في سر نقمة العالم الإسلامي على الغرب!

إميل أمين

TT

هل تريد معرفة سر نقمة العالم الإسلامي على الغرب؟ ربما تكون علامة الاستفهام أول الأمر بها شيء من القسوة اللفظية، لا سيما حال التعميم، ذلك أنه إن كان بعض العرب ناقمين على الغرب بعض الوقت، فليس معنى ذلك أن كل العرب ناقمون بذات القدر على الغرب كل الوقت، وبين البعض والكل ربما يغيب السبب الرئيسي عن أعين العوام، لكنه حكم لا يخفى عن ألباب العقلاء وأدوات الباحثين في التاريخ والجغرافيا. لا مناص لمن يبحث عن الجواب من الولوج إلى عالم الكاتب الأميركي «يوجين روجان»، مدير مركز دراسات الشرق الأوسط بكلية سنت أنتوني، والمحاضر في التاريخ الحديث لـ«الشرق الأوسط» في جامعة أكسفورد، وكتابه العمدة «العرب»، الذي صدر حديثا في طبعة عربية فاخرة عن دار كلمات عربية، وبترجمة أمينة للأستاذ المترجم محمد إبراهيم الجندي. يسرد «يوجين روجان» في كتابه تاريخ العرب في العصر الحديث بأسلوب جديد جدير بالثقة. فبداية من الفتوحات العثمانية في القرن السادس عشر يتتبع هذا الكتاب المميز تاريخ العرب أثناء فترة الاستعمار الأوروبي، وصراع القوتين العظميين أثناء الحرب الباردة، وصولا إلى العصر الحديث الحالي الذي يشهد هيمنة قطب واحد على العالم، وهو الولايات المتحدة الأميركية.

ما الدافع وراء هذا العمل؟ حتما أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، ولهذا يكتب في مقدمته يقول: «كان هناك شعور متنامٍ في أوساط الجماهير في أوروبا وأميركا بأن أعظم تهديد لقيمهم وأسلوب حياتهم يأتي من العرب. في هذه الأجواء المشحونة، اعتقد يوجين بقناعة مطلقة أنه الوقت المناسب لأن يكتب كتابا للقراء الغربيين لكي يفهموا كيف يبدو التاريخ الحديث من منظور عربي، وجل أمله أنه بهذا يقدم إسهاما صغيرا في بناء التفاهم بين العالمين في وقت يسوده توتر عالمي. مفتاح هذا العمل البديع الحقيقي يقع في مقدمته، التي يستشهد فيها روجان كثيرا بآراء الصحافي والكاتب اللبناني الراحل (سمير قصير)، ويتوقف مع المقال الذي يتساءل فيه عن حال العرب، وكيف وصل الأمر إلى حالة الغثاثة الراهنة». ثم كيف يجري العمل على إسقاط فكرة الحضارة العربية والإسلامية الحية من أجل أن تحل محلها ثقافة الاستسلام لعقيدة الشقاء والموت في أبراج من النار والدمار؟ لم يكن سمير قصير وحده الحائر، بل الكثير جدا من المفكرين العرب وصانعي السياسة الغربية تشملهم الحيرة ويلفهم القلق من جراء فداحة المشهد.

رأى الغربيون فيما جرى أنهم أمام اخطر تهديد يواجه أمنهم وثقافتهم، وأنه ينبع من رحم العرب والمسلمين، إنه الإرهاب الجهادي.

وفي العالمين العربي والإسلامي أدرك الكثيرون كذلك أن أخطر تهديد يواجه أمنهم وثقافتهم يأتي من الغرب.

ولم يتوان جورج بوش عن تعزيز وإشعال المخاوف المتبادلة بحروبه في أفغانستان والعراق، دون إدراك من إدارته التي لم يكن لرجالات الإنتلجنسيا الغربية دلال عليها، أن هناك علاقة قوية بين الركود والإحباط العربيين من ناحية والتهديد الإرهابي الذي يؤرق الديمقراطيات الغربية كثيرا من ناحية أخرى. والنصيحة عند يوجين روجان لفض هذا الاشتباك تتمثل في ضرورة أن يعير صانعو السياسات والمثقفون في الغرب مزيدا من الاهتمام للتاريخ إن أرادوا أن يعالجوا الأمراض التي أصابت العالم العربي اليوم، لا سيما أن الغرب كثيرا ما يتجاهل القيمة التي يحملها التاريخ للحاضر.

في أعقاب غزوتي نيويورك وواشنطن بلغة جهاد بن لادن، تساءل أحد منظري المشهد العولمي الأميركي المشهورين، فريد زكريا، عن «لماذا يكرهوننا؟» حري بالرجل أن يمضي مع التاريخ، كما يقلب يوجين روجان صفحاته، وحكما سيجد فيه الجواب.

بطريقة الفلاش باك السينمائية، يأخذنا روجان عبر رحلة من الادعاءات والأكاذيب الغربية، التي عززت عند «العربي المعاصر» مشاعر النقمة تجاه قطاع كبير من الغرب، مع القطع بأن الانتماء العربي والإسلامي لا يقتضي بحكم العادة، أو الضرورة، إقامة علاقة متنافرة، أو كارهة مع الغرب. لكنه التاريخ الذي لا يرحم.

ثلاثة مشاهد أو قراءات بها الجواب الشافي، الأول يعود بنا إلى زمن نابليون بونابرت، فعندما غزا مصر عام 1798 أصدر بيانا براغماتيا - بلغة العصر - حاول فيه إن يتحايل على المصريين شكلا وموضوعا، قال فيه: «يا أيها المصريون، قد قيل لكم إنني ما نزلت بهذا الطرف إلا بقصد إزالة دينكم، ذلك كذب صريح لا تصدقوه، وقولوا للمفترين إنني ما قدمت إليكم إلا لأخلص حقكم من الظالمين، وإنني أعبد الله سبحانه وتعالى وأحترم نبيه والقرآن العظيم».

لم يكن هدف الغزو الفرنسي لمصر إذن هو إدراك منافع استراتيجية عليا للإمبراطورية الفرنسية وقطع الطريق على منافستها البريطانية، بل خدمة المصريين، غير أن الأخيرين لم يكن لينطلي عليهم تهافت نابليون، ولذا قام المؤرخ المصري الكبير عبد الرحمن الجبرتي ببيان مضاد يشير فه إلى أن «قوله إنه لم يأت إلا لتخليص حقوقنا من يد الظالمين هو أول كذبة نطقها وبهتان افتراه».. هل يكرر التاريخ ذاته؟

من سوء حظ العرب في علاقتهم مع الغرب أنه جرى ثانية، وهنا كانت المأساة، ففي مارس (آذار) من عام 1917، دخل الفريق سير «ستانلي مود»، على رأس قوات الغزو البريطاني في ذروة الحرب العالمية الأولى بغداد، مدعيا أنه جاء ليخرج العدو العثماني من الأراضي العربية، فقال: «جيوشنا لا تدخل مدنكم وأراضيكم بصفتها غازية أو عدوة، وإنما بوصفها محررة، فمنذ عهد هولاكو وشعبكم يخضع لطغيان الأجانب، وترزحون أنتم وآباؤكم تحت نير الاستعباد» وواصل مود حديثه، متعهدا بأن يقدم البريطانيون المساعدة لشعب العراق حتى ينالوا الحكم الذاتي، ويحققوا الازدهار لكي يعيش أهل بغداد في رخاء.. هل وفى ستانلي بما قال؟

الناظر للمشهد يرى كيف قمع البريطانيون في 1920 الثورة العراقية بعنف شديد، ثم أخضعوا العراق للحكم الاستعماري البريطاني المباشر طوال الـ12 عاما التالية، وللحكم البريطاني غير الرسمي حتى وقت الإطاحة بالملكية في العراق عام 1958.

وإذا كان كارل ماركس يرى أن التاريخ إذا كرر نفسه فإنه في المرة الأولى مأساة، وفي الثانية ملهاة، فقد كان العراق على موعد ومن جديد مع أكبر مأساة وملهاة عززت في القرن الحادي والعشرين نقمة عربية وإسلامية جديدة تجاه الغرب بعمومه والولايات المتحدة خصيصا.

استخدم جورج بوش طائفة من الأكاذيب لتبرير غزو العراق، وحال تأكده من الوهن الذي يلف كذبة أسلحة الدمار الشامل، لجأ إلى ارتداء ثوب الحمل الوديع، والمخلص المنتظر، لتخليص العراقيين من نير صدام حسين السلطوي الدموي، واعدا بديمقراطية غناء، وحرية غير مسبوقة.

وبين المشاهد السابقة كثير لم يتوقف عنده روجان، كالاحتلال البريطاني لمصر نحو ثمانين عاما، والإيطالي لليبيا، والفرنسي لدول المغرب العربي، ناهيك عن أم الكوارث، إذا جاز التعبير، أي قيام دولة إسرائيل على الأراضي الفلسطينية، ومع هذه جميعها بكل ما في تفصيلاتها من مرارة، صار العجز رمز الشقاء العربي، كما كتب سمير قصير في مقاله.. العجز عن إخماد الشعور بأنك لم تعد سوى كمّ مهمل على رقعة الشطرنج الكونية، بينما تدور اللعبة في ديارك.. لماذا النقمة؟ هل لأن العرب صاروا ينظرون لأنفسهم على أنهم بيادق تلعب بها الدول، وعليهم السير وفقا للقواعد التي يضعها الآخرون، إذ هم عاجزون عن تحقيق أهدافهم في العصر الحديث؟

حكما هذا صحيح، ورؤية يوجين روجان هنا ثاقبة، لا سيما أنه كان قد بدا لكثير من العرب إن سقوط الإمبراطورية العثمانية عام 1918 فرصة ذهبية لوضع أقدامهم على عتبات عصر جديد من الاستقلال والعظمة القومية، لكنهم على عتبات سايكس بيكو تجرعوا مرارة خيبة الأمل عندما اكتشفوا أن النظام العالمي الجديد يقوم على القواعد الإمبريالية الغربية المعهودة لا على الدعوة التي طرحها الرئيس الأميركي، وودرو ويلسون، بشأن حق الأوطان في تقرير مصيرها ونقاطه الـ14 الشهيرة.

على أن هناك نقدا يمكن أن يوجه لكتاب روجان، وهو ضعف تحليل إشكالية الإسلام السياسي، واعتباره مشهدا عرضيا في الشرق الأوسط في الخمسين سنة الأخيرة، ومحاولة ربط هذا الصعود الرأسي والانتشار الأفقي بظهور النفط، لا سيما في منطقة الخليج العربي، غير أن هذا الضعف يغتفر حال إلقائه الضوء على ما يمكن اعتباره نجاحات غربية في تفريق صفوف هذا التيار السياسي الذي يرى في الدين وبواعثه ومنطلقاته حجر الرحى والركيزة الأساسية لبناء الدولة الإسلامية، وربما إحياء فكرة آلامه أو إعادة مجد الخلافة الإسلامية.

يذكر روجان أن الإسلاميين تشجعوا بالتغيرات الكبيرة التي حدثت في السياسة العالمية في نهاية عام 1989، فقد كانت بديهيات عصر الحرب الباردة تنهار بنفس سرعة انهيار سور برلين، وفسر كثير من الإسلاميين انهيار القوة السوفياتية على أنه دليل على إفلاس الشيوعية الملحدة ومبشر بعصر إسلامي جديد، ولكنهم وجدوا نفسهم فجأة في مواجهة عالم أحادي القطب، تهيمن عليه القوة العظمى الأخيرة المتبقية، الولايات المتحدة الأميركية.

ومع الغزو العراقي للكويت، والانتشار الكثيف للقوات الأميركية والبريطانية، بدا وكأن حلم الثمانينات قد عجز عن التحول إلى وقائع على الأرض، وأن أحفاد سايكس بيكو مستمرون في تخطيط الخطوط ونسج الخيوط بين الواقع والمأمول، والحقيقة والخيال، بشكل جعل الضبابية سيدة الموقف، والمخاصمات حاكمة المشهد عربيا - عربيا، ولا يزال حتى الساعة.

يصعب على المرء الإحاطة بهذا العمل الكبير، الذي لا بد من التوقف أمامه بنفس القدر الذي يصعب به التسليم بفكرة «النقمة المطلقة تجاه الآخر» باعتباره السبب الأوحد لآلامنا وأوجاعنا، حتى وإن كان من الصحيح بمكان أنه تسبب لزمان طويل في ذلك.

ولعل هذا ما دفع روجان في نهاية سطور كتابه إلى الإقرار بأن العرب عليهم أن يتحملوا بأنفسهم مسؤولية صنع مستقبل أفضل، وأنه إذا أرادت الشعوب العربية أن تتمتع بحقوق الإنسان، وأن تمتلك حكومات مسؤولة يمكنها محاسبتها، وتحقق الأمن والنمو الاقتصادي، فعليها أن تأخذ بزمام المبادرة بين أيديها، لا سيما أن التاريخ قد بين حدود الإصلاح المفروض من خلال تدخل أجنبي؛ سواء في العصر الاستعماري، أو في حقبة ما بعد الحرب الباردة، فالديمقراطية لا يمكن فرضها دون إقناع.

ولعله من خلاصة القول إن عقبات ثلاث كؤود تقف في طريق العالم العربي لا بد من تجاوزها للخلاص من مرحلة الصراعات والإحباطات والنقمة على الغرب، المزيد من الحريات، والمزيد من المعرفة، والمزيد من تمكين المرأة، هذه إذا أردنا الاستفادة الكاملة من قدراتنا ومقدراتنا وتحقق تطلعاتنا في العصر الحديث دون نقمة أو انتقام من الشرق أو الغرب.

* كاتب مصري