السعادة موضوعا للجدل الفلسفي

محمد حلمي عبد الوهاب *

TT

تثير السعادة، كإشكالية فكرية، عددا كبيرا من الأسئلة أكثر مما تعد بتقديم إجابات شافية!! وفي مقدمة هذه التساؤلات تلك المتعلقة بماهية السعادة من جهة، وعلائقها بكل من الأخلاق، والدين، والتصوف، والسياسة، والاجتماع، والإنسان من جهة أخرى؟! كذلك أيضا، يبرز تساؤل مشابه حول علاقتها بالنفس، واللذة، والخير، والمنفعة، والمعرفة؟! على أن البعض قد يتساءل عن مدى أهمية التعرف على المذاهب الفلسفية المتعلقة بإشكالية السعادة وعن جدواها في عصر العولمة؟! خاصة مع تعذر تحققها عمليا، بحسب ما هي واردة في تصورات فلاسفة ومتصوفة الإسلام؟! والجواب عن هذا التساؤل يمكن اختصاره فيما يلي: إن من شأن التعرف على هذه المذاهب إغناء تصوراتنا عن طبيعة الحياة الفكرية والروحية في إسلام العصر الوسيط، خاصة ما يتعلق منها بمركزية فكرة السعادة بالنسبة للمذاهب الفلسفية والعرفانية.

أضف إلى ذلك أيضا، أن تلك المذاهب - رغم جميع ما بينها من فوارق مكانية وزمانية - فإنها جاءت متفقة في سعيها الدائب نحو التقدم الاجتماعي العام، نحو مجتمع المحبة والسلام والرفاهية، نحو سعادة الناس جميعا، بغض النظر عن أي اعتبارات تمييزية أو عنصرية.

هناك أيضا ما تقدمه لنا هذه المعرفة من دفع بين نحو التحصيل، وتحفيز للهمم بغية النهوض من كبوتها؛ وذلك من خلال تسليط الضوء على المثال والقدوة التي أنجزت ما أنيط بها من مسؤوليات على الرغم من كثرة المعوقات التي كانت تنهض على طول الطريق.

أخيرا - وليس آخرا - فإن ثمة إحساسا يكاد يصل حد اليقين بأن المسائل الكبرى التي باتت تواجهنا اليوم هي ذاتها التي واجهت أسلافنا من قبل، وأن ثمة تواترات حية ظلت بلا حل طوال تاريخ الإسلام مما يستلزم الوقوف على إسهامات الأولين من أجل الاستفادة منها، وطرح ما يمكن طرحه فيما بعد.

فمنذ أن خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان، وهو يحاول جاهدا أن يعثر على ظل لفردوسه الضائع وسعادته المفقودة! إذ سرعان ما تبين له؛ ما إن استقر فوق ظهر البسيطة، أنه ما عاد بإمكانه أو مقدوره أن يسترجع سعادته الأولى أو يستردها كاملة، وأن الدنيا ليست إلا محلا للشقاء! ومن هنا، كان أول هاجس ينتابه هو القلق المتزايد على مصدر رزقه ومعيشته! ويصور لنا العهد القديم، كيف أن آدم، عليه السلام، لما أن طرد من جنة الخلد وملك لا يبلى، أبدى علائم الضعف لمولاه، سائلا إياه عن كيفية العيش بأرض خالية من كل شيء عداه، فكان الجواب: «بعرق جبينك تأكل خبزك»!! وهنالك، استقر في ذهنه أن السعادة ما عادت تأتي إليه بمفردها، وإنما هو في حاجة دائمة للبحث عنها، وأن يستكنه سرها الغامض؛ بحثا قد يقضي المرء حياته كلها دون أن يصل فيه إلى نتيجة مرضية، ولكنه في النهاية أمر لا بد منه!! ولا شك أن الفلسفة لم تعد اليوم ذلك العلم الذي يبحث في ملكوت مباين لما نعيشه بالفعل، فأي علم لا يمت للواقع المعاش بصلة لسنا في أمس حاجة إليه، فضلا عن أننا لم نعد من الترف الفكري بمكان يسمح لنا أن نهمل آلامنا إرضاء لفرط خيالنا، فمشكلاتنا الأساسية لم نجد لها حلولا بعد، ولا تزال الثنائية تحكم مسار تفكيرنا، وقد أضعنا سنوات طويلة في جدالات عقيمة لا وزن لها حول الأصالة والمعاصرة، أوقفت ركب النهضة وعوقت مسارها!! لذلك يسهل علينا - من خلال تتبع أعمال فلاسفة ومتصوفة الإسلام - ملاحظة أن كلا من المتصوف والفيلسوف قد حرص على رسم صورة أفضل لمجتمعه، استنادا إلى الواقع المعيش الذي عاشه كلاهما. فابن باجة - على سبيل المثال - تقلب في دروب السياسة، واستطاع بحاسته الفلسفية أن يتوقف عند أوجاع مجتمعه الأندلسي، فألمت به غربة فكرية عنيفة كانت النواة الأساسية لمشروعه الفلسفي الاجتماعي المتكامل.

ولعل مما له دلالة في هذا السياق، أن فيلسوفنا قد بين - في غير موضع ومناسبة - الآلام التي عانتها نفسه جراء تفاقم الأوضاع السياسية والاجتماعية والفكرية في عصره!! ليس غريبا إذن، والحال هذه، أن يجابه متوحد ابن باجة مشكلة الحياة في «المدن الناقصة، أو الفاسدة» التي يتعذر عليه فيها بلوغ أهدافه العقلية العليا، فيجد نفسه مضطرا إلى الهجرة إلى إحدى المدن الفاضلة، فإذا خلا عصره منها (كما هو الشأن مع فيلسوفنا) لم يكن له مندوحة عن اعتزال الناس، وترك مخالطتهم إلا في الأمور الضرورية! إن هذا التصرف اليائس إنما هو الملاذ الأخير للمتوحد البائس!! ولا يختلف الأمر كثيرا بالنسبة إلى صدر الدين الشيرازي الذي يعلق في مقدمة كتابه الرائع: «الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة»، بلهجة كئيبة على الأذى الذي أصاب الفلسفة في عهده، بتحول الجمهور عن دراستها. فقد ثبت له - بعد أن توفر على تحصيلها - أن مبادئ الفلسفة مقرونة بالحقائق الملهمة! وإذا كانت الفلسفة، في جانب من جوانبها، تبحث فيما ينبغي أن يكون بالفعل؛ فإن الواقع الذي هو كائن يمثل نقطة انطلاقها في بحثها هذا من دون شك.

يتحصل مما سبق أن الفلسفة في جوهرها ليست إلا محاولة لفهم وتغيير الواقع: آراء، وسلوكا، ومعتقدات. وتبعا لذلك؛ لم يكن الفلاسفة يوما من الأيام - إلا فيما ندر - بمعزل عن الإشكالات الحياتية التي تسود مجتمعاتهم؛ وإنما كانوا على العكس من ذلك تماما على صلة دائبة معها يتأثرون بها ومن ثم يؤثرون فيها. ولذلك فإنه من الخطأ بمكان أن ندرس مذهب فيلسوف ما بمنأى عن وضعه واعتباره دالة في سياق الحوادث ونظم الأفكار، وبالتالي تعبيره عن جملة الحاجيات الحياتية التي تسعى - ضمن ما تسعى - إلى بلوغ درجة المثل وعالم الأماني.

وعلى ذلك؛ فإن مهمة الفلسفة الحقيقية ليست بالدرجة الأولى تفسير العالم؛ لأن الجزء لا يستطيع مطلقا أن يفسر الكل! وإنما تكمن مهمتها في أن تهدينا في بحثنا عن السعادة، ليس فقط بمجموعة الآراء الحكيمة؛ وإنما بعنايتها بالحياة البريئة من كل نوع من أنواع الاضطراب والجزع.

وبناء على ما سبق؛ فإن العلاقة بين السعادة والفلسفة لم تنفصم أبدا، ويكفي للتدليل على ذلك أن محض النظرة المنتبهة المتيقظة إلى جملة التعاريف المختلفة للفلسفة من شأنها أن تقف بنا على سيرورة هذا الاتصال ودوامه على مر العصور! فثمة تعريف للفلسفة بأنها: «علم السعادة في الحياة والعمل لتحقيقها» نجده منسوبا لديوجانس، أشهر الفلاسفة الكلبيين.

أما فيما يتعلق بوضعية هذا الارتباط في سياق الفلسفة الإسلامية؛ فيكفي أن نعلم أن لفظ «الفلسفة» يأخذ تعبير «الحكمة» بحكم أنها عبارة عن «استكمال النفس الإنسانية بتصور الأمور والتصديق بالحقائق النظرية والعملية على قدر الطاقة الإنسانية»، بحسب تعبير الشيخ الرئيس ابن سينا.

ومعلوم بداهة أن هذا الاستكمال يؤدي ضرورة إلى تحقق السعادة الإنسانية التي يؤكد صدر الدين الشيرازي حصولها عن طريق «معرفة حقائق الموجودات على ما هي عليه، والحكم بوجودها، تحقيقا بالبراهين لا أخذا بالظن والتقليد بالقدر الإنساني»، كما يعرفها بأنها عبارة عن «نظم العالم نظما عقليا حسب الطاقة البشرية ليحصل التشبه بالباري (عز وجل)».

ولعل ذلك هو ما دفع حجة الإسلام أبو حامد الغزالي - على الرغم من موقفه المتشدد تجاه الفلسفة - إلى القول بأن غاية الفلسفة تنحصر في الوصول إلى السعادة، وأن الفتور عن طلبها يعد حماقة ما بعدها حماقة!! ونتيجة لذلك؛ ينتهي الغزالي إلى تأكيد أن الصوفية والفلاسفة، على الجملة، وإن اختلفوا في الكيفية، كلهم متفقون على أن السعادة تكمن في العلم والعبادة. وذلك بأن يعلم المرء أن سعادة كل شيء ولذته، وراحته، في وصوله إلى كماله الخاص به. ومن يعلم ذلك فقد وصل إلى كماله الخاص، وقد سعد في الدنيا، إذ لا معنى للسعادة إلا نيل النفس كمالها الممكن لها!! واستنادا إلى ما سبق؛ أخذ ابن باجة يبشر بالسعادة العقلية، ويدعو متوحده لأن يسلك سبلها التي أبان عنها ضمن تضاعيف مؤلفاته - خاصة «تدبير المتوحد» و«رسالة الاتصال» - حتى يتيسر له من بعد ذلك أن يصبح نورا من الأنوار التي تسبح الله تعالى مع الملائكة المقربين الأبرار!! ولا شك أن السعادة مطلوب كل طالب، ومرغوب كل راغب، أيا كان إنسانا عاديا، أو حتى فيلسوفا! وكما لاحظ البعض بحق؛ فإن تعاريف الفلسفة على كثرتها تتفق في شيء واحد ألا وهو نتيجتها العملية. فبفضل الفلسفة يتصف الإنسان بالحكمة التي لولاها لانهارت كل القيم الإنسانية وزال الفرق بين الخير والشر، والسعادة والشقاء.

فلولا اشتغال أفلاطون بالفلسفة لما وضع جمهوريته، ولولا الفلسفة لما أجهد الفارابي نفسه في بناء مدينته الفاضلة، ولولا بحث ابن باجة عن السعادة لما أعمل عقله في وضع خارطة طريق من أجل تدبير متوحده في المدن الفواسد!! ليس غريبا إذن، والحال هذه، أن يصر فرنسيس بيكون - كل الإصرار - على ضرورة اختيار الحاكمين من بين الفلاسفة الكبار حتى يقدر للجنس البشري أن يسعد بأكمله، لا أن يكتفي فقط بحفظ النسل ودوام الاستمرار!.. وتلك قضية أخرى.

* كاتب مصري