تأثيرات الصحوة في حياة المسلمين ذهابا وإيابا

رضوان السيد

TT

شهد العقدان الماضيان طوفانا من الكتابات التي عُنيت وتعنى بالتنظير في المجالين السياسي والعام على أساس من القرآن الكريم أو الإسلام بشكل عام أو التجربة التاريخية الإسلامية. وكان المنطلق هو نظام الإسلام أو الشرعية الإسلامية التي تكتسب معناها من أصلين: الحاكمية وتطبيق الشريعة. والحاكمية رؤية للنظام السياسي الإسلامي اشتقها أبو الأعلى المودودي مؤسس «الجماعة الإسلامية» بالهند وباكستان من عدة آيات قرآنية تقول «ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون»، أو الفاسقون، أو الظالمون. وقد اعتبر المودودي - وتبعه في ذلك عديدون منهم الندوي وسيد قطب وآخرون - أن هذا التحديد هو لحكم الله والنظام الذي يريد الله سبحانه على الأرض من خلاله. والمكلفون بذلك هم البشر المؤمنون، لأن الكافرين هم أولئك الذين يحكمون بالطاغوت. فالاستخلاف الذي ذكره الله سبحانه باعتباره مهمة الإنسان على هذه الأرض من أجل إعمارها، إنما يستقيم إذا حكم الناس بما أنزل الله.

وقد كان طبيعيا استنادا لهذا التأسيس، أن يجري تخصيص «حكم الله» أكثر، فقيل إنه يتمثل في تطبيق الشريعة. وبذلك صار هناك تصور نظري من جهة، وقانوني من جهة أخرى، يقوم عليهما مفهوم الشرعية. وقد انصرف آخرون استنادا إلى هذا الأمر بجانبيه النظري والتطبيقي أو العملي إلى رسم المعالم لنظام الإسلام السياسي بحيث يتحدد معنى تطبيق الشريعة في الجوانب العقدية والعبادية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية. وقد وقع في خلفية هذه التصورات جميعا إظهار التقابل بين النظام السياسي الغربي بشقيه الرأسمالي والماركسي من جهة، ونظام الإسلام السياسي والعام من جهة ثانية.

وما ظهر هذا التصور الشامل مرة واحدة بالطبع، بل تكونت أجزاؤه بالتدريج قبل أن تُرسَم له سقوفه النظرية في الحاكمية وتطبيق الشريعة. وما نعنيه بالتدرج في تركُّب الأجزاء أن سائر المنظرين إنما أهمهم بداية - خلال الحرب الثانية وبعدها - النظام الاقتصادي. وما رأى الإسلاميون بداية في الرأسمالية نموذجا أو مثالا، بل اعتبروا اقتصادات الماركسية والاشتراكية هي الأحرى بالمقابلة والمواجهة والتحدي، فجادلوا الرأسمالية ورفضوها، وانصرفوا إلى إظهار التمايز والأفضلية على الماركسية. وبين العدالة ومنع الاستغلال والتكافل، جرى التركيز على الزكاة والصدقات والأوقاف، وجرى تطوير مسألة البنوك اللاربوية أو الإسلامية.

وعندما نشبت الحرب الباردة، وتبلورت توجهات قطبيها الرئيسيين، اختارت الأنظمة التقليدية الانحياز إلى الولايات المتحدة، بينما اختارت أنظمة الضباط الانحياز إلى الاتحاد السوفياتي. أما المفكرون الإسلاميون فقد اختاروا بالحاكمية وتطبيق الشريعة في النظام الإسلامي الكامل، أن يشترعوا لنظام عالمي ثالث أو طريق ثالث هو النظام الإسلامي، الذي يُحل العدالة بالداخل، ويصنع السلام في المجال العالمي بدلا من الصراع المندلع والمستشري. والطريقُ الثالثُ هذا، الذي ظهر بمثابة احتجاج ثقافي وديني على النظام العالمي الثنائي القطبية وعلى الأنظمة التوتاليتارية السائدة بالداخل، ما شكل بديلا مقنعا على المستويين العربي والإسلامي، ولا على المستوى العالمي. ولذلك فقد انهمك المنظّرون الإسلاميون في جداليات مع الفكر القومي، والفكر الاشتراكي، وأفكار وممارسات الحرية والديمقراطية في المعسكر الرأسمالي. في حين خرجت جماعات شابة لممارسة العنف بالداخل في عدة أقطار عربية وإسلامية، من دون أن تضع لنفسها هدف الاستيلاء على السلطة، وإنما اكتفت بإزعاج الأنظمة السائدة، تارة باسم الإنكار على الكفر والطاغوت، وطورا باسم الجهاد. أما الذين اختاروا تجنب العنف - وهم التيار الرئيسي - فقد أبدوا استعدادا للعمل تحت الأنظمة والقوانين السائدة، من دون أن يُظهروا تميزا قويا في الفكر والممارسة. بيد أن الراديكاليين العنيفين ما لبثوا أن وُرّطوا أو تورطوا في الصراع العالمي بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، من خلال الذهاب إلى أفغانستان، ومن خلال الانتشار في الحديقة الخلفية للاتحاد السوفياتي الذي ما لبث أن سقط عام 1990، فاستدار هؤلاء بسرعةٍ مشهودة لمجابهة الولايات المتحدة وحلفائها على المدى العالمي، وصولا إلى الإغارة عليها في عقر دارها عام 2001 كما هو معروف.

كان الغرب والتغريب ومواجهتهما موضوعا رئيسيا من موضوعات الفكر الإسلامي في زمن الصحوة أو أزمنتها. بل إن أدبيات النظام الإسلامي كلها إنما ظهرت - كما سبق القول - في مواجهة ما صار يعرف بالنظام الغربي بشقيه الرأسمالي والماركسي. وعندما وصل الأمر إلى تبادل العنف كان الغرب قد طور أدبيات كبرى أيضا لمواجهة الإسلاميين العنيفين، بل الإسلام كله، من خلال تعابير مثل الخطر الأخضر، ومثل صراع الحضارات. ولذا فإن العقدين الأخيرين من السنين، واللذين بدآ بإخراج العراق من الكويت، وانتهيا بقتل بن لادن بباكستان، جعلا من العالمين العربي والإسلامي مسرحا للصراعات والحروب، وحصل خلالهما التدخل العسكري الأميركي بأفغانستان والعراق، وتغير المسرح الاستراتيجي، وظهر «الشرق الأوسط الكبير» بدخول إيران وتركيا إلى منطقة المشرق العربي إلى جانب الولايات المتحدة. وخلال هذين العقدين أيضا ما أظهر الفكر الصحوي الإسلامي حيوية مشهودة، وإنما أضاف إلى قاموسه الجهاد إلى جانب تطبيق الشريعة. وبدا لحين أن الأنظمة العسكرية والأمنية القائمة - وبالتحالف مع الولايات المتحدة في حربها على الإرهاب - باقية وبمهمة لن تنتهي هي مكافحة الإسلام الصحوي الثائر لحسابها ولحساب الغرب كله، من الولايات المتحدة إلى أوروبا، وروسيا، والصين، والهند.

بيد أن الشعوب العربية - وبخاصةٍ في البلدان ذات الأنظمة العسكرية والأمنية - ما لبثت أن تحركت للخروج من مآزق الاستبداد والاستقطاب والاستنزاف. وقد أعقبت ذلك عودة الصحويين للظهور، ليس من خلال أفكار الحاكمية وتطبيق الشريعة، بل من خلال صناديق الاقتراع. وهذا تطور جديد ذو دلالات واسعة. وهم ما استعادوا بذلك زمام المبادرة من الناحيتين الفكرية والسياسية. بل كانت المبادرة من جانب الشبان المدنيين، بينما سارع الصحويون إلى الاستجابة والتلاؤم تحت شعارات الحرية والكرامة والديمقراطية. وقد كان ذلك جديدا جدا على السلفيين، وليس على «الإخوان»، الذين انضووا تحت الشعارات نفسها، وما ذكروا الحاكمية ولا تطبيق الشريعة؛ وإنما انضموا إلى الحراك المدني الجديد بشروطه وشعاراته. وعندما حاولوا التملُّص باتجاه الاستيلاء على السلطة (ودائما من خلال صناديق الاقتراع)، حدثت لهم انتكاسة شعبية وسياسية كبرى، والتطورات لا تزال شديدة السيولة، كما في حالات الثورات الشعبية المشابهة.

أين هو فكر الصحوة الآن، وما مصير حركاتها؟ لا شك أن تفكير الصحوة هو تفكير هوية وخصوصية، وهو ما اقتصر على بلورة الإسلام السياسي، والإسلام الجهادي؛ بل كانت له تأثيرات جمة في حياة الناس التعبدية والشعائرية، وعاداتهم في المأكل والمسكن والملبس. وهكذا فقد مثلت «الصحوة» - على غموض هذا المصطلح - تغييرا شاملا في حياة المسلم وتفكيره ورؤيته للذات والعالم. ولا شك أن الإسلام السياسي جزء منها بمعنى من المعاني، ولهذا الإسلام شعبية كبيرة كما بدا في الانتخابات بمصر وتونس والمغرب. إنما ما سبب هذه الشعبية؟ هل هو نظريات الحاكمية وتطبيق الشريعة والنظام الإسلامي الكامل؟ أم هو الرفض للأنظمة السابقة، أم الأمران معا؟ والواقع أن النظريتين أو حتى شعار «الدولة الإسلامية» ما عادت جميعا تذكر أو تذكر بالكاد في العمل الجماهيري والإعلامي. وقد حسبت بداية أن ذلك من باب «التقية» والضرورات، لكنه ظهر في مسائل حساسة كان ديدن الإسلام السياسي التأكيد عليها مثل الدستور، في تونس ومصر. وافتراق «الإخوان» عن السلفيين في المجالات الرمزية هذه هو افتراق خبرة وتجربة في الغالب وليس افتراقا مبدئيا، بدليل أن السلفيين المصرين على إسلامية الدولة والدستور، كانوا إلى حين سقوط حسني مبارك مع الطاعة والجماعة، دونما ذكر لإسلامية الدولة! وهناك دلائل الآن على أن شعبية الإسلاميين تتراجع في تونس ومصر والمغرب وربما في الجزائر والأردن، فهل يرجع ذلك إلى مغادرتهم لشعاراتهم أم لعدم نجاحهم في تنفيذ البرامج التي رسموها أم لأن الجمهور فوجئ بسلوكياتهم الاستيلائية سواء أكانوا «إخوانا» أم «سلفيين»؟! إن الذي أراه - بعد هذه الفترة الوجيزة التي لا تسمح بحكم نهائي - أن الإسلاميين على اختلاف أطيافهم سائرون باتجاه تلاؤمية متزايدة، تنحّي الجوانب الاحتجاجية والنافرة من خطابهم. وسيتراجعون عن منزلة الفريق الرئيسي أو الأوحد على الساحة السياسية، لكنهم سيظلون مهمين ويمثلون الفئات المتدينة - المسيسة وبعض الفئات المحافظة، شأن الأحزاب المسيحية الديمقراطية في أوروبا بعد الحرب الثانية. وهكذا فالإسلام السياسي إلى زوال أو شبه زوال، ولمصلحة الدين والنظام السياسي معا، أما الصحوة وآثارها فهي باقية في حياة المسلم وطرائق تفكيره وتصرفه إلى آماد متطاولة.