اللغة بوصفها هوية ثقافية

محمد حلمي عبد الوهاب

TT

لا يزال الارتباط الكائن بين «اللغة والهوية» يثير عند البعض التباساتٍ شتى تشي بحجم «العطالة الفكرية» التي آل إليها حال العرب في مطلع القرن الحادي والعشرين، على الرغم من أنّ «الهوية»، في مفهومها الشامل، تعد قيمة جوهرية في حياة الإنسان بوصفه كائنًا ثقافيا قبل أن يكون كائنًا بيولوجيًّا! ولا شك أنّ جوهر «الهوية» يقوم في الأساس على الانتماء الذي به يُفارقُ الإنسان آدميته الغريزية مُرتقيًا إلى آدميتهِ المُتسامية. فالانتماء في جوهره - بحسب ما يؤكد الدكتور عبد السلام المسدي في كتابه: «العرب والانتحار اللغوي» - عبارةٌ عن مضمون وإبلاغ: أما المضمونُ؛ فعقيدةٌ تكفُلُ له الإيمانَ وتقيه شرَّ الضياع في الوجود. وأما الإبلاغُ؛ فلغةٌ تؤمّنُ له التواصل الإنساني الخلاق. فإذا تصاقبتْ دائرةُ الإيمان ودائرةُ اللسان كانَ الانتماءُ إلى التّاريخ، وكان الاستشرافُ إلى المآل.

ومما لا شك فيه أيضا، أنّ قبولَ تفتيت اللغةِ القوميةِ يُعدُّ الخطوةَ الأولى نحو قبول تفتيت الكيان الوطني. كيف لا؟ واللغةُ مُكوّنٌ جوهري ضمن معْمَار السياسة، فمَا بين الموضوع الإنساني والذات الجماعيةِ ثمة جسرٌ واصلٌ، تُجسّدُهُ الدساتيرُ التي يتأسّسُ عليها مفهومُ الدّولةِ بالمعنى المُعاصر.

وهكذا نجد أن مائة وعشرين دولة تنصُّ دساتيرُها على ما تعْتبرُ أنهُ «اللغةُ القوميةُ»، في حين أنّ البلاد التي لا تنصُّ على ذلك تعْتبرُ أنّ سيادةَ اللغةِ القوميةِ أمرٌ بديهي ليْسَ بحاجةٍ إلى التنصيص عليه، كما كان عليه الحال قديما لدى الأمة الفرنسية.

أما حالُ العرب مع لغتهم فمدعاة للعجب، كلّ العجب، وأعجب من ذلك أنّ بعضا من أصحاب القرار يتبنون حول «المسألة اللغوية» خطابًا يكادُ يسْتوفي كلّ أشْراطِ الوعي الحضاريّ، ثم يأتونَ سلوكا مغايرًا تمامًا يجسمُ الفجوةَ المُفزعة بين القول والعمل! وضمن هذا السياق، يبدو التنبيه بخطورة مصير اللغة العربية كما لو كان ضربًا من الترف الفكري!! فكثيرٌ منا - نحنُ العربَ - يَميلُ إلى الاطمئنان الزائد عن كلّ حد بأنّ انقراضَ اللغات في العالم إنما يصيبُ لغةَ المجموعاتِ الإثنيّةِ المَعزولة، أو المُحاصرة بمجموعاتٍ أكبرَ حجمًا وأثقلَ وزنا! ونحنُ في ذلك - فيما يؤكد المسدي - لا نميزُ بينَ الظاهرةِ العامّةِ التي مَدارُها انقراضُ بعضِّ اللغاتِ تحتَ تأثير لغاتٍ أخرى غيرها، والظاهرةِ النوعيةِ الخاصةِ ومدارُها انقراضُ اللغة بانفلاقٍ يُصيبُها من الدّاخل عندَ حلول الفروع التي انبثقتْ منها مَحلها!! فعلى المستوى الأولْ، يُقدِّرُ الباحثونَ المختصونَ عددَ اللغات التي أخذتْ طريقهَا التدريجي نحو الانقراض بنحو ستمائة لغة في العالم!! فضلا عن إمكانية اندثار ما لا يقل عن ثلاثة آلاف لغة أخرى، من ضمنها مائة وثلاثون لغة في روسيا أخذتْ طريقها نحو الانقراض بالفعل وبما يكادُ يكون نهائيا! وعلى المستوى الثاني، يُجمع الاختصاصيونُ في مجالات اللغة والتقنيةِ على أنّ اللغةَ العربيةَ لم تنلْ ما ينبغي لها من عنايةٍ، بحيثُ يضحى التعاملُ معها باستخدام الحاسوب يسيرًا كما هو الحالُ مع اللغة الإنجليزية بخاصة، واللغات اللاتينيةِ الأصل بعامة، علمًا بأنّ توصّل البشر إلى المعارف من خلال لغتهم واستخدامها لتوليد معارفَ مُسْتحدثةٍ شرطٌ أساسي من شروطِ التنميةِ المُتوازنةِ والعادلةِ والمُسْتدامة.

وبحسب إحصاءات عام 2008، فإنّ اللسانَ العربي يُمثلُ اللغةَ القوميّةَ لنحْو 330 مليونا، كما يُمثلُ - إلى جانب ذلك - مَرجعيًّة اعتباريًّة لأكْثرَ من مليار مسلم غيْر عربي جميعهم يتوقون إلى اكتسابِ اللغةِ العربيةِ، فإنْ لمْ يُتقنوها لأنّها ليْسَتْ لغتهمُ القومية فإنّهم في أضْعَفِ الإيمانِ يُناصرونَها ويحْتمونَ بنموذجها الفعّال الذي عمّر لنحْو سبعة عشرَ قرنا مُحتفظا بمنظومتهِ الصوتيةِ والصرفيةِ والنحْويةِ، مُطوِّعًا إياهَا حتى تواكِبَ التطوُّر الحتمي في الدلالاتِ من دون أنْ يتزعْزعَ النظامُ الثلاثي من داخله، مثلما حدث مع العديد من اللغات الأخرى.

هذا وتشيرُ دراسةُ أميركية أصدرتها «رابطةُ اللغات الحديثة» في عام 2010 إلى أنّ اللغة العربية تعد من أكثر اللغات الأجنبية تعلما في الولايات المتحدة الأميركية، إذ زاد عدد دارسيها بنسبة 86 في المائة مقابل عدد دارسي الصينية مثلا، والذي ارتفع بنسبة 31 في المائة، والإسبانية بنسبة 28 في المائة، والكورية بنسبة 19 في المائة، والبرتغالية بنسبة 13 في المائة.

ومن المعلوم أنّ تعلم العربية في أميركا - بحسب ما يؤكد الأستاذ أحمد فرحات - أصبح يُشكّلُ ضرورة استراتيجيًّة بُعيد أحداث الحادي عشر من سبتمر (أيلول)، إذ توجهت إدارةُ بوش الابن إلى ثلاث جهات رسمية للتنسيق فيما بينها من أجل بلورة وتنفيذ ما سمّاه: «المبادرة اللغويّة للأمن القومي»، وهذه الجهات هي: وزارةُ التعليم، ووزارةُ الخارجية، ووزارةُ الدفاع (البنتاغون)!! وفي الأحوالّ كلها، لا تزالُ الفُرصةُ سانحةٌ أمامَ العرب لاسترداد المكانة اللائقة بلغتهم تاريخيًّا وحضاريا. وهذا الأمرُ ليسَ بدعًا من التاريخ، فقد سبق للنورمانديين أنْ غزوا في عام 1066 للميلاد بلاد الإنجليز، وأحلوا لغتهم محلَ لغة أهل البلاد، ودام الأمر على هذا الحال قرابة قرنيْن من الزمان أصبحت اللغةُ الغازيةُ خلالها لسانَ التداول في المؤسسات كافة، وضاعَ من لغةِ أهل البلاد ثلثها تقريبا لمجردّ أنّهم استبدلوا بألفاظهم الأنجلوسكسونية مصطلحاتٍ إفرنجية، وظلت البلاد تقاوِمُ الحضورَ الاستعماري إلى أنْ تحررتْ منه نهائيًّا.

وكان إلقاءُ خطاب العرْش عام 1362 باللغة الإنجليزيةِ حدثا رمزيًا بالغَ الدلالة، ثم صدر في العام نفسه قرارٌ سياسي جعلَ الإنجليزية لغة المحاكم، ولم يأت عام 1385 حتى عمّت اللغةُ الوطنيةُ مؤسساتِ التعليم كافة، وبدأتْ تتقلّصُ حالةُ الفوضى اللغوية تدريجيا، ولم يكد يحِلُ القرنُ الخامس عشر حتى سادتِ الإنجليزيةُ وانْحَسرَت لغةُ الغزاة تمامًا.

ومع ذلك، علينا أنْ نُقرَّ بأنهُ ليْسَ للعرب في اللحظةِ التاريخيةِ الراهنةِ أنْ يُبدعوا - على مستوى الابتكار الإنساني الشامل - لا في مجالاتِ العلوم الدقيقةِ ولا في مجالات الاختراع التكنولوجي إلا كأفرادٍ ينْتمونَ إلى مؤسساتٍ أكاديميةٍ خارجية، أما من حيثُ أنهم مجموعةٌ وطنيةٌ ينتمونَ إلى مؤسساتٍ عربية على الأرض العربية فهذا يظلُ إنجازًا مؤجلا!! ولكنّهم قادرونَ على أنْ يُبدعوا في المجالاتِ الفكريّةِ والثقافيّةِ إذا ما صدَقَ العزْمُ منهم ومن أنظمتهمُ السياسية، ويَزْدادُ هذا الاحتمالُ رُجْحَانًا كلمَا تمسكوا برباط «الهُويّةِ الجماعية» وقاوموا نزعات التفتيت بأنواعهِ كافة، خاصة التفْتيت اللغوي بوصفه مُقدمًة طبيعيًّة لكلّ تفتيتٍ سياسي واقتصادي واجتماعي.

ومن اللافت للنظر في هذا السياق، أنه على حين أيقظ الصدامُ مع الغرب - خلال العقود الأخيرة من القرن المنصرم - سؤالَ «الهُويّة» مجددًا لدى مختلف المفكرين والمثقفين العرب، بدا أنّ سؤال «اللغة» قد بقي على حاله من حيث المُراوحة، مع الاكتفاء بدقّ نواقيس الخطر التي تتهددها من حين إلى آخر!! وربما يرجعُ ذلكَ إلى إحساس البعض بأنّ اللغة العربية - على عكس غيرها من اللغات التي انقرضت وراح زمانُها - في مأمن من الاندثار!! صحيح أنّ سؤالَ «الهُويّة» قديمٌ متجددٌ، ما فتئَ يطلُّ برأسِهِ منذُ بداياتِ عصْر النهضةِ العربية، إلا أنهُ مَرّ أيضا بفتراتِ صعودٍ وهبوطٍ وفقًا لاقتراب الذات من الآخر الغربي أو اصطدامها به.

وهكذا، كانَ سؤالُ الهُويّةِ والبحث عن مُقوماتِهَا، واختلافِها، وتميُّزهَا عن الآخر، شاغلا للمفكرينَ والمثقفينَ العرب على مدار قرنٍ أو يزيد من الزمان. لكنّ ارتطامَ الذات بالآخر بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، واحتلال العراق عام 2003، جعلَ السؤالَ محورًا لكلِّ تفكّرٍ بالذات وعلاقتها بالآخر، مَا أوْصَلَ التفكيرَ في هذه القضيةِ إلى حالةٍ من الاستقطاب الحادّةِ بين المفكرين ورجال السياسة، وحتى رجل الشارع.

أضفْ إلى ذلك أيضا، أنّ الثقافة في جُلّ أقطار العالم العربي تحديدًا كانت دائمًا وأبدًا هي الخاسرُ الأكبرُ عند حصول أدْنى ضائقةٍ اقتصاديةٍ، بحيثُ تحولتْ شيئا فشيئا إلى كبش فِداءٍ يتمُ التضحيةُ به من دون ندم يُذكرْ عند أولى مُفارقاتِ السياسة الدولية! لكنّ الغريب في الأمر تمامًا، أنّ أمّة «العروبة» ما سعتْ مُطلقًا إلى اسْتزراعِ الوعي اللغوي من خلال الوعي السياسيّ، على الرُغْم من بديهيةِ أنّ تصالحهم مع هُويتهم سيتحقّقُ فعليا بمجرد أنْ يتصالحوا مع لغتهم! ولعلّ أكبر دليل على ذلك التماهي الكائن ما بين ثالوث: السياسة، واللغة، والهوية، هو النموذجُ الصهيوني الذي استطاعَ أن يبعثَ الحياة في لغتهِ المَيْتة!، فلم تمض خمسُ سنواتٍ على اغتصابهم حقّ الأرض بعد قرار التقسيم عام 1948 حتى بادروا إلى إنشاء «مجمع اللغة العبرية» (1953)، ثم كوّنوا مجلسا أعلى يضم نحو أربعينَ لجنة متخصصًة في كلّ الفروع العلمية والفكرية، تهتمُ بمُسايرةِ اللغة للتطور المستمر، واستحداث المصطلحات والمفردات العبرية التي تغطي الحاجة في المجالات كافة! وقد كان دافعهم في ذلك كله، أنّ اللغةَ العبرية هي المُعبّرةُ عن شخصيتهم وثقافتهم وتاريخهم، وأنها الجامِعةُ لكيانهم المُشتتْ، والصاهرةُ لكلّ اختلافاتهم الفكرية، وأنها الرابطةُ لوحدتهم وتضامنهم!! ليْسَ غريبًا إذن، والحالُ هذه، أنْ يُصبِحَ موضوعُ الهُويّةِ مطروحًا بهذه الشدّة بوصفهِ سؤالا وجوديًا يبحثُ عن أجوبةٍ راهنةٍ، وعن حلول للمشكلاتِ التي تتفجّرُ في وجه العربي كلَّ يوم، مهما اختلف زمانه وتنوعتْ أماكنه!

* كاتب مصري