذا الاتجاه الدكتور ويليام سليمان قلادة (1924 - 1999)، رائد مدرسة المواطنة في الفكر السياسي المصري المعاصر.

يؤكد الدكتور قلادة أن هناك نوعين من حقوق الإنسان، هما: الحقوق المدنية، والحقوق السياسية. الأول هو حقوق الإنسان بصفة عامة، أما النوع الثاني فهو حقوق المواطن، وبينما تهدف الأولى إلى ضمان مجال شخصي لكل عضو في الجماعة يمارس فيه، بحرية، نشاطا خاصا من دون تدخل من الغير، أو من الدولة، تعتبر الثانية الأكثر فعالية؛ إذ تضمن لصاحبها المساهمة الإيجابية في ممارسة السلطة العامة في بلاده من خلال المشاركة في مؤسسات الحكم «السياسية والقانونية والدستورية».

ونتيجة لذلك؛ لا تنطبق صفة المواطنة إلا على من تكون له، طبقا للدستور والقانون، هذه الحقوق؛ حيث تتضمن المواطنة ركنين رئيسيين هما: المشاركة في الحكم، والمساواة بين جميع المواطنين. وبموازاة ذلك، هناك ثلاثة أنواع من الفقه تسود الحياة السياسية، هي: فقه الحكام، وفقه المحكومين، وأخيرا فقه المواطنة؛ حيث تنجح الحركة الدستورية الوطنية في اختراق حاجز السلطة ليجلس المحكومون معا في مراكز السلطة، ويبرز إجماع الشعب حول منطلق مشروع وطني للنهضة، وتتم اللحظة الدستورية حيث تكون حركة المحكومين بمثابة الأساس لأحكام فقه المواطنة؛ فيعمل الجميع، على الرغم من اختلافهم، على تحقيق كرامة الإنسان وحقوقه ووحدة الجماعة بعد أن وحدهم النضال الوطني ضد القوى التي تعمل على إذلالهم والتصرف في مقدراتهم، وأذاب ما بينهم من خلافات وتمايزات.

وفي المحصلة، يمكن القول: إن أهم ملمح يميز معالجة قلادة لقضية المواطنة هو ربطه بين الشعور بالانتماء وبين تمتع المواطن بجميع حقوق المواطنة، وتأكيده أن ضعف الشعور بالانتماء الذي يلاحظ في كثير من المجتمعات الإنسانية لا يرد إلى عيوب أصيلة في شخصية بعض الأفراد، أو انحراف شخصي في العاطفة الوطنية؛ وإنما إلى إحساس شرائح من المواطنين أنهم لا ينالون ما يستحقونه من حقوق المواطنة، سواء على الصعيد السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي.

جدير بالذكر أنه ظهرت بعد ذلك ثلاث أطروحات مهمة تمثل محاولات لتطوير مشروع الدكتور قلادة، استكمالا له، وتجاوزا لبعض الجوانب غير المكتملة فيه، ألا وهي: محاولة الدكتور نزيه الأيوبي، التي تناول فيها مسارات المواطنة في الخبرة المصرية في ضوء التحولات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي طرأت على بنية كل من الدولة والمجتمع.

والطرح الذي قدمه أبو سيف يوسف في كتابه الممتاز «الأقباط والقومية العربية» الذي ذهب فيه إلى أن الأقباط قد شاركوا في إطار مشروع محمد علي لبناء دولة عصرية، وأنه سرعان ما تكونت برجوازية قبطية شاركت في الحياة السياسية والاقتصادية، خاصة بعد إسقاط الجزية رسميا في عام 1855، ودخول الأقباط مجلس شورى النواب عام 1866، ثم المشاركة في مختلف الأحزاب السياسية التي تشكلت في القرن العشرين.

وأخيرا الطرح الذي قدمه سمير مرقص في صورة مراحل خمس مرت بها مسيرة المواطنة حتى الوقت الحاضر، وهي: مرحلة إقرار المواطنة بقرار سلطوي من أعلى، إبان عصر محمد علي، ومرحلة الالتفاف القاعدي حول المواطنة، أي تبلورها على المستوى الشعبي إبان انقلاب يوليو (تموز)، ومرحلة المواطنة المبتسرة في الفترة (1952 - 1970)، وتتسم بتغييب البعد السياسي لصالح المواطنة في بعدها الاجتماعي في إطار المشروع الاشتراكي لانقلاب يوليو، ومرحلة تديين الحركة السياسية (1970 - 1981) في ظل حكم السادات، وأخيرا المرحلة الحالية التي تتراوح بين الشد والجذب بين مختلف الأطراف السياسية والاقتصادية والثقافية.

وختاما، هناك «خطاب الإكليروس» الذي يتوزع بين خطابات ثلاثة، هي: خطاب الكنيسة الأرثوذكسية، ممثلا في شخص البابا شنودة، وخطاب الكنيسة الكاثوليكية، ممثلا في شخص الأب ويليام سيدهم، وخطاب الكنيسة الإنجيلية، ويمثله القس الدكتور أندريا زكي.

لكن أشد الخطابات تأثيرا وخطورة هو خطاب أقباط المهجر، الذي يعبر عنه نشطاء مسيحيون في الخارج يهتمون بالشأن القبطي وينشئون لذلك منظمات يتحدثون باسمها، كشوقي كراس، الذي يتحدث عن هموم الأقباط كأقلية مضطهدة يريد المستعمر العربي الإسلامي القضاء على الشخصية القبطية أو تحويلها للإسلام، أو تهميش الأمة القبطية سلالة الفراعنة وأصحاب الأرض الأصليين، مؤكدا أن الأقباط المتعاونين مع النظام المصري إنما تستخدمهم حكومات مصر العنصرية.. وتلك قضية أخرى!

* كاتب مصري