الأمين العام للمجلس العلمي الأعلى في المغرب لـ «الشرق الأوسط»: الإفتاء ليس عملا مزاجيا

د. محمد يسف: فوضى الفتاوى في المغرب.. فتاوى شاذة وبعضها طريف وأخرى غريبة

د. محمد يسف الأمين العام للمجلس العلمي الأعلى في المغرب («الشرق الأوسط»)
TT

اختار المغرب، منذ عام 2004، أن يضبط إصدار الفتاوى؛ حيث أُنشئت هيئة خاصة بذلك، عهد إليها بالإفتاء في مستجدات الأمور المتعلقة بحياة الناس الدينية والدنيوية. وعلى الرغم من ذلك ما زالت تصدر فتاوى من أفراد هنا وهناك، تثير الكثير من السجال الفقهي، وهي لها علاقة مع «فوضى الفتاوى» في عدد من البلدان الإسلامية بسبب ظهور ما يُعرف بفقهاء أو علماء القنوات الفضائية.

في هذا السياق، يقول الدكتور محمد يسف، الأمين العام للمجلس العلمي الأعلى في المغرب، الذي شغل أيضا منصب عميد كلية الشريعة بفاس: «لا أحد يشك اليوم أن قضية الإفتاء الشرعي لا ينبغي أن تبقى بيد الأفراد، يتعاملون معها بأمزجتهم وبطبيعة تفكيرية لا تراعي المقاصد الشرعية المرجوة من وراء إصدار الفتوى». ويرى الدكتور يسف أن «عالم اليوم يتجه إلى تنظيم حياته على المؤسسات، والفتوى لا يمكن أن تبقى وحدها خارجة عن هذا التوجه الذي يفرض نفسه في كل شيء». ويضيف أن «الشأن الديني كله ينبغي أن يُضبط عن طريق تنظيمه مؤسساتيا؛ لأن من شأن ترك الفتوى بيد الأفراد أن يُحدث تضاربا وتنافرا بين فتاواهم في الأكثر الغالب، وهذا ينعكس سلبا على حياة الجماعة المسلمة ويؤدي إلى عدم اطمئنانها إلى الجهة التي تضبط مقاصد الشرع ولا تحترم تدين الناس واطمئنانهم إلى الجهة التي يتلقون منها طريقة تدينهم الصحيحة».

وحول ما إذا كان إصدار الفتوى مضبوطا في واقع الأمر، يرى الدكتور محمد يسف أن «علم الفتوى يعرف اضطرابا لا حدود له، على مستوى مضمون الفتاوى التي تصدر، لا سيما منها تلك التي تأتي عن طريق القنوات الفضائية التي يجهل الناس هوية المفتي ومذهبه، وأهليته لإصدار الفتوى».

ويفترض الدكتور يسف أن تتوافر في المفتي شروط، منها: «أن يكون عالما بالقضايا التي يفتي فيها، مدركا كل الإدراك للمجتمع الذي توجَّه له هذه الفتوى؛ لأن الفقه في الحقيقة فقهان: فقه بالدين وقضاياه، وفقه بأحوال المجتمع ومشاكله»، ليخلص إلى اعتبار «الفتوى في حقيقتها إخبار عن الشرع وتوقيع عن الله، كما يقول العلماء».

وينبه الدكتور يسف إلى أن «الذي تصدى لإبداء رأي الشرع في النوازل التي تعترض حياة الناس لا بد أن يستحضر خطورة الموضوع وأن يتحرى، كل التحري، في أن يكون ناصحا لله ولرسوله وللمؤمنين».

ومن ثم، فإننا نجد أن العلماء الكبار، حسب الدكتور يسف «كانوا يتحرجون دائما من إعطاء الأجوبة السريعة عن القضايا التي تُعرض عليهم ويطلب منهم الإفتاء فيها، وكثيرا ما رأينا أنهم يحيلون السائلين إلى علماء يعتقدون أنهم أكثر علما منهم بشؤون الدين والحياة».

ويستدل الدكتور يسف في هذا الباب بأحد الأئمة الأربعة، قائلا: «فهذا الإمام مالك بن أنس، وهو من هو علما ووقارا وهيبة وجلالا، كانت تُطرح عليه عشرات المسائل، فيجيب عن العدد القليل منها، ويقول في الباقي: لا أدري». وكثيرا ما كانوا يرددون: إذا أخطأ العالم قول «لا أدري» أصيبت مقاتله.

وهو ما يعني أن العالم لا ينبغي أن يجيب عن كل شيء يُعرض عليه حتى يتفحص الأمور كلها ويعرضها على ميزان الشرع والواقع.

ومن هنا يقول الدكتور يسف: «ندرك خطورة الاضطراب والفوضى اللذين يشهدهما عالم الناس في عصرنا هذا وانعكاسات الفتوى المتضاربة وخطورتها على التدين الصحيح وعلى ثقة الناس في شريعتهم وفي قدرة علمائهم على ضبط حياة المتدينين وتمثيل شرع الله تمثيلا صحيحا».

وفي ما يرجع للمغرب، ومنذ عام 2004، تم إنشاء هيئة علمية مكلفة بالفتوى الشرعية في القضايا التي تهم الشأن العام. وهو أمر ينقل الفتوى من الأفراد إلى الجماعة. بمعنى أن الإفتاء أصبح اليوم بالمغرب مؤسسة رسمية تتشكل من علماء الشريعة وآخرين من خبراء ومختلف العلوم. وهكذا يرى الأمين العام للمجلس العلمي الأعلى أن المغرب تفادى السقوط في الخلط الناشئ عن ترك الفتوى بيد الأفراد. ويضيف أننا في المغرب «نميز بين نوعين من الجواب عن أسئلة السائلين»، موضحا أن السؤال إذا كان يتضمن قضية تهم الشأن العام نسميه فتوى، وإذا كان السؤال يهم الشخص في علاقته بربه أو أسرته أو إذا كان أمرا خاصا، فهذا يسمى إرشادا وتوجيها».

في إطار الإرشاد والتوجيه، وهي المهمة الموكولة في المغرب للمجالس العلمية المحلية، بمختلف المحافظات، استقبلت صناديق الفتوى بالدار البيضاء، مثلا، آلاف الأسئلة من مواطنين مغاربة وتمت الإجابة عن 9881 سؤالا في منطقة الدار البيضاء خلال العام الماضي. وهو ما بيَّن الإقبال الواضح من قبل المغاربة على الاستفتاء وتوضيح ما أشكل عليهم من أمور دينهم وأحوالهم الدينية وعلاقتهم بربهم.

كان المجلس العلمي المحلي لعمالة (محافظة) مقاطعات الفداء مرس السلطان، بالدار البيضاء، قد أنشأ صندوق الفتوى والاقتراحات في إطار تجسيد سياسة القرب، واستجابة لمطالب السكان الراغبين في تلقي الإجابات عن أسئلتهم ومستجدات الحياة من الأقضية والمسائل الشرعية والحياتية.

بهذا الخصوص، يؤكد الدكتور محمد موشان، رئيس المجلس العلمي المحلي بمحافظة الفداء مرس السلطان، أن «المجلس وضع عددا من صناديق الفتوى موزعة على مجموعة من المساجد الكبيرة التي تشهد حضورا مكثفا للمصلين يضعون فيها أسئلتهم واستفساراتهم واقتراحاتهم كذلك».

وعن أسلوب تدبير هذه الفكرة، ذكر الدكتور موشان أنه «يتم تجميع الأسئلة من الصناديق المخصصة لها، وتوضع بالمجلس، ثم تقوم لجنة من العلماء، تحت إشراف رئيس المجلس العلمي، بفرز الأسئلة، والإجابة عنها بحضور جميع أعضاء اللجنة، وفقا للمذهب المالكي، مستحضرين فقه الواقع، ملتزمين أسلوب التيسير، ومجتنبين أسلوب التنفير والتيئيس. وحرصا من المجلس العلمي على تعميم الاستفادة، وبعد المشاورة والتمحيص والتدقيق في متعلقات الأسئلة والإحاطة بتفاصيلها، توزع على السادة العلماء، ثم يتم تحديد موعد للإجابة عن أسئلة المواطنين في المساجد التي تحتضن اللقاء. ويعلن عنها في المساجد بإعلان مكتوب، وفي القناة السادسة، وفرع الإذاعة المغربية بالدار البيضاء».

وأكد رئيس المجلس العلمي المحلي أنه لسهولة التواصل بهذه الطريقة، باعتبار أنها لا تكلف سوى ورقة صغيرة، وصاحبها في معزل عن الإحراج، لقي هذا المشروع القبول والترحيب عند الناس، وكثرت أسئلتهم، موضحا أن الأسئلة التي يتم تلقيها من صندوق الإرشاد تكون متنوعة وشاملة لكل ما يشغل بال المسلم في أمور دينه ودنياه، وتتوجه بالأساس إلى ما يتعلق بالعبادة، والمعاملات المالية، والعلاقات الأسرية.

وحول بعض الفتاوى التي تصدر من هنا وهناك، من خارج الهيئة العلمية المكلفة رسميا بتدبير أمور الفتوى والإفتاء في المغرب، من قبيل الإفتاء بجواز شرب المرأة الحامل للخمر بدافع الوحم، أو جواز مجامعة الرجل لزوجته الميتة بعد مفارقة الروح لجسدها، أو الإفتاء بتزويج الطفلة التي تبلغ من العمر 9 سنوات، قال الدكتور محمد يسف: «مثل هذه النوازل الغريبة لا يمكن النظر إليها على أنها إفتاء جاد، وإنما هي خواطر وسوانح خطرت ببال أصحابها، لا تلامس هموم الناس وقضاياهم الحقيقية»، على حد تعبير الدكتور يسف.

وبخصوص الهيئة العلمية المكلفة بالإفتاء، فإن أول استفسار تلقته عند تأسيسها كان من طرف العاهل المغربي الملك محمد السادس حول المصلحة المرسلة في علاقتها بتدبير الشأن العام، ثم توالت النوازل والاستفتاءات من مختلف الوزارات والمؤسسات من داخل المغرب، وحتى من خارجه، حول قضايا متنوعة تعد بالمئات، وستتولى الأمانة العامة للمجلس العلمي الأعلى إصدار ديوان خاص بها قريبا.

ونذكر في ما يلي بعض النماذج من الفتاوى التي أجابت عنها الهيئة على سبيل المثال:

طلب فتوى من وزارة التجهيز والنقل حول بيان حكم الشرع الإسلامي في استعمال أجهزة لرصد الكحول لدى السائقين، فأفتت بجواز ذلك. وأفتت في سؤال وزارة الأوقاف حول جواز إجراء القرعة بين المرشحين لأداء فريضة الحج، باعتباره حلا يرضي الراغبين في الحج، وليستجيب في الوقت نفسه للظروف الضاغطة وتجنب الاكتظاظ بالديار المقدسة التي يقصدها الحجاج من جميع أنحاء العالم. وأجازت في فتوى أخرى دخول المرأة الحائض للمسجد قصد التعلم والتعليم.

ومن بين طلبات الفتوى التي وردت على الهيئة من خارج المغرب، طلب مسجد ليون الكبير بفرنسا رأي الشرع في مسألة «الموت الرحيم» أو ما يعرف برصاصة الرحمة، وهي وسيلة يتم اللجوء إليها في القتل، وأفتت الهيئة بعدم جوازه.

إلى ذلك، توصلت الهيئة المكلفة بالإفتاء بالمغرب بسؤال من دار الفتوى التابعة للمجلس الإسلامي الأعلى بأستراليا لإبداء الرأي الفقهي حول تحميل مسؤولية التعرض للاغتصاب للمرأة غير المحجبة، وكان جواب هيئة الإفتاء المغربية أن «على المرأة أن تلتزم باللباس الشرعي والآداب الإسلامية، غير أن خروجها على حال مخالف لهذه الآداب لا يبرر الاعتداء عليها».

وتبقى إحدى طرائف طلب الفتوى السؤال الذي تقدمت به الوكالة الوطنية لتقنين المواصلات في المغرب (هيئة حكومية تشرف على قطاع الاتصالات) لمعرفة رأي الشرع قبل الترخيص لإحدى الشركات التي اتخذت اسما مثيرا يحمل إيحاءات جنسية. والإفتاء في موضوع تعاطي المنشطات في المجال الرياضي.

وحول بعض القضايا المستجدة في المجتمع، مثل استفحال صنع الخمور وبيعها للمسلمين وغير المسلمين في المغرب داخل الأحياء الشعبية، يرى الدكتور يسف، الذي عمل ضمن مهامه المتعددة أيضا خطيب جمعة، أن حكم الشرع في هذه الأمور واضح «لا يمكن أن تحلها الفتوى ولا حتى التغلب عليها بقوة القانون، ولا بالسجن والإكراه، وعلاجها الوحيد يكمن في التوعية والإرشاد والتربية في المدرسة والأسرة والمساجد وتفقيه الناس بالأضرار الدينية والدنيوية والآفات التي تنشأ عن تعاطي هذه المدمرات وليس فقط المخدرات».

وعن القيمة القانونية والإلزامية للفتوى، قال الدكتور محمد يسف: «إنها تختلف عن الحكم القضائي المشمول بالإلزام والتنفيذ». وأوضح أن «الفتوى إخبار بحكم شرعي لا على وجه الإلزام، في حين أن القضاء إنشاء للحكم الشرعي على وجه الإلزام المشمول بالتنفيذ»؛ لأن القضاء، على حد قول الدكتور يسف، يفصل في الخصومات وينهي النزاعات بين الناس ويضبط الحقوق ويحمي الممتلكات.