مصر وإسلاميوها بعد الثورة

محمد حلمي عبد الوهاب

TT

في نهاية الشهر الأول من مطلع العام الحالي، أصدر مركز «المسبار» للدراسات والبحوث كتابا في جزأين بعنوان: «مصر وإسلاميوها بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير». وكنت قد توليت مهمة إعداد وتنسيق الكتاب بالاشتراك مع هيئة التحرير بالمركز. وقد اشتمل الجزء الأول من الكتاب (العدد رقم 60 ديسمبر/ كانون الأول) على 9 دراسات ضمن ملف العدد الذي افتتح بدراستي: «الإسلاميون والسلطة.. تحليلات شاهد عيان من ميدان التحرير».

في هذه الدراسة التمهيدية للملف حاولت رصد مجموعة من التحولات المهمة التي مرت بها الثورة المصرية وأفضت في النهاية إلى صعود الإسلاميين، مؤكدا أن جزءا كبيرا من عملية الرصد والتحليل التي قمت بها، إن لم تكن بنية الدراسة برمتها، ترتكز بدرجة كبيرة على جملة المشاهدات الفعلية والخبرات والتراكمات العملية التي اكتسبتها بحكم وجودي في ميادين الثورة المصرية طوال عام كامل. ومن ثم؛ فقد خضعت عملية الرصد والتحليل هذه إلى المشاهدة الحية أكثر من خضوعها إلى التجريد النظري والتحليل المنطقي.

في هذا السياق، استوقفتني المآلات التي آلت إليها القوى الثورية وتحولاتها من حال «الوحدة والتكتل» إلى حال «التشرذم والانشطار»، حيث بدا واضحا للعيان عدم استسلام جميع مفاصل النظام السياسي الذي تموضع في بنى الدولة المصرية كافة للاعتبارات الجديدة تماما التي فرضها واقع ثورة الخامس والعشرين من يناير (كانون الثاني).

ولعل أكبر دليل على ذلك، هو ما نشاهده اليوم - وبعد مرور عام كامل - من ظهور الكثير من المخاوف التي تطفو على السطح لدى قطاع عريض من القوى الثورية من ضياع الثورة التي تم استهدافها بشكل عنيف ومتواصل، فضلا عن سوء إدارة المرحلة الانتقالية (الانتقامية!!) مما يجعل كل السيناريوهات مفتوحة على مصراعيها، بما في ذلك إمكانية عودة الأوضاع إلى ما قبل الخامس والعشرين من يناير!! أما فيما يتعلق بمسألة صعود الإسلاميين وتداعيات وصولهم إلى السلطة؛ فقد أبرزت الدراسة مستويات أربعة: يتعلق أولها بنظرة القوى الإسلامية لما حققته من نجاح كبير، ويتصل ثانيها بردود فعل القوى السياسية الأخرى على هذا الصعود وتجلياته، ويرتبط ثالثها مباشرة بردود الفعل الغربية على وصول الإسلاميين إلى السلطة وموجات القلق المتزايدة تجاهه، وأخيرا ثمة مستوى رابع يتعلق بوضعية الأقليات الدينية في دول الربيع العربي، والأقباط فيما يتعلق بالحالة المصرية بصفة خاصة.

في دراسته «ثورة 25 يناير في الخطاب الإعلامي لجماعة الإخوان المسلمين»، يرصد الدكتور محمد شومان حالة التناقض بين القول والعمل في الخطاب العربي بصفة عامة، وخطاب حركات الإسلام السياسي بصفة خاصة. واتساقا مع ذلك الواقع ناقش شومان في دراسته 5 فرضيات أساسية تتعلق بمفهوم الخطاب كنظرية وأداة تحليلية، وبما يعكسه خطاب الجماعة من تكوين مركب ومراوغ لها، وبالخطاب المعلن والخطاب الخفي، وببطء ردود فعل الجماعة على الأحداث، وأخيرا بتنوع الخطاب الإعلامي للجماعة؛ خاصة الخطاب الإلكتروني.

وفد انتهى شومان إلى نتيجة مفادها أن الخطاب الإعلامي للجماعة لا يعكس في مجمله المواقف الحقيقية لها بسبب طبيعة العمل السري الذي خضعت له طويلا منذ حلها عام 1954. والخوف التاريخي من الدخول في صدام معلن مع النظام السياسي يذكر بمنحى المواجهات العنيفة والدامية مع النظام الناصري.

على أن ثبات خطاب الإخوان على مواقفه الإصلاحية المتدرجة، فضلا عن لغته المراوغة في ظل مناخ الثورة، قد أضر بالحضور السياسي للجماعة، خاصة بين أجيال الشباب مما دفع بعضهم للانشقاق، ناهيك عن دخول السلفيين على خط العمل السياسي مما يعني أن احتكار «الإخوان» لوحدانية التمثيل السياسي للإسلام قد انتهت على عكس ما كان يحدث سابقا.

وفي سياق محاولات الرصد والمتابعة، حاول الدكتور وحيد عبد المجيد رسم خارطة للتحالفات السياسية في مصر بعد الثورة، وذلك بتسليط الضوء على المخاض العسير الذي شهدته الحياة السياسية المصرية بعد الثورة، وأسفر عن ولادة عدد من التحالفات والتكتلات الشبابية. وبالإضافة إلى ما سبق، ساهمت طبيعة النظام الانتخابي في بناء تحالفات وتكتلات واجهت محاولات بنائها صعوبات جمة وأسفرت عن تحالفات هشة لم تدم طويلا.

فقد توزعت تجربة بناء التحالفات السياسية في مصر بعد الثورة على محاور- تحالفات ثلاثة: أولها «التحالف الديمقراطي من أجل مصر» و«التحالف الإسلامي»، الذي تمخض عن مبادرة كتلة جماعة الإخوان المسلمين في منتصف عام 2010 تحت عنوان: «مبادرة من أجل مصر» ولم يسفر الحوار حولها إلى ما قبل الثورة سوى عن مشروع أولي غير مكتمل لوثيقة سياسية.

وثانيها تحالف «الكتلة المصرية» و«الثورة مستمرة» الذي نشأ كتحالف انتخابي بالدرجة الأولى على أسس سياسية تعبر عن توجهات الأطراف الليبرالية واليسارية التي يجمعها شعار «الدولة المدنية». وأخيرا هناك «تحالف ناصري صغير» نشأ نتيجة انسحاب الحزب الناصري من التحالف الديمقراطي الذي هيمن عليه الإخوان المسلمون!! وينقل الدكتور علي مبروك، أستاذ الفلسفة الإسلامية بجامعة القاهرة، الجدل المحتدم حول جماعة الإخوان المسلمين إلى نطاق آخر حين ركز في ورقته: «الإخوان المسلمون من الجماعة إلى الحزب، هل توقفت ممارسة السياسة بالدين؟» على طبيعة الالتباس والمراوغة اللذين حكما خطاب حسن البنا مؤسس الجماعة.

وبحسبه، فقد أتاح هذا الالتباس للجماعة، ومشايعيها، الترويج لها بوصفها تعبر عن «هوية دينية» وأن ما تمارسه من السياسة إنما يرتبط بكون الأخيرة ركنا من أركان الدين!! حيث «الحكم معدود في كتبنا الفقهية من العقائد والأصول، لا من الفقهيات والفروع» في مخالفة صريحة لما استقر عليه رأي أهل السنة والجماعة من أن الإمارة تدخل في باب العادات لا العبادات!! على أن المفارقة تتأتى، بحسب الدكتور مبروك، من أن البنا حين راح يجعل «الحكم السياسي» من «العقائد والأصول»؛ فإنما كان ينقض ما وصف به جماعته من أنها «دعوة سلفية، وطريقة سنية، وحقيقة صوفية»؛ حيث السياسة معدودة عند أهل السنة من «الفقهيات والفروع»، على عكس الشيعة الذين انفردوا وحدهم باعتبارها من «العقائد والأصول»!! والأمر هكذا ينتهي إلى إجبار من ينتمي إلى مذهب أهل السنة على القول بما يقول به خصومه المذهبيون من الشيعة!! وينتهي الدكتور مبروك إلى نتيجة مفادها أن قبول ورثة الأستاذ البنا لفكرة الحزب بوصفه أداة لممارسة السياسة (بعد طول رفض وتمنع!!)، لا يعني أن ممارستها بالدين قد توقفت تماما!!؛ وإنما يعني فقط أنها سوف تتحقق من تحت رداء الحزب السياسي الذي سيجعل من «الجماعة» ذراعه الدينية التي ستقوم بدور الحشد، والتعبئة، والتجييش!! في دراستها: «السياسة الأميركية تجاه الإخوان المسلمين في مصر (الجديدة)»، ترصد الأستاذة أماني غانم، الأستاذ المساعد في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، ردود فعل الدوائر السياسية والفكرية الأميركية تجاه الثورات العربية في دول الربيع العربي. فمن حالة الترقب والانتظار مرورا بالاعتراف بمفاجأة التوقيت، تلهث مراكز الأبحاث الأميركية وراء الأحداث في محاولة لفهم ما يجري أولا، وللاستفادة منه ثانيا عبر توجيه التحليلات والنصائح السياسية للإدارة الأميركية لصياغة سياساتها في الفترة الراهنة تجاه الربيع العربي بما يضمن في المقام الأول والأخير استمرارية وفعالية المصالح الأميركية!! واتساقا مع الهدف الرئيسي من الورقة، تم تقسيمها إلى أقسام ثلاثة رسم أولها محددات السياسة الأميركية تجاه الحركات الإسلامية بصفة عامة، وسلط ثانيها الضوء على السياسة الأميركية تجاه الإخوان المسلمين منذ انتهاء الحرب الباردة وحتى قيام ثورة الخامس والعشرين من يناير، فيما رصد ثالثها المتغيرات الإقليمية التي أفضت إلى إعادة تقييم السياسة الأميركية تجاه الجماعة بعد الثورة.

وفي المحصلة؛ لا يمكن فهم القضايا الرئيسية التي تشغل بال صناع القرار في السياسة الخارجية الأميركية («القاعدة» – إيران – أمن إسرائيل) إلا في إطار تحدي وصول الإسلاميين لسلطات الدول التي خبرت الثورات العربية، وتمر حاليا بالفترات الانتقالية! وعلى ما يبدو؛ فإن مسألة الاعتراف بـ«الإخوان» كفاعل سياسي شرعي لم تعد تربك صانعي القرار في العالم الغربي، خاصة بعد الرحلات المكوكية التي يقوم بها الأميركيون لمكتب إرشاد الجماعة (مما دفع البعض للتهكم بوصفه «مكتب إرشاد البيت الأبيض»!!)، وبعد أن أبدى الإخوان المسلمون مرونة في التعامل، ربما تفوق في بعض الأحيان ما كان ليقدمه أي تيار سياسي آخر.. وتلك قضية أخرى!!

* كاتب مصري