الهوية الدينية والثقافية وتحديات الترجمة مرة أخرى

رضوان السيد

TT

كنت قد تحدثت في مؤتمر بأبوظبي عن تأثيرات الترجمة على الهوية في التثاقف والتوتير والانجراح. بيد أن الملاحظات التي أدلى بها المثقفون الحضور وفي نقاط أساسية، تجعل من المفيد العودة إلى الموضوع مرة أخرى لاستكمال الإغفال، ومراجعة الأخطاء والتجاوزات، بسبب خطورة المسألة ودقتها أمس واليوم.

لقد تفحصت الترجمة وتأثيراتها على الدين والثقافة في مجالنا الحضاري في ثلاث حقب أو أزمنة وهي: الزمان الأول بين القرنين الثاني والخامس للهجرة/ الثامن والثاني عشر للميلاد. والزمان الثاني هو القرن التاسع عشر الميلادي والثلث الأول من العشرين. والزمان الثالث هو المرحلة المعاصرة. ولن أدخل في نقاش بشأن الهوية وعناصرها، وإنما أفترض للدخول في الموضوع أنها الروح العميق للحضارة ويتجاور فيه ويتداخل الديني بالثقافي، والشعوري بالباطن والخفي. وليست لثورانها أو هدوئها قوانين محددة، إنما فيها فواصل قوية للتمايز والتمييز، وأحسب أن الجدال فيها يشبه الجدال بين المسلمين الأوائل في مفهوم الإيمان وهل هو اعتقاد وتصديق لا يزيد ولا ينقص، أم أنه اعتقاد وقول وعمل ويزيد وينقص؟! وعلى أي حال، وكما تختلف مفاهيم الهوية وتعريفاتها؛ فإن الذي يختلف أيضا التقدير في العلائق بين الحضارات والثقافات، ودور الترجمة في ذلك. فإذا كانت الحضارة تعني الأنماط المادية ومناهج الحياة والعيش والتصرف في مدى جغرافي واستراتيجي معين؛ فإن التواصل طبيعي أو ضروري، والتفاعل سلبا أو إيجابا مع هذا العنصر أو ذاك، يتم عبر حقب متطاولة، وبذلك لا تبدو آثاره بسرعة - في حين أن الثقافة التي تغلب فيها المسائل الشعورية، تندفع وتندلع أو تغوص في خلجاتها التأثيرات الإيجابية أو السلبية بسرعة فائقة، وإن لم تظهر مفاعيلها إلا بعد مدة أحيانا! ولندع هذه التأملات التي قد لا تستقر في الذهن إن بقيت على مستوى التنظير، ولننصرف إلى تأمل الترجمة وتأثيراتها في الثقافة العربية قديما وحديثا. فالترجمة تحصل نتيجة حاجات نظرية أو عملية. وهي تحصل إما بدافع الإفادة البحتة، أو تقليدا من جانب المغلوب للغالب، كما يقول ابن خلدون. ومن البديهي القول إن الزمن الأول للترجمة عن اللغات الأخرى في تاريخ الثقافة العربية (بين القرنين الثاني والخامس) إنما كان الدافع الأول للدخول فيه هو الحاجات العملية الحقيقية أو المتوهمة من جانب النخب الحاكمة أو المثقفة. فقد بادرت النخب العربية الصاعدة بعد موجة الفتوحات للترجمة في الطب والهندسة والحساب والفلك والكيمياء والفيزياء الطبيعية وأدبيات الحرب والصيد والفلاحة ونصائح الملوك أو مرايا الأمراء.. ثم في المنطق والفلسفة والميتافيزيقا والأخلاق. وكانت الترجمات عن حضارة متقدمة في هذه المسائل هي الحضارة اليونانية، والتي خالطتها عناصر هيللينية بعد ذهاب نضارتها، وحفظت ذلك كله أو بعضه الحضارة البيزنطية. وكان المثقفون السريان هم الوسيط لمعرفتهم باليونانية، وصلاتهم بمراكز الحضارة القديمة في حران وجند يسابور والإسكندرية والقسطنطينية. بينما ترجم المسلمون الجدد عن الفارسية إضافة إلى ترجمات أقل عن السريانية (وليس بتوسط منها فقط) والهندية واللاتينية.

والملاحظ أننا لا نقرأ شيئا عن حساسيات معينة تجاه الترجمة حتى النصف الأول من القرن الثالث الهجري، أي بعد أكثر من مائة عام على بدء الحركة. وما تناولت تلك الحساسيات العلوم التطبيقية ولا حتى الفلك، وإنما قرأنا الجاحظ وهو ينكر فائدة ترجمة الشعر، ثم يقول إنه لا فائدة من حكمة اليونان ولا من آداب بني ساسان (في مجال الكتابة الديوانية). كما وجدنا النظام المعتزلي يرد على أرسطو وأتباعه، ووجدنا المحاسبي يتناقش مع الكندي الفيلسوف في مفهوم العقل وهل هو غريزة أم جوهر فرد؟ وبعد ذلك بقليل وجدنا أبا سعيد السيرافي يتناقش مع متى بن يونس في النحو والمنطق؛ أو النحو باعتباره منطق العرب، بخلاف ما ترجم منه عن أرسطو لأنه يمثل «قانون» الفكر في حضارة أخرى! إن المقصود هنا ليس تتبع ما ترجمه العرب، وفي أي مجالات في تلك الحقب، بل التأثيرات المحتملة للترجمة على مسائل الهوية وما تعلق بها من الجوانب الثقافية. والاستنتاج الأول أن أكثر ما ترجم كان تطبيقيا وأفاد في التقدم الحضاري في مديات متطاولة بالتلاقح والتطوير، وما أثار حساسية أحد في الغالب. وأن المثيرات للحساسيات كانت مسائل ثقافية وفكرية ودينية. إنما في حين اشتد استنكار فئات للتأثيرات الدينية والفكرية، تبنت فئات دينية وثقافية كبيرة ونافذة لنتاجات كثيرة غير عملية، أهمها المنطق، لكنها تتناول أيضا مسائل ذات حساسية شديدة مثل تنظيم الدرس اللاهوتي أو الكلامي، وإقامته ليس على المنطق فقط؛ بل وعلى عناصر الفلسفة الطبيعية الأرسطية. وهكذا فإن التأثيرات كانت عميقة على مستوى المعرفة وعلى مستوى التوجه. لكنها رغم عمقها ما أثارت حساسيات كبرى ذات طبيعة دينية وثقافية. ويرجع ذلك إلى عدة اعتبارات: أن الحضارة العربية الإسلامية كانت قوية وفاتحة وتسعى للامتداد، أي إنها تستوعب وتهضم وتتجاوز. وكانت الحضارات التي تستمد منها في موقع المغلوب أو الميت، ولذلك ما كانت تثير التحدي أو الحساسية الزائدة. وإن اختلف المسلمون فيما بينهم رغم ذلك في طرائق الأخذ والهضم والقبول أو الرفض.

ويختلف الزمن الثاني (القرن التاسع عشر والعشرون) عن الزمن الأول في عدة أمور أساسية. فقد ظلت الترجمة وسيلة اتصال رئيسية (وهذه المرة عن الفرنسية والإنجليزية ثم الإيطالية والروسية والإسبانية). وكانت الدوافع معرفية، وتتناول العلوم والمجالات التطبيقية، لكنها تتناول أيضا مسائل ومجالات تقنية وعسكرية وتربوية تتصل بالمشروع الجديد للدولة في عالم الإسلام العثماني وخارجه. إنما ومنذ اللحظة الأولى كانت الاختلافات شاسعة بين الزمانين. فقد اضطر رفاعة الطهطاوي وفي كتابه عن رحلته الباريسية (1826 - 1831) أن يترجم أو يلخص دستور الثورة الفرنسية (1794)، وأن يترجم بعد ذلك قانون نابليون (المدني). ثم وسط هذه الموجة الهائلة من الترجمات ووجوه التواصل الأخرى، ظهرت الدعوة بعد سبعينات القرن التاسع عشر، ليس إلى تغيير نظام الدولة وحسب؛ بل وإلى إصلاح الشأن الديني تغييرا وتطويرا! وبعكس الزمن الأول للترجمة، ما كانت الهوية الدينية والثقافية متفاعلة، أي آخذة ورافضة أو بين بين؛ بل بدت مشلولة لا تظهر ردود أفعال ظاهرة مستحسنة أو مستنكرة. ويرجع ذلك لأمرين اثنين رئيسيين: أن الحضارة الآخذة كانت حضارة غاربة قد تجمدت فيها عناصر كثيرة، وأن الحضارة المأخوذ منها كانت حضارة هاجمة على المستويات كلها: التقنية والمعرفية والاقتصادية والسياسية.. والعسكرية؛ بما في ذلك وجود مشروع لديها للاستيلاء على العالم القديم، بعد اكتشافها للعالم الجديد والاستيلاء عليه. ولذلك كان الآخذون إما مسحورين أو مغلوبين (يخضعون للقانون الخلدوني)، بينما كان رجال الدين والثقافة التقليدية مشلولين لا يملكون وسائل وأدوات للرفض أو الترتيبات للقبول والإساغة والتمثل! وقد ضربت أمثلة لعمق الاختراق من جانب الثقافة والحضارة الغربية لعالم الإسلام ليس في النواحي العسكرية والاستعمارية وحسب؛ بل وفي القضايا الدينية البحتة مثل تفسير القرآن، والتعامل مع الفقه والشريعة. وقد استغربت أن لا تكون هناك وجوه مواجهة كبرى في تلك الفترة، وإنما رأيت أنه يمكن التماسها في أعمال المتمثلين مثل كل أعلام «النهضة»، ومثل تحولات محمد رشيد رضا من تبرير وتسويغ «تحرير المرأة» وإنشاء خلافة عربية، وحكم دستوري، وإلى صيرورته أصوليا سلفيا مدافعا عن الإمامة العظمى بعد انقطاعها من تركيا في العشرينات من القرن العشرين.

ولنصل إلى الزمن الثالث، زمن حضارة العصر وعصر العالم؛ في العقود الخمسة أو الستة الأخيرة. فقد تضاءل تأثير الترجمة، وغلبت وسائل التواصل الأخرى التي اجترحتها الحضارة الغربية للسيطرة على العالم بعد الحرب العالمية الثانية. وظهرت آثار ذلك الاجتياح على عالم العرب والمسلمين. فقد ثارت الهوية المجروحة ثورانا هائلا تمثل في أطروحات الغزو الثقافي، وفي قيام حركات الصحوة المؤكدة على الرسوم والشعائر التعبدية والاجتماعية من جهة، والرافضة للتغريب بكل أشكاله، باعتباره يهودية مستترة. وأخيرا كان هناك من قال بمقولة خير الدين التونسي: الدفاع عن النفس من طريق تبني الوسائل والأدوات الغربية. كما كان هناك من قال بل نصنع حداثتنا الخاصة، والتي نملك جذورها ومصادرها في حضارتنا القديمة، وإنما لو نظرنا بدقة لوجدنا أنها صارت جميعا محورة بحيث تتلاءم بقصد أو دون قصد مع الحضارة السائدة:

فيا دارها بالخيف إن مزارها قريب ولكن دون ذلك أهوال