الجوانب الدينية والفلسفية لمفهوم السعادة

محمد حلمي عبد الوهاب *

TT

تعد السعادة من أبرز الأفكار الدينية والفلسفية التي شغلت بال الكثير من رجالات الفكر الإنساني، حيث شكلت محورا من أبرز محاور الاهتمامات السياسية والاجتماعية والأخلاقية على حد سواء.

أما في ما يتعلق بالفكر الفلسفي الإسلامي؛ فإنها تعتبر بمثابة حجر أساس في هذا الفكر، وقاعدة رئيسية رمى إلى رفع أعمدتها ونشر ألويتها كل من المتكلمين والفلاسفة والمتصوفة، فضلا عن كونها أشد ثراء في محيط هذا الفكر من أي فكرة أخرى على الإطلاق. ومما يؤكد كلامنا هذا، أن المنطق الداخلي لمذاهب فلاسفة الإسلام - على تعددها - كان يقودهم حتما لبحث فكرة السعادة، مما جعلها تشكل ركيزة أساسية لتأملاتهم حول الله والمجتمع والإنسان.

وآية ذلك، أن الكندي (185 - 252هـ) أول فلاسفة الإسلام، أكد أن تحصيل السعادة يعد بمثابة غاية الحياة البشرية كلها!! وفي الواقع، لم يكن رأيه هذا رأيا عرضيا بالنسبة لرجالات الفلسفة الإسلامية؛ بل إن ثمة عناوين كثيرة لأعمالهم المختلفة تحمل لفظة السعادة، أو إحدى مشتقاتها، من بينها: «السعادة» و«تحصيل السعادة» لكل من الفارابي (259 - 339هـ)، وابن سينا (370 - 428هـ)، و«السعادة والإسعاد» لأبي الحسن العامري (300 - 380هـ)، تلميذ الفارابي، و«كيمياء السعادة» لحجة الإسلام أبو حامد الغزالي (توفي 505هـ).

أيضا شكلت السعادة غاية قصوى عند كل من: ابن باجة (توفي 529هـ)، الفيلسوف الأندلسي، وصدر الدين الشيرازي (توفي 1050هـ) أحد أعظم العرفاء المتألهين في تاريخ الإسلام الفكري. ففي حين عارض أولهما تصور الغزالي للسعادة، كما هي ممثلة في اللذة الصوفية، مؤكدا أنه يتوجب على «المتوحد» أن يشتاقها في حياته ويسعى جاهدا لتحصيلها، اهتم ثانيهما ببحث مسألة السعادة الفلسفية مع ميل واضح للحديث عنها ونقيضها (الشقاوة) ضمن إطارهما الغيبي الأخروي.

وواقع الأمر، أن مسألة السعادة قد تحولت مع مرور الزمن إلى واحدة من أهم المقولات الرئيسية في الفلسفة الإسلامية، مما يستدعي البحث عن سبب ذلك! وفي هذا السياق، ثمة من يرجع الاهتمام بها إلى تأثير الفلسفة اليونانية على فلاسفة الإسلام، وموقع السعادة منها، على اعتبار أن فكرة السعادة يونانية المصدر أساسا! غير أن هذا لا يعد سببا كافيا في اعتقادنا، فمع أنه لا سبيل مطلقا لإنكار ما للفلسفة اليونانية من أثر بالغ على توجهات فلاسفة المسلمين؛ فإن ذلك لا يقوم دليلا على نفي أي آثار أخرى. فثمة أثر إسلامي يبدو بصورة جلية عند التعرض لبحث إشكالات خلود النفس وسعادتها الأخروية، وثمة أثر أساسي يتمثل في تفاعل فلاسفة الإسلام مع معطيات بيئاتهم الحضارية والسياسية الاجتماعية، التي كانت في الغالب الأعم نظما استبدادية لا توفر قسطا معقولا من الحرية أو العدالة، ولا تشيع مناخا من الرفاهية الاجتماعية لأغلب الطبقات المهمشة والمطحونة في قاع الهرم الاجتماعي.

وآية ذلك، تلكم التقلبات الحادة التي سادت أحوال فلاسفة الإسلام من وضع القريب المحسود إلى وضع الطريد المنبوذ!! فابن سينا - على سبيل المثال - أمضى جزءا كبيرا من حياته متخفيا هربا من ملاحقات السلطان محمود الغزنوي، ومن مطاردات جند شمس الدولة!! وقضى ابن باجة مسموما!! وتم التشهير بأبي الوليد بن رشد الذي عانى بدوره مرارة النفي والاغتراب! وبالإضافة إلى ما سبق؛ فإنني أعتقد أن من أبرز الأسباب التي دعت فلاسفة الإسلام إلى الاهتمام بفكرة السعادة، هو محاولة تصديهم لمدلولات السعادة العرفية الشائعة على المستوى الشعبي! فقد لاحظ جموع الفلاسفة والمتصوفة أن ثمة تفضيلا بينا للملذات الحسية وما يتبعها من انغماس حاد فيها، مع ما يجره ذلك من ابتعاد عن منظومة الفضائل الروحية والأخلاقية.

أما على المستوى التنظيري، وهو الأهم بنظرنا، فيمكننا ملاحظة أن محاولات الفلاسفة قد استهدفت - ضمن ما استهدفت - النيل من تصورات بعض الفقهاء والمفسرين عن السعادة الأخروية وماهيتها، التي لم تبتعد بحال من الأحوال عن التصور الشعبي السابق!! صحيح أنه لا يمكننا تأكيد مثل هذا التأويل لموقف فلاسفة الإسلام من السعادة وبواعثه، ولكن على أقل تقدير يمكننا إدراك أن عقلانية وروحانية السعادة لدى فلاسفة ومتصوفة الإسلام كانت على النقيض تماما من التصور الفقهي التفسيري للسعادة الأخروية وتجلياتها! وقد يعد ذلك سببا كافيا، ودلالة تفسيرية كذلك، لتأكيد الفلاسفة والمتصوفة على هاتين الصفتين (عقلانية وروحانية السعادة) ونفي ارتباطهما بالجوانب المادية الحسية، وإن كانت ممارسات بعضهم العملية أبعد ما تكون عن ذلك!! ومن هنا، فإنه على الرغم من تنوع منهج دراسة السعادة عند كل من الفلاسفة والمتصوفة، فإن ثمة اتفاقا عاما بينهما على عدة نقاط رئيسية في مقدمتها: اتفاقهما حول غائية السعادة وروحانيتها، وضرورة تحقق الاجتماع البشري من أجل حصولها، وأنها تكمن في المعرفة العقلية الخالية من أي مصلحة أو منفعة شخصية.

ومع ذلك، فإن ثمة اختلافا واضحا كذلك بين كل من الطريقة الفلسفية العقلية والطريقة الصوفية العرفانية، وبخاصة في ما يتعلق ببحث مسألتي المعرفة والسعادة! ففيما يقرر الفلاسفة أن أصناف الغايات التي يطلبها المرء في حياته متعددة، وأن اللذة - حتى في أشرف أشكالها (اللذة العقلية) - لا تمثل غاية بحد ذاتها – كما الشأن عند المتصوفة -، يخلط بعض المتصوفة في تصورهم بين مفهومي السعادة واللذة، ناهيك عن أنهم عادة ما يقصرون حديثهم على السعادة الأخروية دون الدنيوية!! هذا في ما يخص الرؤية العامة لمسألة السعادة؛ أما في ما يتعلق بارتباطها كإشكالية فلسفية بإشكاليات أخرى، فمن الملاحظ أن الفلاسفة يؤكدون حصول السعادة عن طريق التحصيل واكتساب العلوم النظرية البحتة، كما يؤكدون أيضا استحالة حدوث «الصور الروحانية» من خلال المجاهدة الصوفية، وذلك بخلاف المتصوفة الذين - رغم تأكيدهم ضرورة الجمع بين الطريقتين الفلسفية والصوفية - فإنهم يميلون إلى القول بأن المعرفة تحدث في الأساس عن طريق الكشف والإلهام الصوفي، أكثر مما يتم تحصيلها عن طريق العقل والبرهان الفلسفي!!

* كاتب مصري