الدين وقضايا التغيير وإشكالياته

رضوان السيد

TT

المجتمع هو موطن الدين والمجال الرحب لانسياحه ولاعتصامه في الوقت نفسه. وعندما يزداد عدد الأفراد المؤمنين بالدعوة تنشأ الجماعة المؤمنة، وتحاول أن تشكل حياتها الجديدة بالتمايز عن البيئة التي ظهرت دعوتها فيها. وهذا التشكيل الجديد هو الذي يلقى المقاومة الأشد، لجهة الاعتقاد، ولجهة التنظيم الاجتماعي. وبنتيجة هذه المواجهة بين القديم والجديد يضطر النبي أو الداعية إلى الهجرة بمفرده أو مع جماعته، وكثيرا ما تنتهي دعوة التغيير إن لم تكن لها قيادة تستطيع التصرف في الظروف الاستثنائية. وهذه الهجرة إن تمت فقد تكون مؤقتة إن نجحت في مكان آخر، وقد تصبح دائمة إذا اقتضت الظروف تغيير الوجهة. إنما في كل الأحوال؛ فإن الدعوة الدينية الجديدة أو المتجددة تحتاج إلى إدارة لشؤون الجماعة وتكون مقدسة أو غير مقدسة بحسب أصل الفكرة، والمهام المطلوب منها القيام بها. والفكرة الدينية فكرة تطهير وتزكية وتتم بأحد ثلاثة أنماط: اعتقاد التماهي مع قوى الطبيعة، واعتقاد القدرة على التطهر الذاتي، واعتقاد التطهر والتزكية من خلال ذات عليا. وديانات التوحيد من النوع الثالث، والديانات الآسيوية من النوع الثاني، والديانات الطبيعية أو الإحيائية من النوع الأول. ولأن ديانات التوحيد هي الأكثر تنزيها وتجريدا؛ فإن القداسة كان ينبغي أن تضفى على الألوهية وحسب، فتصبح الإدارة الدينية أو المؤسسة الدينية مجرد مؤسسة تعليمية. لكن الذي حصل عند اليهود ارتباطها بالنسب والعهد الإبراهيمي، وعند المسيحيين رعايتها للمعنى العميق لتجسد المسيح وفدائه. ولذلك اكتسبت المؤسستان قداسة باعتبارهما تشكلان «إدارة للخلاص» الذي لا يمكن بلوغه من دونهما. وبقي الأمر عند المسلمين على الأصل الأول، أي إنسانية المؤسسة الدينية، إنما بعد نزاع وانقسامات أبرزت أيضا تيارا مهدويا خلاصيا.

لماذا أكتب عن هذه الأمور الآن؟ لأن العقود الخمسة الماضية أخضعت المؤسسات الدينية المسيحية والإسلامية في العالم لضغوط شديدة، وكانت لهذه الضغوط والظروف آثار عميقة على مصائر التدين وأشكاله، وقد تصبح لها آثار على مصائر التدين في سائر ديانات التوحيد. فالمؤسسات أو الكنائس المسيحية، استطاعت الكاثوليكية من بينها الصمود بسبب شدة قوتها، وتمركز الدين كله فيها، وإن عانت وتعاني من إعراض الشباب عنها ليس باتجاه البروتستانتيات، كما كان عليه الأمر في السبعينات والثمانينات، بل باتجاه ترك الدين كله! وعرفت البروتستانتيات صحوة هائلة إنما من خارج الكنائس الإنجيلية التقليدية، ولأنه ليست لديهم تقاليد «اجتماع» معينة فقد انتشروا بسرعة هائلة وفي نواح ما كان لهم نشاط أو انتشار فيها من قبل مثل شرق أوروبا وأميركا اللاتينية. إنما حدث لهم شيء غريب في الولايات المتحدة على الخصوص. فللمرة الأولى حملت تلك الجماعات دعوات لصد «البدع» مثل الإجهاض وحقوق المثليين وتعليم الدين بالمدارس، وهي دعوات تنم عن «المحافظة»، وهذا ليس أمرا غريبا. لكنها للمرة الأولى في تاريخ «نهضاتها» أعلنت لدى السياسيين أنها مستعدة لدعم أي أحد يتبنى دعوتها ومطالبها في الانتخابات ومن المجلسين إلى حكام الولايات المتحدة ورئاسة البلاد. وقد حصل على دعمها بالفعل كل من جيمي كارتر (الذي أعلن أنه من المولودين ثانية)، وريغان وبوش الابن. وخلال المنافسة الحالية على الرئاسة يتبارى مرشحو الحزب الجمهوري ليس في من هو الأشد تدينا وحسب؛ بل في تبني برامج الإنجيليين الجدد الاجتماعية والاقتصادية. وقد ذهب محللو الاستطلاعات إلى أن هذا التحزب باسم الدين في الحياة السياسية أدى إلى تراجع مساحة «الدين العام» الاجتماعية. فهناك أكثر من 20 في المائة من الأميركيين صاروا يقولون إنهم غير متدينين، بينما كانت نسبة المؤمنين 4 في المائة ونسبة غير المتدينين الممارسين 12 في المائة في السبعينات من القرن الماضي. ويعلل المعرضون إعراضهم عن الدين، بصيرورته في يد حزب، وارتباطه بأجندة معينة يترتب عليها إيمان وكفر. ومع أن «التحزب الديني» ما اقتصر على البروتستانت بل شارك فيه الكاثوليك؛ فإن آراء الخبراء أن المؤسسة الدينية القوية، التي لا تتدخل مباشرة في قضايا الشأن العام، تحفظ الدين، وتحفظ على المجتمع منظومته القيمية، خارج الصراع السياسي المشرذم والمقسم.

إن الذي يجري داخل المسيحية الأميركية، والبروتستانتية على الخصوص، جرى ويجري بتأثيرها داخل الفرق اليهودية بالولايات المتحدة والكيان الصهيوني. فالدولة العلمانية مبدئيا في حياتها السياسية، هي دولة يهودية، باعتبار أن المؤسسة الدينية الأرثوذكسية هي التي تحدد من هو اليهودي الذي يستحق «الجنسية»! إنما في العقود الأخيرة ظهرت تنظيمات دينية مسيّسة هي التي تقود حركة الاستيطان، كما تقود الحملة على العلمانيين داخل المجتمع بالكيان. وقد كانت هذه التنظيمات موجودة، لكنها كانت منكفئة على ذاتها، وهي تندفع في العقدين الأخيرين لتطبيق برامجها في المجال العام، وتغيير نمط الحياة في المجتمع استنادا إلى أفهامها للشريعة. وما صار هؤلاء أكثرية في الكنيست، لكنهم كتلة وازنة لها تحالفات مع اليمين، وتندفع باتجاه مد الاستيطان، باتجاه الاستيلاء على المسجد الأقصى. لكنها كما سبق القول تصطدم أيضا بالعلمانيين والإصلاحيين اليهود في الكنس وفي المجال العام.

ومع انتشار حركات التغيير العربية، ووصول أحزاب سياسية باسم الإسلام إلى السلطة، أعيد طرح علائق الدين بالسياسة، وعلائق المؤسسة الدينية (قيادة العبادات والفتوى والتعليم والإرشاد العام) بالمجتمع وبالدولة. والمعروف أن الثورة الإيرانية عام 1979 حملت إلى السلطة المؤسسة الدينية المهدوية، بينما صارعت حركات إسلامية سنية عنيفة للوصول للسلطة بالقوة وباسم الإسلام دونما جدوى. وها هي حركات سياسية إسلامية غير عنيفة، تصل للسلطة ليس بالقوة بل بالانتخابات، وهي تقول جميعا بتطبيق الشريعة. ولأنها ليست حركة واحدة، ولأن برامجها وتجاربها تختلف، فالمنتظر أن يحدث صراع في ما بينها وباسم الدين، مع وجود احتمال آخر، وهو أن تتلاءم تلك الحزبيات والحركات مع أوضاعها الجديدة فتنفتح على مجتمعاتها بطرائق أفضل وأهدأ، حتى لا تنشب صراعات إسلامية - إسلامية تضر بالدين وسلطته الاجتماعية الباقية.

وهنا يأتي دور مؤسسات التعليم والفتوى والإرشاد غير الحزبية. فهذه المؤسسات ما كانت تمارس دورا سياسيا من قبل، بل تقوم بمهامها الدينية والاجتماعية. لكن المتشددين والإحيائيين العنيفين كانوا يتهمونها بالولاء لسلطات الاستبداد، وبالتقصير في القيام بواجباتها الدينية. إنما ما دام الإسلاميون الحزبيون قد راحوا يتنافسون على إدارة الشأن العام؛ فإن الأساتذة والشيوخ والدعاة القائمين على الدعوة والإرشاد والتعليم والفتوى، لديهم واجب عظيم هو صون الدين في أبعاده القيمية والاجتماعية والرمزية، والحيلولة دون تحوله إلى أداة في الصراع السياسي. فمعظم المسلمين لا يريدون أن يتعلم أولادهم لدى الحزبيين، ومعظم المسلمين لا يستأنسون بالدعاة الجدد، ولا بفتاوى الفضائيات الطائرة. ولدى رجالات الإسلام غير الحزبي واجب آخر إضافة لواجبهم تجاه دينهم في مجتمعات المسلمين! وهو واجب العمل على صورة الإسلام في العالم. فقد مضت علينا عقود والإسلام - بسبب المتشددين العنيفين ولأسباب أخرى - موضع أخذ ورد ووضع في محيط صراع الحضارات، والأصوليات المنتشرة بين الشباب في المهاجر. ويوشك الإسلام أن يخرج من هذه الصورة الضيقة بسبب حركات التغيير من جهة، وتغير السياسات الغربية تجاه منطقتنا من جهة أخرى. ولذا فنحن محتاجون إلى نهوض كبير يقوده رساليون من علماء الإسلام، لإخراج الدين من مجال الصراع السياسي بالداخل، ولإخراجه من المرآة المكسورة لصراع الحضارات في الخارج العالمي.

إن الإشكالية الآن هي إشكالية الدين في الأنظمة الحرة الودودة معه وغير المتجهمة، بعكس المرحلة السابقة. إنما هناك فرق بين الحيادية الودودة، وبين الاستيلاء على الشأن العام باسم الدين أو الإسلام. والمآل إن حصل ذلك، ليس أن يجري عندنا ما جرى ويجري بالولايات المتحدة من انحسار لمساحة الدين والتدين؛ بل أن يعود المسلمون إلى المذاهب الفقهية التقليدية التي تعلم شبابهم من الحزبيين مغادرتها بحجة مغادرة التقليد والعصبيات المذهبية وفتح باب الاجتهاد على مصراعيه! زار لبنان في أواخر التسعينات على ما أذكر الدكتور مهاجراني، وكان وزيرا للثقافة في إيران. وقد أراد على غداء مع مثقفين لبنانيين شرح معنى «الثنوية» في الديانات الإيرانية القديمة: فأهورا مزدا هو مبدأ الخير، وأهرمن مبدأ الشر أو إلهه. ومع أن الخير ينتصر في النهاية؛ فإن الأمر يحتاج إلى صراع عنيف. ثم أضاف مبتسما: ونظامنا اليوم نظام خير ودين وإسلام، لكن لأن الخير زاد عن حده؛ فقد ارتفع عدد أنصار أهرمن إلى حدود ما عرفتها بلادنا من قبل!