اللغة والهوية في سياق تاريخي

محمد حلمي عبد الوهاب

TT

نستكمل في مقالنا هذا قراءتنا لإشكال اللغة والهوية في عالمنا المعاصر من خلال بعض الكتابات الأخيرة التي حاولت دق ناقوس الخطر في ما يتعلق بحاضر لغتنا العربية ومستقبلها، ولا شك أن أعمال الدكتور عبد السلام المسدي، أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية وزير التعليم العالي والبحث العلمي السابق، تقع في قلب هذه الكتابات، خاصة كتابيه «نحو وعي ثقافي جديد» و«العرب والانتحار اللغوي».

ولا شك أيضا أن موضوع اللغة والهوية أصبح يستلزم منا طرحا جديدا، وذلك في ضوء سببين رئيسيين، أولهما: تغير المشهد الثقافي الإنساني، بما أفضى إلى انقلاب مرجعياته وإلى اضطراب سلم أولوياته. وثانيهما: تصدر العامل اللغوي أمام سائر المقومات التي منها تتكون منظومة قيم الانتماء الحضاري.

ومما يزيد من دوافع اهتمامنا بإشكالية اللغة والهوية في عالمنا المعاصر: احتدام الجدل الدائر حاليا في أغلب دول الربيع العربي في ما يتعلق بهوية الدولة، وضرورة التنصيص على ذلك في الدساتير المزمع إنشاؤها، فبينما تراجع حزب النهضة التونسي عن رغبته في وضع مادة دستورية شبيهة بالمادة «الملغمة» في الدستور المصري الساقط، التي تنص على أن «الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع»، تشهد مصر حراكا لا ينتهي، وانسحابات متكررة من اللجنة التأسيسية لصياغة الدستور التي استحوذ عليها الإسلاميون من أجل كتابة دستور يعبر عن توجهاتهم الدينية والسياسية، ويعيد إلى الأذهان ما سبق أن فعله الحزب الوطني المنحل بشأن ما سماها التعديلات الدستورية في عام 2005!! فلقد كان بديهيا أن الهوية ترتكز على جملة أركان تاريخية، يتصدرها الانتماء إلى أصول سلالية واحدة، ثم تأتي اللغة كعنصر معبر عن ذلك الانخراط السلالي، ثم تأتي بعد ذلك المعتقدات التي طالما كانت الجامع بالضرورة في مختلف الثقافات والحضارات الإنسانية البائدة.

ونتيجة لذلك، فإن عالم اليوم يشهد اهتماما وتركيزا شديدين على مسألة اللغة والهوية خلال هذه الحقبة الملتهبة من العلاقات الدولية، لا سيما خلال ربع القرن الأخير؛ حيث يتعرض ما يسمى الهويات الفرعية ولغاتها الحية إلى ضغوط كبيرة في جميع أنحاء المعمورة.

ولعل ذلك هو ما جعل الكثير من الفعاليات الثقافية، التي تناولت موضوع الهوية، مشدودة إلى سؤال الحاضر، أي: كيف يمكن للهوية أن تكون تحقيقا للخصوصية لا إعلانا للحرب على الهويات الأخرى؟! فبدلا من أن يسهم العرب في حروب الهوية التي لا تهدأ، عليهم أن يبحثوا عن المشترك الإنساني بينهم وبين مختلف الأعراق والأمم والشعوب الأخرى.

وإذا كانت المواطنة، التي لا تزال تعاني تراجعا ملحوظا، تمثل - برأي البعض - حلا منشودا لمشكلة تفاقم الهويات الفرعية في الواقع العربي المعاصر، فقد يكون تعزيزها مقدمة في الوقت نفسه لحل مشكلة الهوية في علاقتها بالآخر في العالم، وفي الغرب بصفة خاصة.

فالمواطنة من حيث هي رابطة تنظم العلاقة بين الناس في إطار دولة وطنية (مدنية) تتسع لكل أبنائها على اختلاف انتماءاتهم الأولية، إنما ترتبط بثقافة مدنية تقوم على التسامح تجاه الآخر (كل آخر) والحوار معه والبحث عن المشتركات ونبذ جميع ضروب التطرف والتعصب العرقي والديني والسياسي.

لقد سبق لغلبير كونت - عضو الأكاديمية الفرنسية - أن كتب مقالا في صحيفة «لوموند» بتاريخ 15 يوليو (تموز) 1978، في شكل بيان جعل عنوانه «اللغة هي الوطنية»، جاء فيه: «إن اللغة هي الهوية الوطنية، إنها الوطن الحي المتدفق الذي يسكن قلب كل واحد فينا». وكان ميشيل فيشاي - رئيس الجمعية العامة لمستعملي اللغة الفرنسية - عادة ما يماهي بين اللغة والوطنية، مؤكدا: «إنك إذا سلبت البلاد عنوان انتمائها الوطني، وهو اللغة، فكأنك سلبت من كل فرد عنوان ذاتيته»!! ليس غريبا إذن، والحال هذا، أن تطلق مجلة «لوبوان» على الجمعية العامة لمستعملي اللغة الفرنسية عبارة بالغة الدلالة؛ لأنها مستوحاة من قاموس العمل الحزبي في السياسة الفرنسية؛ إذ كانت تسميها «القوة الضاربة بيد اللغة الفرنسية»!! وليس غريبا أيضا أن طالبة ألمانية نجحت في شهادة البكالوريا بتفوق وامتياز في مواد الامتحان كلها، لكنها رسبت في اللغة الألمانية، فأصرت المدرسة على عدم منحها الشهادة ولم يشفع لها تفوقها في المواد الأخرى، وكذلك الأمر بالنسبة إلى محكمة فرانكفورت، والمحكمة الفيدرالية الاتحادية - وهي أعلى محكمة ألمانية - اللتين أقرتا برسوبها، معللتين لذلك بأن اللغة الألمانية هي «التعبير الأسمى عن الفكر الألماني المستقل، والمترجم الأمين عن شخصية الألمانيين وهويتهم، وهي أهم مادة في الامتحان، وأن الضعف في اللغة لا يغطيه التفوق في المواد الأخرى»!! ومن دروس التاريخ التي يمكن الإفادة منها في السياق ذاته، أنه عندما أراد الكاتب والداعية الفرنسي أونيزيم ريكلوس - صاحب كتاب «أجمل مملكة تحت الشمس» - أن يحدد الوسائل التي يتعين على فرنسا اللجوء إليها في مواجهة القوى الأخرى في أواخر القرن التاسع عشر، لم يجد وسيلة أفضل من اللغة كسلاح سياسي!! فكتب يقول: «إن أفضل رد لفرنسا هو سلاح اللغة»! هكذا كان ريكلوس يشجع على توسع النفوذ الفرنسي في القارة السوداء، انطلاقا من إيمانه الشديد بأن اللغة هي عماد الإمبراطوريات ولحمة الحضارات، وأن «اللغة وحدها هي ما تصنع الشعوب»، بحسب المثل اللاتيني القديم! وكأنه كان يتنبأ بقيام الفرنكفونية الدولية، تلك التي باتت تضم اليوم 54 دولة من القارات الخمس، كسلاح ثقافي ولغوي في يد فرنسا، بعد أن كانت اللغة الفرنسية - إبان القرن العاشر الميلادي - لا تزيد على كونها مجرد لهجة يتكلمها أهل الحاشية الملكية، بينما كانت اللاتينية آنذاك لغة الأدب والفن والعلم والمعرفة!! لكن اللهجة الفرنسية سرعان ما تطورت، وارتقت في سلم الاعتبار الاجتماعي، في الوقت الذي ظلت فيه اللاتينية لغة المؤسسات الجامعية. وحين تأسست جامعة السوربون عام 1227 على يد اللاهوتي روبير دي سوربون، ظلت الفرنسية بعيدة عن المؤسسات التعليمية إلى أن ترسخت منظومتها عند إنشاء الأكاديمية الفرنسية عام 1635، ومنذ ذلك الحين أصبح أمر اللغة شأنا من شؤون الدولة!! حقيقة لم ينص الدستور الفرنسي، وقتذاك، على لغة البلاد، باعتبار ذلك أمرا بديهيا، لكن الفرنسيين حين لاحظوا التنوع اللغوي الطارئ على تركيبة مجتمعهم سرعان ما سارعوا عام 1922 إلى تنقيح دستورهم، كي ينص على أن «اللغة الفرنسية هي لغة البلاد شعبا ودولة».

وهكذا اتضح جليا، يومئذ، كيف أن شعبا سبق له أن أوقد مشاعل الحرية الإنسانية، ورفع راية التنوع البشري الخلاق، وتعلق بقداسة الانتماء إلى الوطن بعيدا عن معيار الأعراق والأديان، يلوذ بركن اللغة محتميا بها من ضياع سمات هويته!! ولاحقا، تهيأ للفرنسيين المناخ المناسب لإصدار قانون توبون، نسبة إلى اسم وزير الثقافة والفرنكفونية جاك توبون، الذي أعده تحت عنوان «قانون حماية اللغة الفرنسية»، وتم سنه في 4 أغسطس (آب) عام 1994.

غير أن التساؤل الذي يفرض نفسه، بقوة، هنا، هو: لماذا التعرض للنموذج الفرنسي ونحن بصدد الحديث عن اللغة العربية؟ والإجابة عن ذلك غاية في البساطة؛ لأن من شأن ذلك أن يساعدنا في تسليط الضوء على المنظومة القانونية التي يطلق عليها اسم «التشريع اللغوي»، والتي تجسد علامة فارقة في الحالتين العربية والفرنسية؛ حيث يفترض أن تعكس تلك المنظومة جملة الروابط المتينة بين اللغة من جهة، والهوية الجماعية من جهة أخرى.

وهكذا نلاحظ أن من شأن الوقوف على جملة التشريعات اللغوية الغربية ومقارنتها بما عليه الحال في المنظومة التشريعية العربية، أن يقف بنا عند حدود الهوة السحيقة التي تفصل بين عالمين متباعدين، أحدهما يربط البحث العلمي باستعمال اللغة القومية، ويعلق على ذلك الربط تسخير الدعم المادي لإنجاز الأبحاث العلمية، ولا يكتفي بذلك، وإنما يضع من الإجراءات الزجرية ما يكفل عدم السماح أو التهاون في استعمال اللغة في الحياة العامة، لا سيما في مجال الإعلام والإعلانات العامة. وثانيهما يمضي لأبعد حد ممكن في إذابة ونسف الهوية الذاتية عن طريق ضرب أركانها من الداخل!! ولعل ذلك هو ما دفع بواضعي «ميثاق التنوع الثقافي» في منظمة اليونيسكو إلى التأكيد أن اللغة ليست أداة للاتصال واكتساب المعرفة فحسب، بل إنها أيضا مظهر أساسي للهوية الثقافية ووسيلة لتعزيزها، سواء بالنسبة إلى الفرد أو إلى الجماعة! وتلك قضية أخرى.

* كاتب مصري