غاوك ومسلمو ألمانيا.. استحقاقات إشكالية الاندماج

إميل أمين*

TT

إلى أين يمضي الجدل الدائر في أوروبا حول إمكانية، بل إشكالية، اندماج المسلمين؛ سواء المهاجرون أو أصحاب البلد الأصليون في كل مدارات الحياة هناك؟ سؤال بدأ في واقع الأمر يضحي مزعجا، لا سيما بعد الذي جرى في تولوز وأعاد النقاش إلى المربع رقم واحد مرة جديد.

والشاهد أنه إذا كانت فرنسا تواجه في الآونة الأخيرة قلاقل فكرية على هذا الصعيد، فربما كانت ألمانيا أفضل حظا بعض الشيء، وإن بقي النقاش قائما، لا سيما بعد انتخاب القس الإنجيلي «يواخيم غاوك» كرئيس لها.

كيف ستمضي المقادير بـ«غاوك»، وهل سيكون رئيسا لكل الألمان بغض النظر عن الدين، أم أنه رجل له تصريحات سابقة، تقطع الطريق على أمل اندماج مسلمي ألمانيا في الحياة بعمومها داخل ألمانيا وفي أوروبا؟ والمؤكد أن هناك آمالا عريضة من قبل كل الألمان، وفي مقدمتهم مسلميها، لأن تكون رئاسة غاوك «بردا وسلاما» اجتماعيا على الجميع، لا سيما أنه معروف بشعبيته وتاريخه كمناضل ضد القهر الشيوعي والطريقة التي حاول دائما أن يوافق بها بين الحقيقة والعدالة والمصالحة لكن.. هل من حجر عثرة في تصريحاته السابقة تجاه مسلمي ألمانيا؟ وهل جاء خطابه الأول لينفي هذه المخاوف ويطردها خارجا؟

وصف غوك نفسه ذات مرة بأنه «محافظ ليبرالي ويساري»، وقد وصف كتاب تيلو سارازين عن المهاجرين في ألمانيا، الذي نشر في صيف عام 2010 بأنه «شجاع»، وقد حاول سارازين في ذلك الكتاب البرهنة على أن اندماج المهاجرين المسلمين في ألمانيا قد باء بالفشل، وأنه لا فائدة منه.

على أن غاوك، حتى قبل أن يصبح رئيسا لألمانيا مؤخرا، نأى بنفسه عن أطروحات سارازين المثيرة للخلاف، مشيرا إلى أن ثناءه كان متعلقا بخرق العادة الدبلوماسية المألوفة في الدوائر السياسية الألمانية، وهو ما قام به السياسي سارازين عبر كتابه، وبهذا الشأن أكد غاوك أنه يرفض أي نوع من الحظر الفكري، مشيرا إلى مبادرات له دعا فيها إلى مزيد من دمقرطة الحياة، في أعقاب سنوات الشيوعية الطويلة.

هل كان خطاب غاوك الأول يحمل بشائر طيبة لمسلمي ألمانيا؟

يمكن أن يكون ذلك كذلك بالفعل، ففي خطابه الأول الذي ألقاه نهار الجمعة 23 مارس (آذار) الماضي، خلال جلسة مشتركة للبرلمان الألماني ومجلس الولايات في مبنى «الرايخستاغ» بالعاصمة برلين، تعهد غاوك بمواصلة جهود سلفه «فولف» في تحسين اندماج المتحدرين من أصول أجنبية في المجتمع الألماني. وذكر غاوك أنه يجب على جميع من يعيشون في ألمانيا أن يشعروا بأنهم في موطنهم أيضا، معربا عن أمنيته في أن تكون بلاده مترابطة بـ«العدالة الاجتماعية والمشاركة وفرص الترقي»، ومضيفا: «لا يجب أن يشعر أحد بأنه ليس جزءا من المجتمع لأنه فقير أو كبير في السن أو معا». بل أكثر من ذلك، مضى غاوك مهاجما لتيارات اليمين المتطرف وداعيا إلى التصدي لها، إذ قال وسط تصفيق حاد: «كرهكم هو حافزنا، إننا لن نتخلى عن بلدنا.. أنتم أصبحتم من الماضي، وديمقراطيتنا ستعيش» واصفا ألمانيا بـ«بلد المعجزة الديمقراطية».

يأخذنا الحديث عن غاوك ومخاوف مسلمي ألمانيا من عدم وجود مساحة عريضة لهم في البلاد، من خلالها يجدوا مسارب لذلك الاندماج، إلى طرح علامة استفهام مهمة أشار إليها نافيد كرماني في كتابه «من نحن.. ألمانيا ومسلموها».. هل الإسلام قابل للاندماج أم لا؟

يلفت كرماني إلى شهادة عدد غير قليل من الباحثين لجهة أن الإسلام هو الأقرب إلى الحداثة من بين الأديان الثلاثة التوحيدية، ويشير إلى الفيلسوف البريطاني، ارنست جلنر، الذي يؤكد دوما على عالمية الإسلام والتزامه بالنص القرآني وبمفهوم العدالة الروحية، ويشيد أيضا بإمكانية مشاركة جميع الناس في مجتمع المؤمنين فضلا على تنظيمه للحياة الاجتماعية بطريقة عقلانية.

هناك أيضا شهادة أخرى مهمة للأسقف وعالم الإسلاميات، كينيث كراج، يشير فيها إلى أن القرآن يقدم أيضا صورة راديكالية للإنسان، وأن الإسلام يتيح مدخلا إلى الحداثة بطريقة لم تتحقق في المسيحية، إلا بعد التخلي عن محتويات جوهرية من العقيدة.

أما العالم السياسي الفرنسي، فرانسوا بورجات، فيرى أن الإسلام تحديدا يتيح إمكانية أن يسير المرء على نهج «المرجعيات الأساسية» لخطاب الحداثة ذي الطابع الغربي، بما في ذلك أيضا مجالا حقوق الإنسان والديمقراطية.

ومهما يكن من أمر، فإن مسلمي ألمانيا في أول الأمر وآخره هم المحدد والمعيار لنجاح فكرة الاندماج أو فشلها، وعلى هذا تبقى آراؤهم في الرئيس الألماني الجديد مهمة للغاية، لا سيما حال طرح علامة استفهام أخرى من عينة: «ما الذي يريده هؤلاء من الرئيس الجديد؟».

عند يان كولمان، من «دويتشه فيلله» أن بعض الألمان المسلمين يعتبرون اختيار يواخيم غاوك في هذا المنصب خطأ واضحا، مثل النائب في البرلمان الاتحادي عن حزب الخضر، والمتحدث السياسي باسم حزبه لشؤون الهجرة، ميميت كيليج، المولود في تركيا، الذي يستنكر قبل كل شيء تفهم غاوك لنظريات تيلو سارازين، العضو السابق في مجلس إدارة البنك المركزي الألماني ومؤلف الكتاب المثير للجدل «ألمانيا تلغي نفسها»، والذي قال في حديث لصحيفة «تاغس شبيغل الألمانية»: «إن سارازين تحدث بصراحة أكثر من صراحة السياسيين حول مشكلة موجودة في المجتمع.

وهناك من بين مسلمي ألمانيا اليوم في حقيقة الأمر من يتوجس خوفا من غاوك على الرغم من خطابه المطمئن والمنفتح الأول، فالرجل، وفي برنامج تلفزيوني تابع لصحيفة «نويه تسورشر تسايتونغ»، أكد على أن الإسلام «غريب وبعيد» عن أوروبا، وقال: «إنه لا يجوز تجاهل ذلك»، مضيفا: «نحن لدينا تقاليد مختلفة تمام الاختلاف، والناس في أوروبا يتحسسون عندما يشعرون بأن ما نبت في أرض التنوير الأوروبية، وفي أرض أوروبا الدينية، يؤثر عليه تأثيرا دخيلا، ونحن نرى ذلك في كل مكان في أوروبا، وليس فقط في ألمانيا وحدها».

هل يضع هذا الحديث غاوك في مقارنة مع سلفه الرئيس الألماني السابق، كريستيان فولف، صاحب العبارة المشهورة: «الإسلام جزء من ألمانيا»؟

حكما أن الجميع لديه فكرة مفادها أن منصب الرئيس الألماني هو منصب تمثيلي، شرفي فخري، ليس أكثر، وأن مجريات الأمور كلها في يد المستشارة الألمانية، لكن الدكتور نديم إلياس، رئيس مجلس أمناء المجلس الأعلى للمسلمين في ألمانيا، يرى أنه في الواقع منصب غاية في الأهمية، وينبغي أن تنبثق عنه توجهات وإشارات، وأن يصبح قاسما جامعا في المجتمع.

وفي الوقت الذي ربما ينتاب البعض فيه مخاوف لجهة أن رئيس ألمانيا الاتحادية الجديد قس سابق، مع ما يمكن إن يعنيه هذا من ميول دينية مسيحية منافية أو مجافية لحقوق المسلمين في ألمانيا، فإن الدكتور إلياس يرى عكس ذلك، إذ يعتقد أن هذا سيؤثر إيجابا على مواقفه، وأنه لا تعارض في تصوره بين الانتماء والتطبيق والقناعة، بين الدين المسيحي والتوجه العادل المحقق والمعين والمتابع لقضايا المسلمين، ويذكر بأن الرئيس فولف كان أيضا من الناشطين في الكنيسة، وكانت مواقفه من المسلمين مشرفة، وأن الأمرين غير متعارضين بأي حال من الأحوال، بل إن الانتماء العقائدي الكنسي يجب أن يدفع من يؤمن به إلى العدل في التعامل مع الآخرين، وإلى المحبة والمساواة.

هل سيشهد مسلمو ألمانيا في الأيام المقبلة مزيدا من الاندماج في عهد غاوك؟ المقارنة ولا شك سوف تكون قاسية بالنسبة للرئيس الجديد، فهو في مواجهة ومقارنة مع تاريخ سلفه، ذاك الذي حتى وقبل أن يصبح رئيسا، كان تاريخه داعما لاندماج المسلمين في الحياة السياسية الألمانية، فحين كان رئيسا للوزارة في ولاية ساكسونيا السفلى، عين أول مسلمة في منصب وزيرة في حكومة الولاية، ثم تابع هذا النهج، وهو ما لا ينساه له المسلمون هناك، الذين لا يلتمسون عطفا من أحد، وإنما ينادون بتنفيذ مبادئ القانون الأساسي في ألمانيا، الذي يشمل كل ما يتمنونه ولكن مع تنفيذ القانون يحتاج الأمر إلى إنسان يؤمن بقضية ويتبناها.

وفي الحقيقة هناك علامات طيبة في الأفق، وهناك كذلك مخاوف من علو صوت اليمين الألماني ضمن اليمين الأوروبي الذي يلوح اليوم للجميع بالمخاطر المحدقة من «الإسلاموية المتطرفة»، على غرار ذاك الذي جرى في تولوز.. ماذا عن ذلك؟ من بين العلامات الطيبة هذا الحكم الذي أصدره قاضي محكمة ألمانية بالرجوع إلى الشريعة الإسلامية لحل خلاف نشب بين عائلتين تركيتين حول «المهر».

وقد ذكر القاضي في حكمه أن الشريعة الإسلامية وضعت المهر كضمانة للمرأة ضد الإملاق عند انفصالها عن الرجل، ومن هنا فإن المرء يمكن أن يتفهم وجود قطاع ألماني كبير قابل لتفهم المرجعيات الدينية والعقائدية لمسلمي ألمانيا، لا سيما أن القانون الألماني ينص على إمكانية تطبيق قوانين الدول الأجنبية، لا سيما تلك التي تتعلق بالأحوال الشخصية، كالزواج والميراث والمواليد والطلاق، على مواطنيها المقيمين في ألمانيا، إذا كانت هذه القوانين لا تتعارض مع فقرات الدستور الألماني.

ما الذي يتبقى إذن ؟ يتبقى ولا شك حديث المخاوف الطاردة لفكرة الاندماج، وهو حديث صنو لتصاعد المد الذي يراه البعض إسلاميا سياسيا راديكاليا، وجانب كبير منه يمكن أن يكون متطرفا في العالم العربي، وتبعات واستحقاقات ما حدث العامين الماضيين شرق أوسطيا على الحضور الإسلامي في أوروبا.

غير أنه لحسن الحظ تبقى هناك عقليات وأذهان ألمانية متفتحة وعلى درجة عالية من الوعي الفكري، ولا تنظر للأمور بمعيار حدي، ومن بنيها على سبيل المثال، وزير الخارجية الألماني، غيدو فيتسرفيله، ففي حوار له نشرته صحيفة «فرانكفورتر الغماينه» الألمانية أشار فيله إلى أنه «من المهم أن تكون النظرة نزيهة وحيادية، فالإسلام السياسي ليس متساويا مع الإسلاموية المتطرفة، والتوجه الإسلامي لا يمثل في حد ذاته فكرا رجعيا معاديا للحداثة والديمقراطية والحرية»، ويضيف أنه «يجب علينا أن نتعلم التدقيق في النظر والتمييز، فقد دخلت ساحة السباق السياسي مجموعات متطرفة، لن يكون للحوار معها أي نجاح، لكن في تونس أو المغرب عل سبيل المثال نرى أنه حتى الآن كانت المجموعات الحاصلة على الأغلبية أحزابا وسطية ذات توجه إسلامي معقول.. هل لهذا انعكاسات إيجابية أو سلبية على الاندماج الإسلامي في الغرب؟».

حتما ولا شك، أضحى هناك بعد جديد سوف يرتبط في الأفق الأوروبي والأميركي (دون أدنى شك) بعملية اندماج المسلمين هناك، لا سيما في زمن ما قال البعض إنه «ربيع عربي» وذهب آخرون إلى أنه «شتاء إسلامي»، وهو حديث قائم بذاته، ولنا معه عودة بإذن الله.

* كاتب مصري