السعادة بوصفها ضرورة وغاية

محمد حلمي عبد الوهاب *

TT

لا شك أن تحديد ماهية السعادة يخضع لاعتبارات شتى، في مقدمتها: بواعث النظر إليها، وعلائق بحثها بمختلف الإشكالات الفلسفية الكبرى الحاكمة لكل من: رؤى الحكيم، وتنظيرات الفيلسوف، وتحليلات العالم!! ومن المعلوم بداهة أن أي نتاج فلسفي إنما يتأثر بسياق مذهب قائله العام، فما التاريخ إلا تاريخ فلسفات وأيديولوجيات وأفكار، وما الفلسفة إلا فتح للمجهول وسيطرة على الواقع.

كانت السعادة، ولا تزال إذن، غاية قصوى لكل إنسان على وجه الأرض، ومعيارا أسمى لأحكامه التي يطلقها بين الفينة والأخرى على الأمور والأشياء من حوله. فهي: «الخير المطلوب لذاته» عند الفارابي، وهي الحقيقة المطلوبة لذاتها، المستأثرة بعينها بالنسبة لابن سينا الذي لطالما أكد - مرارا وتكرارا - أن كل الخيرات إنما تطلب من أجل الوصول إلى السعادة!! أما ابن باجة؛ فتحتل السعادة عنده مكانا بارزا في فلسفته العامة؛ وذلك تبعا لتقسيمه الغايات الإنسانية إلى صنفين رئيسين: غايات رئيسة، وغايات مرؤوسة. وبطبيعة الحال؛ تندرج السعادة لديه ضمن طائفة الغايات الأولى التي تمتاز بمجموعة من الخصائص المهمة من بينها: أنها أبدية، أي غير خاضعة للكون والفساد!! ولذلك يقسمها فيلسوفنا إلى قسمين: إما إلهية صرفة، أو إلهية عقلية! وفي الأحوال كلها؛ تبدو السعادة عند معظم فلاسفة الإسلام بمثابة الغاية القصوى، بمعنى أنها ليست مجرد توطئة إلى غايات أخرى! وبلغة ابن باجة: «إن الذين يجعلون كدهم هذه الغاية هم الأفاضل من الناس دون شك»! وبالمثل نوه صدر الدين الشيرازي إلى غائية السعادة التي تعد لديه بمثابة «أم الحكمة وغاية الفلسفة برمتها»؛ ولذلك لا يصل إلى درجة الحكماء - بحسبه - من لم يقف على حقيقتها ويتذوق حلاوتها!! على أن النظر إلى السعادة - بوصفها غاية - أمر مشترك بين جميع الناس على السواء! ولم لا؟ والسعادة - في جوهرها - مطلب إنساني في الأساس إذ يطلبها كل طالب!! بل إنها غير مقصورة على طبقة دون أخرى أو مجال دون آخر؛ وإنما يهتم بها الرجل العادي في حياته، ويحلم بها الشاعر في مملكته، ويترنم بها الحكيم المتأله في صومعته، والسياسي الماكر في إمبراطوريته. ولأجل ذلك؛ وضع الفلاسفة جملة من التصورات الخاصة بهم عن «المدن الفاضلة»؛ انطلاقا من رغبتهم في الخروج من دائرة «المدن الفواسد»!! وواقع الأمر؛ أن المرء لا يلمس ارتياحا في حديثه عن شيء ما قدر ارتياحه أثناء حديثه عن مظاهر السعادة! إذ سرعان ما يقفز إلى خاطره حلمه الدائم بها وتطلعه المستمر إليها، وتخبطه في البحث عنها: تارة بحصرها في الملذات الحسية المباشرة، والأرصدة المالية المتراكمة، وتارة في إعمال العقل، وتارة أخرى في المواظبة على ضروب العبادة كافة، ومع ذلك يؤرقه التساؤل: إلى أين المصير؟ وهل ضللت الطريق؟ وعادة ما ينتهي به الأمر إلى أن يصبح: إما أحد المتشائمين، أو أحد المتفائلين!! فعلى مدار الفكر الإنساني وجد المتشائمون الذين يخيل إلى أحدنا وكأنهم يحملون هموم العالم أجمع فوق رؤوسهم!! ومع أن «الانعكاف المطلق على الألم خطيئة»، فيما يقرر ريكارد هوغ، فإنهم لا هم لهم إلا الحديث عن ضروب البؤس الإنساني، إذ تبدو الأرض أمامهم كما لو كانت مجرد مقبرة فسيحة الأرجاء، فليس ثمة إلا المحن والآلام! حتى حياة الأطفال الصغار لا تسلم - هي الأخرى - من عذابات اليتم والجوع والاستغلال!! لكن على الرغم مما ألم بأغلب فلاسفة الإسلام من اغتراب فكري وتجاهل اجتماعي هائل؛ فإنهم لم يكونوا متشائمين بحال من الأحوال، ولم يحل ذلك دون أن يتابعوا مشاريعهم الفلسفية حتى اخترمتهم المنية! على أن اللافت للنظر، فيما يتعلق بوجهة النظر المتشائمة أن أصحابها يرون في مجرد البحث عن السعادة ضربا من العبث الذي لا طائل من ورائه!! ثم يتساءلون من بعد ذلك: وهل ولد المرء لكي يتألم؟ كيما تتقاذفه النوائب والمصائب؟ ويقضي عليه اليأس الأليم والموت القادم؟! ومن هنا يمثل الحزن طابعا وجوديا لتلك الأرواح الهائمة المعذبة؛ فتألفه كما في قول عائشة التيمورية: إني ألفت الحزن حتى إنني، لو غاب عني ساءني التأخير!! ولا شك أن إحساسا كهذا لا يجلب سعادة ولا يقر بوجودها كذلك!! ومن المعلوم أن رسالات السماء قد نزلت لتخفف من شدة وطأة هذا الإحساس فدعت الإنسان إلى الإيمان بها في سبيل حصوله على السعادة الأخروية الخالدة. وهذا الأمر تحديدا سبق وأن أكد عليه صدر الدين الشيرازي حين أكد أن الوجود ليس مظلما كله، كما يعتقد البعض، وإنما بإمكان المرء أن يتحصل على قسط وافر من السعادة تبعا لسعيه وكده في هذه الحياة! وكذلك بإمكان المتوحد أن يبلغ غاياته التي يطلبها إذا ما تتبع الخطى التي رسمها له ابن باجة في كتابه: «تدبير المتوحد» وقام بواجباته! ومن هذا المنطلق أخذ كل منهما يبشر بالسعادة ويدعو إلى الأخذ بمناهج الحياة، ويحتم على الفلسفة أن تسعى جاهدة من أجل تحقيق الرخاء الإنساني.

ويبقى القول: إن تحديد ماهية السعادة أمر يتفاوت تقديره من شخص إلى آخر: فثمة من يرى السعادة في العمل الجدي، أو في البذل والعطاء، أو في تمسك المرء بمبادئ الفضيلة والبعد عن الرذائل. وبحسب هؤلاء؛ فإنه لا بد للسعيد من أن يتعهد الفضيلة في نفسه، وأن يداوم على تهذيب سلوكه ورفع أخلاقياته.

أيضا ثمة من يرى السعادة في راحة ضمائرنا من وساوس الشك ومهالك الحقد والريبة والغيبة والنميمة! وبحسب هؤلاء؛ فإن بإمكاننا دائما وأبدا أن ننال - بفضل استقامتنا وإنصافنا الآخرين - الخير الكثير في الدارين: ففي الدنيا ينعم المرء براحة البال وطمأنينة النفس، وهدوء الخاطر، وفي الآخرة يكافئه المولى سبحانه وتعالى على عدم انسياقه وراء رغباته وشهواته بتقريبه منه، وفيض نوره عليه، وإسكانه فسيح جناته.

وأخيرا - وليس آخرا - ثمة من يرى أن السعادة تكمن في إحساس كل منا بإنسانيته، واعتزازه بكرامته، فنقابل المعروف بمثله، ونتجاوز عن الإساءة، وهنالك ننعم بحب الناس لنا، وتقربهم منا كنتيجة طبيعية لكوننا في خدمتهم نقوم على مصالحهم، ونساهم بقسط وافر في سعادتهم، وهو ما عبر عنه محمد إقبال بالقول: لم ألق في هذا الوجود سعادة، كمودة الإنسان للإنسان!! وهكذا يمكننا أن نعدد - إلى ما لا نهاية - ماهيات كثيرة للسعادة، ومع ذلك فإن جوهر السعادة في نظرنا إنما يكمن في الحياة الطبيعية والبساطة المقبولة والسلوك الأخلاقي المتعالي عن منطق الحسابات ولغة الربح والخسارة؛ لأن التصنع والزيف والخداع إذا ما حققت لصاحبها سعادة مؤقتة فإن الأيام سرعان ما تعاقبه بالندم وخيبة الأمل لا محالة. فمن الملاحظ على السعادة كغاية؛ أنها حالة يتمنى السعيد دوامها من دون تغير!! لكن دوام الحال - قطعا - أمر محال، وإلا: كيف يتسني للسعادة أن تستمر على حالها، ومصير الكائن الحي ذاته إلى زوال؟! وكل موسيقى إلى انتهاء، فمن المحال إذن أن نتلمس الدوام لكل ما هو زائل!! أما فيما يتعلق بتوصيف غالبية فلاسفة الإسلام لماهية السعادة؛ فمن الملاحظ أن ترتيبا كهذا يخضع في الأساس إلى حال السعداء أنفسهم! وعلى ذلك فثمة سعادة للعوام، وأخرى للخواص، وأخيرة لخواص الخواص. أما الأولى؛ فتتمثل في «أخلاق الملوك» عند الكندي؛ نظرا لأنهم «لا يتلقون مقبلا ولا يشيعون طاعنا»!! وأما الثانية؛ فتكمن في تلك الحالة التي تصل إليها النفس الإنسانية، بعد تحقيقها لكل من: العلم والقدرة، والتي تجعل من المرء عالما مدركا لما يدور حوله من الأحداث، وقادرا في الوقت نفسه على إتيان الأفعال الموصلة للريادة والقيادة!! إنها حالة للنفس تتكشف الأشياء كلها لها، وقد فوض إليها الباري، سبحانه وتعالى، أشياء من سياسية هذا العالم تلتذ بفعلها والتدبير لها.

وبحسب ابن رشد؛ فإن سعادة الخواص تكمن في كمال جوهر الإنسان بما هو إنسان، حيث تعلو فضائل العلم والمعرفة، فتتغلب إنسانية المرء على حيوانيته! خاصة أن الناس يحسبون أن صلاح الحال (السعادة) يكون في كرم الحسب وكثرة الإخوان والأولاد وحسن العقل، والشيخوخة الصالحة، غير آخذين بعين الاعتبار حقيقة أن حسن العقل والشيخوخة لا يتحققان إلا إذا أيقنا بأن ثمة غاية عليا من وراء أفعالنا ننفرد بها دون الحيوانات، ألا وهي «أفعال النفس الناطقة بشقيها: النظرية والعملية».

ومن المعلوم أن حجة الإسلام أبو حامد الغزالي كان قد قرر من قبل أنه «لا سعادة لأحد إلا بالعلم والمعرفة». وتأسيسا على ذلك، انطلق ابن باجة يبشر بأن السعادة العظمى إنما تكمن في تحول الإنسان إلى «عقل كامل» حتى يتمكن من أن يعقل أموره بعيدا عن عالم الحس؛ ولا يتأتى ذلك إلا من خلال البحث الفلسفي الذي تصدر بموجبه الأفعال عن فكر وروية.. وتلك قضية أخرى!!

* كاتب مصري