شروق من غرب الأرض

موئل يوسف عز الدين

TT

يشتهر سمك السلمون برحلته العجيبة بين مولده ومكان موته، فهو يبدأ رحلة الحياة بأن يبيض في مكان مولده ثم يموت.. تاركا صغاره في مكان مولدها، ويرحل الصغار مع مجرى المياه مسافة تزيد على آلاف الكيلومترات في بعض مناطق العالم، وكثيرا ما تستغرق هذه الرحلة سنتين من الزمن، يكبر فيهما الصغار ويتكاثرون ليكونوا أمة من الأمم، ثم يبدأون رحلة العودة إلى مسقط رأسهم في رحلة شاقة طويلة ضد تيار المياه. وعندما يصل السمك إلى نفس المكان الذي ولد فيه، يبيض بيضه ثم يموت.. قرأت هذه الكلمات على لوحة مثبتة على طرف نهر«دي» في ويلز وأنا أنظر إلى الأسماك وهي تقفز فوق مياه النهر اللامعة في رحلة عودتها.. وقلت في نفسي هل يعود السلمون العربي إلى أرضه..؟ أم أننا قد أنسنا برد وضباب الغرب الذي ينعكس على غموض ساسته وبرودة أهله وميكانيكية الحياة فيه؟

وكثيرا ما ساءلت نفسي عن نهاية الطريق الذي أوصلني إلى غرب الأرض ثم شاء القدر لي أن أتحول من عابر سبيل إلى ساكن على كتف الطريق.. وما أكثر الساكنين اليوم على أكتاف الطريق في أوروبا. أكثرهم كالطيور التي تسكن على حواف النوافذ، فلا أهلها يسمحون لها بالدخول، ولا هي تريد الدخول في داخلها خوفا من الاختناق وسط دخان الحفلات الصاخبة والأنوار التي تخطف الأبصار. واليوم، يدرك الكثير من المسلمين أن عليهم ألا يبتلعوا كل ما يقدمه الغرب لهم، لأنه يحمل في ثنايا طعامه المريء أشواكا ما أكثر ما تعود على صاحبها بالأذى والخسران وشد الشعر.. والله في عون من هو أصلع! فالكومبيوتر يأتي معه الفيروس اللعين، والسيارة يأتي معها الكسل والكروش، وعموم التقنية يأتي معها بطالة الإنسان.. أما الزواج بالغربية، فيأتي معه فقدان الأولاد وربما أيضا فقدان البيت والسيارة والقطة وأسماك الزينة!! والحقيقة أن مشكلة التأقلم مع البيئة الغريبة لم تعد منحصرة في حدود أرض الغرب، بل سافرت واستقرت في بلاد المسلمين منذ أزمان، فأصبح الكثير من المسلمين وحتى التقليديين منهم يأكلون البيتزا ويلبسون الجينز ويحلمون بالألوان.

أنا شخصيا قد وطئت أوروبا وما من فجر في سواد راسي، واليوم قد «طرد السواد بياضه كالصبح أحدث للظلام أفولا»، كما يقول مروان بن أبي حفصة.

وكم حاولت أن أروض نفسي على ظواهر الطبيعة في بريطانيا فلم أفلح. فالريح تبقى مُعْصِفَة، والمطر يبقى خانقا، والشمس تبقى خجولة باردة. وحتى اليوم بعد أكثر من عقدين من الزمن ما زالت أحلامي تسكن فيها رائحة النخيل وطعم تراب النهر والسمك العراقي المسقوف.

وفهمنا لزمننا هذا يتطلب منا البحث في قضايا بعضها حساس مثل: موضوع الاختلاط بين الجنسين، وموضوع استثمار المال، بل وحتى موضوع اللباس والحجاب، وهي كلها أمور لا بد للفرد العادي قبل المختص أن يعرف فيه الضوابط الحقيقية التي تحكمها، فلا تختلط هوية أبنائنا عندما يلبسون الدشداشة أو الثوب ويغطون رؤوسهم بالبيسيول كاب بدلا من العقال العربي الجميل. أقول هذا رغم علمي بإن الهوية لا تنحصر في اللباس، بل تحكمها الضمائر وصدق المعتقد، لأن الأمم الراقية اليوم تعتز بلباسها ولا تنزعه تقليدا لأحد.

ولا شك في أن هذا البحث قد بادره كثير من المفكرين المسلمين، ولكن يبدو لي أننا بحاجة إلى مزيد منه، فنفكر بعقل إسلامي نبوي يتفق مع المجتمع الجديد، ولا نستورد التفسيرات الفقهية من أبعاد جغرافية أو تاريخية مختلفة مع مناسبة الحال. وبودي البحث في ما يمكن أن أسميه المصلحة الملجئة التي أراها مصلحة رابعة، بالإضافة إلى المصالح المعتبرة والمرسلة والملغاة التي ذكرها علماء الأصول، ولعلها تكون منفذا للكثير من المسلمين الذين يعيشون على نوافذ غرب الأرض ويبحثون عن حل شرعي للتعامل مع واقع العالم الجديد، الذي كثيرا ما تلجئهم أحواله إلى الأخذ بما عمت به البلوى. ومن هذا، الإقرار بأن أبناءهم يعيشون في بيئة غير بيئتهم وزمن غير زمنهم وقد يلجأون إلى ما لا يريدون، كما حصل في قضية الحجاب في فرنسا.

وهذا التصور يمكن إثراؤه بطرح أسئلة مهمة: هل يمكن للمسلمين أن يدخلوا في داخل التركيبة الاجتماعية الغربية ويبقوا مسلمين؟ هل يمكن لهم ولأبنائهم وبناتهم أن يعيشوا حياة عادية كغيرهم من الناس؟ فيعملوا ويعطوا كما يفعل الآخرون؟ ويفرحوا ويبكوا كما يفعل الآخرون؟ هل لهم أن يموتوا ويحيوا كما يفعل الآخرون. أم أن عليهم أن يعيشوا حياة خاصة بهم تختلف كل الاختلاف أو ربما بعضه عن حياة الآخرين؟ وما هي - يا ترى - حياة الآخرين «العادية» التي يمكن أن يعيشوها أو لا يعيشوها؟ كل هذه أسئلة تبحث عن أجوبة، وبعضها أسئلة صعبة، وأجوبتها قد تكون أصعب، لا فقط على العرب المسلمين، بل حتى على غير المسلمين من العرب وغير العرب من المسلمين.

والبحث عن تفسيرات جديدة لخط الحياة، لا يعني أبدا الانسلاخ عن الإسلام، بل يعني التعامل مع الحياة بنفس نهج الرسول حين أشرقت شمس الله على المجتمع العربي الأول، إذ وجد نبي الوحي والهدى نفسه أمام ثلاثة أنواع من الممارسات الاجتماعية: بعضها رفضها.. لأنها تخالف الإسلام كوأد البنات وأكل الربا.. وأقر بعضها لمناسبتها لروح الإسلام كمبدأ الشورى والعاقلة، ثم استحدث تصورات جديدة للمجتمع أحدثت فيه موجة كونية هائلة، لا يزال مدّها مستمرا حتى يومنا هذا. ومثل على هذا هو منهجه في الاقتصاد الإسلامي وتشديده على أن «المال هو مال الله، والخلق كلهم عيال الله». ورغم أن هناك من ضعّف هذا الحديث، فهناك من دعم معناه كالسيوطي في «الحاوي» للفتاوى، ومعناه يتقوى بقوله تعالى «لله ما في السموات وما في الأرض» (البقرة 284)، أو قوله تعالى «وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين» (هود 6)، وهي أطراف من نصوص عدة، تطرح منهجا فكريا فريدا لو فهم وطبق لحل الكثير من مشاكل الاقتصاد والبيئة.

وفي بحثنا عن الذات، يمكن أن نستفيد من تجربة أهل غرب الأرض، فهم اليوم يعيدون النظر في كل نظرياتهم المادية وما خرج منها من اقتصاد دمر حضارتهم وأدى إلى طغيان البنوك عليهم. إن تظاهر البريطانيين في لندن هو من أكبر الأدلة على أن الغرب يعيد النظر في نفسه بشكل جاد وأنه يقترب من النظرية الإسلامية التي تضع الإنسان قبل المادة، والعدل قبل الكسب، والحياة قبل الموت. أذكر أني كنت مارا أمام كاتدرائية سانت بولص القديمة في لندن، فرأيت المعتصمين وقد رفعوا شعاراتهم التي تندد بالمادية الطاغية التي ألحقت ضررا هائلا باقتصاد العالم، بل تكاد تدمره، لأن نظام الاقتصاد اللاإنساني كما يقولون - ويقول الكثير من الغربيين اليوم - لا يحمل صفة التنمية المستديمة. والكارثة التي سببتها سياسات البنوك النفعية دمرت البيئة، كما أنها دمرت الإنسان، وهي كارثة يدفع قيمتها اليوم المواطن العادي من الضرائب التي يقدمها لحكومته. ومن أكثر ما استوقفني في موقف المتظاهرين عبارة بيئية من بين عبارات كثيرة رفعت في لوحاتهم تقول: «إن النظام الاقتصادي الحاضر يلوث الأرض والبحار والهواء، مؤديا إلى إلحاق أضرار بالغة بأصناف الكائنات وبيئتها، وهذا سيؤدي بالإنسانية أن تنحدر نحو تغير مناخي مدمر لا يمكن تغييره.. ولذا، فإننا نطالب باقتصاد عادل يرعى بيئة متجددة مستديمة، ويخدم أجيال اليوم دون أن ينسى أجيال المستقبل».

أذكر وقتها أني ساءلت نفسي: هل يا ترى ستشرق الشمس ثانية من غرب الأرض؟

* أستاذ الدراسات الإسلامية في جامعة ويلز ببريطانيا