الانتصار للقرآن في القديم والحديث

رضوان السيد

TT

«الانتصار للقرآن» هو عنوان كتابٍ لأبي بكر محمد بن الطيّب الباقلاّني (- 403هـ). والباقلاّني هو المؤسِّس الثاني للمدرسة الكلامية الأشعرية، لكنه أيضا - ورغم مشرقيته - فقيهٌ مالكيٌّ، وكتب في أصول الفقه والتفسير وعلم الكلام. ومن حسن الحظّ، أنه وبخلاف ما حصل مع أبي الحسن الأشعري (- 324هـ) وجيل تلامذته الأوائل والذين ضاعت أكثر كتبهم - فإنّ كتبه في علم الكلام بقيت. أمّا كتبه في أصول الفقه والتفسير، والتي لم تصلْنا؛ فإننا نعرف أبرز آرائه واختياراته فيها من خلال كتب الجيل التالي من الشافعية والأشاعرة مثل أبي إسحاق الشيرازي وإمام الحرمين الجويني وأبي حامد الغزالي. ويبلغ من شهرته لديهم وفي علم الكلام وأصول الفقه أنهم يكتفون عند الاقتباس منه بالقول: قال القاضي أو قال القاضي أبو بكر. وقد تحرك الرجل في بلاطات البويهيين وبين الري وبغداد، وهناك قصةٌ عن ذهابه إلى البلاط البيزنطي مبعوثا من عضد الدولة البويهي (- 372هـ). وهذه القصة إن كانت تاريخية، فهذا يعني أن الأشعرية السنية قد صار معترفا بها، باعتبارها مدرسةً كلاميةً معتبرة، لأنّ البويهيين كان بلاطهم يحفل بالمعتزلة والزيدية، وهؤلاء كانوا هم البارزين في مسائل الجدال مع الديانات الأُخرى.

إنما ليس هذا هو الموضوع هنا. بل كتابه في القرآن، والذي عاد الاهتمامُ به ضمن العودة لبحوث القرآن لدى المسلمين قديما وحديثا، ولدى المستشرقين قديما (في القرنين التاسع عشر والعشرين) وحديثا (في زمن المستشرقين الجدد خلال العقدين الماضيين). لقد عرفنا منذ مطلع القرن العشرين مخطوطةً تُنسَبُ للباقلاّني عنوانها: إعجاز القرآن. وقد نشرها نشرا علميا السيد أحمد صقر، وأشار في التقديم إلى أنها ربما كانت في الأصل كتابا أكبر، وما بين أيدينا اختصارٌ له. لكننا نعرفُ الآن أنها جزءٌ من كتابٍ أكبر بالفعل هو «الانتصار للقرآن». فقد وجد فؤاد سزكين الدارس التركي المعروف الجزء الثاني من الانتصار في مكتبات اسطنبول، ونشره بطريقة التصوير، ثم جرى تحقيقه في جزأين من جانب بعض الطلاّب العرب. ونرجِّحُ الآن أنّ استلال الجزء الخاصّ بالإعجاز من الانتصار ربما قام به الإمام عز الدين بن عبد السلام الفقيه الشافعي المشهور، الذي اشتهر بالإقبال على اختصار كتبٍ كثيرة في الأصول والكلام والحياة الروحية في الإسلام. وبالعودة إلى الانتصار نعرف أنّ المتكلمين مثل اللغويين والمفسّرين بدأوا الاهتمام بالقرآن في القرن الثاني الهجري، ولأهدافٍ مختلفةٍ عن أهداف المفسِّرين وأهل العمل اللغوي بل والفقهاء. فقد اتخذ المتكلمون آنذاك (وغالبيتهم عُرفوا تحت عنوان المعتزلة وإن لم يكونوا منهم بالضبط، كما حدَّد المعتزلة أنفسهُمْ فيما بعد!) القرآن مستندا في أمرين: إثبات نبوة النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، ومجادلة أهل الكتاب في مسائل الوحدانية والقضاء والقَدَر، وتحريف الشرائع. وفي القرن الثالث الهجري، ظهرت نظرية الإعجاز بشكلٍ مشتركٍ بين اللغويين والمتكلمين، فانضم إلى موضوع الجدال بشأن النبوة والوحي والشريعة، موضوع الأسلوب القرآني وتفرده وإعجازه. ومع ظهور نظرية النظم لعبد القاهر الجرجاني في القرن الخامس الهجري، تقدمت مسألة الإبداع الأُسلوبي في القرآن، وتراجعت الموضوعات الأُخرى إلى أن انتهت تماما بعد القرن الخامس. ويظهر ذلك في الاختصار الذين صنعه ابن عبد السلام لانتصار القرآن في القرن السابع الهجري.

في كتاب الانتصار تبدو تلك المسائل التي صاحبت الدرس القرآني منذ ظهوره في القرن الثاني. فهو شأن القاضي عبد الجبار وأبي حاتم الرازي المعاصِرَين له، يدافع بالقرآن عن صحة نبوة النبي أو إثباتها، ويتعرض لكلام «الزنادقة» والدهريين وأهل الكتاب الذين يُنكرون نبوة النبي، أو يتنكرون للوحي والنبوة أساسا. لكنه يهتم أكثر بالمسائل اللغوية والأُسلوبية واللسانية، مُشيرا إلى أساليب العرب البيانية، وكيف تميز القرآن عنها أو عليها. وتظهر لديه ثلاثة أمور لا يتعمقُ فيها: معنى المعجزة وعلاقتها بالنبوة، وضرورة الاستناد إلى القرآن في المسائل العَقَدية، التي كان أهل السنة يتجادلون فيها مع المعتزلة في زمانه، وأخيرا مسألة الاتساق الأُسلوبي التي لا يمضي فيها باتجاه النظم الجرجاني فيما بعد، بل باتجاه تفضيل الأسلوب القرآني على أساليب كتب الدين الأُخرى، والقصائد الشعرية العربية! ما معنى العودة إلى هذا الموضوع الآن؟ السبب هو الإقبال الشديد من جانب الدارسين الغربيين على تتبُّع القرآن وأصوله والدراسات حوله لدى المسلمين، ومن ضمن ذلك دراسات الإعجاز، والباقلاّني بالتحديد. وكان المسلمون المُحْدَثون قد عادوا للاهتمام بموضوع القرآن - خارج فن التفسير - على أثر ذكْر طه حسين له بطريقة غير ملائمة في كتابه في الشعر الجاهلي (1925). ولأنّ «التشكيك» كما فهموه، ما تناول الأسلوب، بل تناول القَصص والخبر ذات الأصل التاريخي، فقد اهتموا بأصول الأخبار والقصص في القرآن، كما عادوا للاهتمام بموضوع الإعجاز والنبوة للردّ على المستشرقين الذين اعتبروا طه حسين تلميذا لهم وتطورت استراتيجيات الدفاع بالطبع، كما تطورت استراتيجيات القراءة والدراسة فيما بين أمين الخولي ومدرسته وإلى نصر حامد أبو زيد. لكنّ التيارات الإحيائية الإسلامية بعد ثورة سيد قطب البيانية والمضمونية، استندت في قولها بإعجاز القرآن إلى التنظيم الاجتماعي الذي يدعو إليه، بل والمذهب السياسي الذي وجدوه حاضرا فيه. وهكذا مضى هذان التياران جنبا إلى جنب على عداءٍ شديد: تيار القراءة الأدبية للقرآن، والتيار الإحيائي الذي يريد «تطبيق» الرؤية والأحكام القرآنية في المجتمع والدولة.

وقد بدأ المستشرقون «العلميون» مع القرآن بدايةً أُخرى. ففي ثلاثينات وأربعينات القرن التاسع عشر، راحوا يقرأون الأصول التوراتية والإنجيلية للقرآن. ورغم غلبة النزعة الفيلولوجية عليهم؛ فإنّ نولدكه الذي كتب كتابه الشهير «تاريخ القرآن»، تأخر حتى عام 1910 حتى كتب دراسةً في لغة القرآن. أمّا الآخرون – حتى الذين اهتموا بلغة القرآن - فقد كان هدفهم إيضاح غوامض المفردات القرآنية، لكي يُسهم ذلك في بيان أصول القرآن اليهودية والمسيحية (من خلال السريانية). وفي القرن العشرين قبل الحرب الثانية وبعدها، استمر هذا الميل القوي لدرس علائق التبعية بين النص القرآني والتقاليد الكتابية والشفوية لدى أهل الكتاب، مع الإشارة إلى أجواء النصرانية العربية في القرنين السادس والسابع للميلاد. ثم ردود الأفعال على الإسلام في القرنين الثامن والتاسع. وظهر أناسٌ يريدون كتابة سيرةٍ للنبي ودعوته من خلال القرآن، كما حاول بعض الآيديولوجيين إدخالَ القرآن والإسلام في هذه الظواهر الكبرى للديانات السامية.

وقد غادر المستشرقون والدارسون الجدد هذه الموضوعات كلها، وانصرفوا إلى قراءة الأصول المتعددة للقرآن، وكيف صار نصّا قانونيا وزمن ذلك، وماذا يمكن فهمه من محيط القرآن القديم؟! والواقع أنه فيما يتعلق بالسياق أو المحيط، هناك ثلاث مدارس لدى المستشرقين الجدد هؤلاء. فهناك الذين يعتبرون القرآن نصا سريانيا أو شبه سرياني وهو مترجَمٌ إلى العربية من جانب النبي وأهل عصره. وهؤلاء يستندون في ذلك إلى كثرة المفردات السريانية في القرآن. أمّا المدرسة الثانية فتعتبر القرآن نتاجا للحقبة الكلاسيكية المتأخرة (5 - 7 للميلاد). وهاتان المدرستان لا مانع لديهما أن يكون النبي محمد هو الذي ظهر القرآن في عصره وعلى يديه، وإنما تقول المدرسة الأولى إنّ القرآن هو بمثابة ترجمة ربما عن إنجيل الأبيونيين (= الفقراء)، بينما تقول الثانية إنه نتاج قرنين، وليس كتابا سريانيا مقدسا واحدا. وتعتبر المدرسة الثالثة أنّ القرآن نتاج مدارس وحِقَب وعصور، امتدت على نحو القرنين بعد النبي محمد. فما تركه النبي (وأصحابه) طبقة، وهناك طبقتان أخريان زمن الأُمويين والعباسيين. وقد استغرق الأمر وقتا حتى صار هذا الخمير المختلط من وجهات النظر المختلفة نصا قانونيا معترفا به من سائر المسلمين! ولا شكّ أنّ الراديكاليين التفكيكيين لا اهتمام لهم لا باللغة ولا بالمضمون، وإنما هم دارسون معاصرون، ولا يعرفون أنّ القرآن «نص»، ونصٌّ مقدَّس ولا يفيد في شيء البحث عند كل فقرة عن الأصل الذاتي أو الرجوع إلى الذات. وإنما المهمّ دراسة وظائف «النصوص» وتركيبها وبنائها، في سياق فهم القرآن وأبنيته العميقة. إنّ على الذين يقرأون القرآن الاعتراف أولا بأنه نصٌّ له بنيةٌ وعالمُ رؤيةٍ وشخصية. ويأتي بعد ذلك التفكير في الوظائف، لنرى بعدها هل نملك من المعلومات ما يمكّننا بالفعل من قراءة محيط وسياق أي نصٍّ مقدَّس.

* كاتب مصري