أسواق جميلة.. وبراعم محترقة

موئل يوسف عز الدين

TT

هذه السنة أتت براعم الربيع مبكرة.. تتدافع في أطراف أغصان الشجر، وتشب فوق سياج الحياة كأنها أفراخ العصافير حين تشرأب من الظلام إلى ضياء الوجود. وما أشبهنا نحن البشر بهذه البراعم! نتدافع على معابر الحياة ونعدو على نصلها الرهيف. والسعي من أجل الحياة هو نافذة يدرس من خلالها الباحثون أخلاق الأمم والشعوب وتفهم منها حقيقة السلوك الإنساني. ويرى الكثير من علماء مراقبة السلوك الإنساني أن هذا السلوك يمكن فهمه بوسائل مختلفة، ومن أهمها ملاحظة سلوكه في السوق عند البيع والشراء، ولعل من أشمل ما كتب عن أخلاق السوق هو كتاب بالإسبانية كتبه كاتب اسمه بيدرو ثالميتا، يصف فيه كاتبه بدقه متناهية السلوك الإسلامي في السوق، ويقوم بتحليل دور المحتسب أو كما يسميه ثالميتا سيد السوق واسم الكتاب «سنيور السوق في إسبانيا». وقد وجدت في الكتاب طرافة ومتعة، تشبه متعة زيارة سوق الأحد في مدينتنا.. ولعل أكثر ما يعجبني في سوق الأحد - عدا رخص أسعاره - أنها سوق لا يحكمها تخصص أو تشابه في البضائع، بل يصطف الناس فيها بعفوية تشبه عفوية حلقة الخضار في جدة أو علوة السوق في بعقوبة، إنها سوق أشبه ما تكون بعلبة أصباغ كبيرة انكفأت فاختلطت فيها الألوان. وأسواق آخر الأسبوع تجدها في كثير من بلاد العالم، وهناك من يسميها سوق البراغيث، لأن البضائع تطير فيها كالبراغيث!! وحتى في بلادنا العربية، فقد بدأت بالظهور وهناك من يسميها سوق الجمعة. ولم أعرف في بريطانيا قيمة للجنيه إلا فيها، وما أكثر الأشياء التي اشتريتها منه وأكثرها كتب وصحف قديمة! ويستغرب بعض أصحابي من ترددي عليه، إذ كثيرا ما أعود منه فارغ اليدين.. فأقول لهم إن سوق الأحد هو من أحسن الأماكن التي اطلع فيها على سلوكية المجتمع الغربي حين أنظر إلى البضائع المختلفة التي تأتي إليه مباشرة من بيوت الناس فأعرف ما يحبون وما يكرهون، وأرى أشياءهم الصغيرة والكبيرة فأجد فيها الفوضى المتناسقة واللانظام المنظم، والتناقض المتناسق الذي يمارسه أهل غرب الأرض بشكل عجيب في حياتهم ومعاشهم. إنها سوق تضحكني، إذ أرى فيها كتب شاعر ويلز المبدع ديلون توماس وشعره وهي تباع جنبا إلى جنب علف الحيوانات والأحذية المستعملة، أو حين أرى موسوعة الفلسفة وقد أسندت على طبل فارغ قديم.. وهذا النوع من الأسواق هو ظاهرة بيئية مهمة، كثيرا ما ينظمها دعاة حماية البيئة عن قصد لأن لها دورا مهما تلعبه، وهو أنها تعيد تكرير السلع المختلفة بطريقة نافعة لبيئتنا فتقلل من تكلفة الإنتاج ومن استغلال عناصر الحياة ومن اغتصاب مواردها، وتقلل من إتلاف الأشياء دون مبرر. وكثيرة هي الأشياء النافعة التي نتلفها في عالمنا اليوم، لا لشيء إلا لأننا لا نستطيع خزنها أو لأن إبقاءها يكلفنا أكثر من قيمتها. ولذا، لا بد لنا قبل إن نشتري الشيء من أن نسال أنفسنا: كم مرة سنستخدمه؟ وكيف سنقوم بخزنه قبل إحالته إلى سلة المهملات؟ ومن المحزن أن عالمنا العربي، وبشكل خاص، الغني منه تظهر فيه نفس الأمراض الاجتماعية والبيئية التي نجدها في بلاد غرب الأرض كالبدانة والإسراف في الاستهلاك، وخاصة في الطعام. وأوروبا عموما وبريطانيا خصوصا تعتبر رسميا بدينة، حيث إن فيها الآن أكثر من 13 مليون بدين، وقد يصل عددهم إلى نصف السكان مع سنة 2020. ولكننا لا نزال نقلدهم حتى في أخطائهم وننسى منهج الاعتدال والتوازن، وهو منهج يدعو إليه تاريخنا وديننا متمثلا في نهج الرسول وصحابته من بعده حين كانوا يتبسطون في حياتهم فيجلسون على الأرض، ويرتقون نعالهم بأنفسهم، ويأكلون القليل بأيديهم رغم تمكن الدنيا لهم. أذكر أنني قلت في أحد مؤتمرات البيئة إن المسلمين يأكلون بأيدهم لا بالملاعق لأنه سنة نبيهم، وهو لا شك منهج حضاري نسيناه تقليدا للغرب. فجلس عالم رياضيات شاب وبدأ يحسب قيمة الملاعق والشوك والسكاكين التي يستعملها العالم، وخاصة منها التي تستعمل مرة واحدة.. فوصل إلى رقم خيالي من الجنيهات، يمكن للعالم أن يوفره لا ماليا فحسب، بل يوفر معه إنتاج ثاني أكسيد الكربون المدمر لمستقبل بيئتنا. ثم أعقب قائلا أحس بالحياء حين أبحث عن سبب لاستعمال هذه الأدوات فلا أجد سوى غطرسة الإنسان. فقلت له: إن من أهم ما يأمر به الإسلام هو التواضع في طلب الرزق، ولكن يبدو أن حمى المادة التي سادت العالم كله قد أصابتنا. وأجمل وصف لطلب الرزق نجده في كتاب الله حين يصفه بكلمة «المشي»، إذ يقول «هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه» (الملك: 15)، وكلمة المشي في القرآن لها دلالات وأبعاد تتجاوز معنى الانتقال من مكان إلى آخر، فهي تحمل أيضا معنى الحياة أثناء التنقل وطلب الرزق.. والربط بين الاقتصاد والمشي واضح في قوله تعالى «واقصد في مشيك» (لقمان: 19)، وهذا المعنى لا شك يستحق وقفة.. لتدبر العلاقة ما بين الاقتصاد والمشي، إنها علاقة نفهم منها أن المشي فيه إشارة إلى معنى التعبد بالعمل والبقاء لا للأصلح كما يقول الماديون، ولكن لكل الإنسان ضعيفا كان أو قويا.. ومن يبحث عن مدخل لاقتصاد إسلامي للبيئة يجد ضالته في أمثال هذه النصوص التي يكاد نفَسُ الروح أن ينقطع انبهارا ونحن نتأمل فيها، وكلما نظرت لا أجد عندي عبارة مختصرة تجمع خلاصة لعلم الاقتصاد الإسلامي البيئي كمثل قوله تعالى «واقصد في مشيك». ويتجلى عمق هذا المعنى حين ننظر إليه ضمن منظومة الألفاظ القرآنية التي استخدمت كلمة «مشى» واشتقاقاتها، فإشارات النصوص التي استعملت كل جذور كلمة «مشى» تحمل هذا المعنى وتنطوي على أغوار قرآنية رائعة تفتح يديها للمتفكر فيها، ومثال ذلك قوله تعالى «وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما» (الفرقان: 63)، ففيها المعنى الأول الذي تفيده عبارة النص وهو المشي العادي، وفيها معنى آخر تفيده إشارة النص - كما يقول الأصوليون - وهي أن عباد الله يعيشون على الأرض هونا ولا يدمرونها ولا يمتصون خيراتها ثم يرمونها رمي النواة.. وهم في رعايتهم للأرض وعناصرها لا يهمهم مخاطبة الجاهلين لهم الذين يصرون على دمارها، بل يدعونهم إلى السلام مع الأرض والإنسان. وهذا هو أصل السلوك الإسلامي. وكثيرا ما تعتريني غصة عندما يسأل الناس وأنأ أتحدث عن موضوع البيئة في عالمنا العربي الحزين، فيقولون: وماذا عن سلام الإنسان؟ وكيف يمكن للإنسان المسلم أن يكون أمينا على بيئته وهو نفسه لا سلام ولا قيمة له؟ وما قيمة البراعم والزهور إذا كانت براعم الإنسان وزهوره تقطف قبل أوانها وتداس تحت أحذية الدبابات في بلاد مثل بلاد الشام؟ إن اسم الإسلام يأتي من السلام، فلماذا تحرق براعم الإسلام وأفراخ العصافير؟

* أستاذ الدراسات الإسلامية في جامعة ويلز ببريطانيا