الهجرة إلى دار الإسلام

رضوان السيد

TT

شدَّد الرئيس الفلسطيني في كلامه أمام القمة العربية ببغداد، على ضرورة زيارة القدس رغم أنها محتلة، لمنع عزْلها وانعزالها. وكان يقصدُ بذلك دعوات من بعض المتشددين إلى تحريم زيارة القدس لأنها محتلةٌ. بل إنّ بعض هؤلاء رأوا ضرورة الهجرة منها (وربما من فلسطين) لأنّ المؤمنين ما عادوا آمنين فيها، ولا يستطيعون أداء عباداتهم بالمسجد الأقصى بحرية. وكان الجزائري/ الفرنسي محمد مراح الذي قتل ثلاثة جنود وثلاثة أطفال يهود، قد اعتبر فرنسا، فيما نُقِلَ عنه دار كفرٍ وانحلال، وتنبغي الهجرة منها. وكنتُ أرى أنّ ظاهرة «التكفير والهجرة» قد انقضت منذ عقودٍ طويلةٍ، وأنّ المتشددين القِلّة يعزلون أنفسهم، بحيث لا يشعر أحدٌ بما يعتقدون أو ينتوون. ولا أزال أرى جازما أنّ هذه الأحداث فرديةٌ تماما، وهي أعراضٌ مَرَضيةٌ أكثر مما هي أعراض تشدُّد.

ويرجع أصل المسألة إلى هجرة النبي (ص) إلى يثرب عام 622م، وطلب القرآن من المسلمين بمكة وغيرها أن يتحولوا عنها إلى المدينة التي صارت هي دار الإسلام بعد موقعة بدرٍ عام 624م. وقد سقطت فرضية الهجرة بفتح مكة عام 628م. عندما قال رسول الله (ص): «لا هجرة بعد اليوم، وإنما جهادٌ ونية، وإذا استُنفرتم فانفروا». وهذا التغيير يعني ليس ظهور دار الإسلام واتّساعها وحسْب؛ بل وظهور الأمة، بحيث ما عاد المسلمون جماعةً صغيرةً مُحاصَرةٌ تتطلب التحشيد والدعم والتأييد، بل إنّ العالَم كُلَّه صار دارا لهم، فالأمة أمة الإجابة، والعالَم أمةُ الدعوة، كما أوضح الرسول صلواتُ الله وسلامُهُ عليه، في حجة الوداع، عندما اعتبر المسلمين المستجيبين أمة رسالةٍ وبلاغ. بيد أنّ فقهاءَ مسلمين - معظمهم من المالكية - ذهبوا إلى أنّ فرض الهجرة ما تعرض للنسْخ وانتهى الأمر، بل إنه لا يزال حكما ساريا إذا توافرت ظروفُ ضيقٍ وحصارٍ تُشبهُ ما كان موجودا بمكة عندما هاجر منها المسلمون مع رسول الله.

لقد تجدد الاهتمام بهذا الموضوع في القرنين الخامس والسادس للهجرة/ الثاني عشر والثالث عشر للميلاد، بسبب الغزوات الصليبية لسواحل الشام وبعض الدواخل وصولا إلى أنطاكية والقدس، وبسبب ضياع صقلية من أيدي المسلمين ثم طُليطلة بالأندلس. ومع تَوالي سقوط المُدُن الأندلُسية، ثم المصائر الكئيبة للقلة المسلمة بإسبانيا بعد سقوط غرناطة، عام 1492، تعاظمت الفتاوى والآراء الفقهية تحت عنوان: ما العمل؟ فكان هناك من قال إنه عندما تزول سيطرة المسلمين على موطنٍ من المواطن فإنه لا يعود دار إسلام، وإذا لم يكن الجهاد ممكنا لاستعادة تلك الدار؛ فإنّ الهجرة تُصبح واجبةً، إلاّ بالنسبة للمستضعَفين الذين لا يستطيعون الهجرة أو الحراك من الموطن الذي هم فيه. أما إذا كانوا مهدَّدين بالتحول عن الإسلام هم أو أَولادهم؛ فإنّ الاستضعاف أيضا لا يُتيح لهم البقاء! وقال آخرون إنه إذا كان المسلمون في الدار المستعمرَة غير مهدَّدين في دينهم وعباداتهم ويمكنهم ممارستها بحرية؛ فإنّ الهجرة غير واجبةٍ عليهم! وقد بدت هذه النقاشات لفريقٍ ثالثٍ نَظَريةً وغير واقعية، لأنّ «الكفار» أنفسهم أرغموا المسلمين على الهجرة من ديارهم. بيد أنّ ذلك ما كان صحيحا كلَّه. فالملوك الكاثوليك بإسبانيا هم الذين أرغموا المسلمين على التنصُّر أو الهجرة بعد عام 1510، أمّا ملوك صقلية، وملوك البرتغال، فقد تركوا المسلمين واليهود في مواطنهم للإفادة من خبراتهم الزراعية والتجارية والمالية، وأَخذوا منهم الجزية! وكانت البيئةُ الثانيةُ أو الزمان الثاني لنقاشات الهجرة ودار الإسلام ودار الكفر والحرب، ما حصل بالهند والجزائر في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر - عندما بدأ الفقهاء بالهند أولا يناقشون مسألة انتهاء «دار الإسلام» هناك، لأنّ البريطانيين سيطروا عليها، وقد لجأ المسلمون للجهاد ضد البريطانيين بالفعل إلى أنّ هُزموا هزيمةً كاسحةً عام 1857، فتوالت الفتاوى بضرورة الهجرة إلى حدود عام 1920، وإلى أين؟ إلى أفغانستان باعتبارها غير مستعمَرة! وكذا حصل بالجزائر بعد احتلال الفرنسيين لها عام 1831؛ وهذا رغم أنّ «الجهاد» كان لا يزال مستمرا على يد الأمير عبد القادر. إنما الطريف أنّ الأمير هو الذي كان يستجلب الفتاوى من علماء المالكية بالمغرب ومصر بضرورة الهجرة، لأنه تراجع إلى تلمسان، وأراد أن يجتمع الناسُ من حوله، وأن تتعطَّل المرافقُ على الفرنسيين بذهاب الرجال إلى جبهات القتال. وكانت آخِر الفتاوى بالهجرة لتحول الدار إلى دار كفر وحرب، هي ما أصدره العلماء عام 1911-1912 عند احتلال الطليان للسواحل الليبية! لقد كانت الظاهرة - ظاهرة انحسار دار الإسلام وتأزُّم الوعي - تاريخيةً وفظيعة. فصالح بن يحيى – مؤرّخ بيروت - ما رأى بالبلدة بعد احتلال الفرنجة لها بخمسين عاما من المسلمين غير بعض سائسي خيول الغُزاة، وكذلك الأمر في أكثر المدن الساحلية بالشام. لكنّ الظاهرة التي استجدت في العقود الأخيرة من القرن العشرين هي ظاهرةٌ معكوسةٌ إذا صحَّ التعبير. فقد قالت عُصبةٌ أولا بتكفير الدولة والمجتمع. ثم ظهر من أَولاد المهاجرين المسلمين إلى أوروبا من رأى أنّ المجتمعات الأوروبية هي مجتمعات كفرٍ وحلال. وأهل التكفير للدول والمجتمعات منهم مَنْ انعزل واعتزل - وهم الأكثر - ومنهم من مارس «الجهاد» بالداخل! أمّا المتشددون من الجيلين الثاني والثالث من أبناء المهاجرين والجاليات الإسلامية؛ فإنهم قاموا بالأمرين على التوالي: «هاجروا» إلى أفغانستان وألبانيا والشيشان.. إلخ. ثم عادوا ومارسوا العنف أو حاولوا ذلك في المجتمعات الأوروبية التي يقميون فيها! ماذا يعني هذا كلّه، وإلى أين المصير؟ إنّ التأزُّم الناجمَ عن ظروف العصر والحداثة والعولمة، دفع باتجاه هذه الصحوة الجارفة في سائر ديار العرب والمسلمين. وقد اختارت قلةٌ ضئيلةٌ جدا ممارسة العنف والجهاد، أو اللجوء إلى الطهورية الشديدة وممارسة الشعائرية التحريمية. وكلا الأمرين من ظواهر التأزم الشديد. والحركات التغييرية الجارية تفتح منفذا للفعالية والتأثير الاجتماعي والسياسي، بحيث يستطيع أكثر هؤلاء المأزومين التنفيس عن كآبتهم بالحريات العامة التي صارت مُتاحة. وقد سمعتُ أحد أعضاء «الجماعة الإسلامية» المصرية، وقد سُئل عن التكفير والخروج بالسلاح، يقول إنّ ذلك كلَّه ما عاد ضروريا ولا شرعيا، لأنّ أحدنا يستطيع ممارسة عباداته بحرية، وكذلك التعبير عن آرائه الإسلامية بالفم الملآن. فلا داعي للهجرة ولا للجهاد. لكنه لا يزال في شك من مسألة «الولاء والبراء» دونما ممارسةٍ للعنف! وكانت المملكة العربية السعودية قد طوَّرت برنامجا للمُناصحة لإعادة أولئك الشبان للحياة العادية، نجح بنسْبةٍ كبيرةٍ في إخراج مئاتٍ من الشباب من دائرة العنف والإرهاب.

إنّ تغيُّر السياسات الغربية بالتدريج تُجاه قضايا العرب والمسلمين، ستفكّك مشكلات الواقع ولا شكَّ. إنما الذي يبقى هو مشكلات الوعي. وهي مشكلاتٌ عميقةٌ تتصل بالتهميش والغُربة والإحساس باللاجدوى في المهاجر. وما عولجت هذه المشكلات بسعة أُفُقٍ وانفتاحٍ في السبعينات والثمانينات. بل انصرف بعض الفقهاء العاملين على «ترشيد الصحوة» إلى إنتاج ما سمَّوه: «فقه الأقليات»، وهو في الحقيقة «فقه ضرورات»، والضرورات تُقدَّرُ بقدْرها. وهذا يعني في الحدّ الأكبر العودة إلى الديار الأصلية بشبه القارة الهندية أو بالمغرب العربي. وفي الحدّ الأصغر: عدم الاندماج، والانصراف للتأكيد على الخصوصيات حفظا للدين والعِرْض! لكأنما هذه هي المرة الأولى (أي في القرن العشرين) التي يعيش فيها المسلمون مع غيرهم! بينما الواقعُ أنّ المجتمعات الإسلامية عرفت جماعاتٍ أُخرى أكثرية أو أقلوية منذ الفتح وإلى اليوم. ومنذ ثلاثة قرونٍ وأكثر تعيش أقلياتٌ إسلاميةٌ في بلدانٍ ذات سلطات أو أكثريات غير إسلامية. وما عرفنا مشكلات بهذا الخصوص إلاّ في النصف الثاني من القرن العشرين. فقد اتجه الغربيون لمحاصرة الشيوعية، ثم لمحاصرة الإسلام. ولا ندري إذا كانوا قد حقّقوا غرضهم من وراء الحصار والهجومات، لكنّ الذي نعرفُهُ أنهم ما ينفكُّون يعلنون عن التغيير في السياسات والاستراتيجيات. ونحن نحتاج من جانبنا - باعتبارنا أمةً كبرى وعالمية - إلى نهوضٍ في الفكر الإسلامي، يُخرجنا من أَوهام ووقائع الحصار ليس في الواقع فقط؛ بل وفي الوعي أيضا.