البابوية الفاتيكانية في مواجهة الراديكالية العلمانية الأميركية

إميل أمين*

TT

هل بدأت مرحلة مختلفة في العلاقات بين المؤسسة الفاتيكانية والولايات المتحدة الأميركية؟ وهل هي علاقة مواجهة بعد أن شهد ربع القرن الماضي تحالفا استراتيجيا ربما كان الأول من نوعه من حيث قوته وتماسكه بعد تحالف الحلفاء في الحرب العالمية الثانية؟ الشاهد أن الحديث عن علاقة الكنيسة الرومانية الكاثوليكية والإمبراطورية الأميركية، حديث طويل وفي حاجة إلى مؤلفات بعينها، لا سيما أنه يتناول أكبر مؤسسة روحية غربية من جهة، وأشرس قوة سياسية ومالية وعسكرية عرفها التاريخ الإنساني من جهة ثانية.

ما الداعي إلى طرح هذه التساؤلات في هذا التوقيت على نحو خاص؟

حكما، إنها الزيارة التي قام بها مؤخرا بابا الفاتيكان بنديكتوس السادس عشر إلى كوبا - تلك الجزيرة الرمز، المقاومة للهيمنة والإمبريالية الأميركية العالمية، التي وإن احتفظت بالشيوعية كمذهب سياسي، فإن الكاثوليكية في حقيقة الأمر حاضرة هناك، وراسخة في فكر وعقل وقلب صاحب ثورتها وماركتها المسجلة فيدل كاسترو، تلميذ الرهبنة اليسوعية، الذراع الطولى فكريا ولاهوتيا للكنيسة الكاثوليكية حول العالم منذ قرون طويلة.

والحديث عن هذه المرحلة مزدوج، ذلك لأن شقه الأول يتصل بالمواجهة الفاتيكانية الرافضة للسياسات الأميركية، وهو رفض تمثّل مؤخرا في عدة مشاهد، كان لا بد من التوقف أمامها.

والشق الثاني عن الذي يجري في كوبا بوصفها أحد معقلين فقط حول العالم، لا تزال الشيوعية حاضرة فيهما، كوبا وكوريا الشمالية.

يعرف القاصي والداني أن واشنطن، ومنذ قرابة الخمسة عقود، تفرض حصارا اقتصاديا خانقا بل قاتلا على الجزيرة الكوبية، وعلى ساكنيها، هذا الحصار ولا شك قد أثر سلبا على حياة الكوبيين، ولم تفلح كل الدعوات العالمية الرافضة له في رفعه.

ولأن هناك مسؤولية روحية ما تجاه الكوبيين، فقد رأينا وللمرة الأولى في تاريخ العلاقات الفاتيكانية - الأميركية، حبرا رومانيا يوجه انتقادا قاسيا للسياسة الأميركية بسبب تلك العقوبات.

في كلمته الرئيسية غداة وصوله إلى سانتياغو، أدان البابا بنديكتوس الحصار الأميركي على كوبا، واعتبر أنه فعل غير إنساني لأنه يعوق النمو الاقتصادي لها ويؤثر على فرص الحياة هناك، وقد شن هجوما شرسا على الآليات السياسية الأميركية التي تتخذ القمع أداة لسلب حريات الآخرين، في إشارات لا تخطئها العين للسياسات الأميركية الأخيرة حول العالم، ومضيفا في ما يشبه الدعوة «إنه حان الوقت لتراجع الفكر القمعي الأميركي تجاه كوبا أولا وتجاه العالم ثانية».

والثابت أن كلمة بنديكتوس السادس عشر في سانتياغو إنما كانت إدانة فاتيكانية واضحة لواشنطن، أدان فيها المادية التي قتلت الروحانية، والعولمة التي توحشت وسحقت في طريقها الأخلاقيات، ولهذا رأيناه يصرح بالقول «يعيش عدد كبير من سكان العالم اليوم أياما عصيبة، خاصة على الصعيد الاقتصادي، ينسبها أشخاص عدة إلى أزمة روحية وأخلاقية جعلت الإنسان يتخلى عن قيمه، وبالتالي أمسى في خطر أمام طموح بعض القوى وأنانيتها، تلك التي لا تأخذ بعين الاعتبار الخير الحقيقي للأفراد والأسر..». هل كان هذا الانتقاد الموجه من البابا الروماني الكاثوليكي محطة جديدة في محطات الخلافات المتصاعدة أخيرا والتي بدأت تظهر للعلن مع واشنطن؟

لعل المتابع لشأن العلاقات الأميركية - الفاتيكانية، ومنذ يناير (كانون الثاني) الماضي يدرك أن هناك بالفعل أزمة حقيقية تلف علاقات البلدين وتتعلق بالدفاع عن الحياة في مواجهة الموت.

ففي التاسع عشر من يناير، استقبل البابا مجموعة من أساقفة الولايات المتحدة أثناء زيارتهم السنوية التقليدية للفاتيكان، وقد أعرب وقتها عن «التقدير الشديد لجهودهم في دعم الكاثوليك الملتزمين في العملية السياسية، لصالح الحياة والمساعدة التي قدموها لهم لإدراك مسؤوليتهم الشخصية التي يمكنهم من خلالها تقديم شهادة علنية لإيمانهم».

وفي اللقاء المشار إليه، بدا واضحا أن التوجه الفاتيكاني العام رافض وبقوة لما سماه البابا «علمانية راديكالية أميركية تلقى قبولا متزايدا في السياقين الثقافي والسياسي».

ما السبب الرئيس وراء تلك الأزمة؟

السبب هو القوانين الجديدة التي وضعتها وزارة الصحة والخدمات الإنسانية في الولايات المتحدة، وهي التي ترفضها الكنيسة الكاثوليكية، لا سيما أنها تتقاطع مع الحق الرئيسي في الحياة لكل إنسان، ولها كذلك جانب خفي آخر، إذ إن انتشار الأولى يدعم - ولا شك - حياة الانفلات الأخلاقي ويروج للإباحية، والتعقيم بدوره يحرم الإنسانية من الهدف الرئيس الذي من أجله خلق الله الإنسان، أي عمارة الأرض، ويعزز الأنانية الفردية التي تسعى إلى التمتع الذاتي المستقل، دون النظر الأبعد إلى عمارة الأرض، وخير البشرية.

ولا يتوقف المشهد عند وسائل منع الحمل والتعقيم، بل يصل كذلك إلى الإجهاض، وتدعم قوانين وزارة الصحة الأميركية الجديدة تعميم هذا الثلاثي البغيض، حتى في المستشفيات الأميركية الكاثوليكية الرافضة لمنحى محاربة الحياة.

ولعل الإشكالية الأكبر التي أزعجت الفاتيكان وتعبر عن تكبر وتجبر التيار الراديكالي العلماني داخل الولايات المتحدة ولحساب هيئات وجهات بعينها لا تخطئها العين وسيأتي الحديث بالتفصيل عنها لاحقا، هي أن تلك القوانين باتت لا تحترم حرية الرأي أو العقيدة التي تتشدق بها واشنطن دائما وأبدا.

هذا المشهد دعا المطران ويليام لوري، رئيس مؤتمر الولايات المتحدة للمطارنة الكاثوليكي، لأن يمثل أمام لجنة الرقابة والإصلاح الحكومي في الكونغرس الأميركي، بتاريخ 16 فبراير (شباط) الماضي، وفي شهادته شبّه المطران لوري فرض تغطية التأمين في المؤسسات الكاثوليكية لوسائل منع الحمل والتعقيم بإجبار محلات الطعام اليهودية على بيع لحم الخنزير، وأضاف: «من غير المعقول أن يقصد شخص محل بيع طعام يهودي ويطلب شطيرة لحم الخنزير»، كما أنه «من غير الواقعي بصراحة تطبيق هذا التدبير القسري، في حين يمكن للزبون أن يحصل على الشطيرة نفسها بسعر زهيد أو مجانا على بعد بضعة أمتار فقط».

يتساءل المرء: ما الذي تريده إدارة أوباما من هذا القانون؟ ولمصلحة من تعميق تحلل المجتمع الأميركي من الروحانيات والأخلاق والمبادئ الإنسانية التي تدافع وتنافح عنها المؤسسة الكاثوليكية الأميركية؟

علامة استفهام تستدعي ولا شك كل مخزون الحديث عن فكرة المؤامرات العلمانية الراديكالية التي تسعى لتسطيح الحياة الأميركية وفصلها عن جذورها الدينية والعودة بها إلى قرون الثورات الأوروبية، لا سيما الفرنسية منها التي عملت فيها الأيادي الماسونية والصهيونية والرافضة للدين عموما، وللكاثوليكية خصوصا، على سحق الكنيسة هناك، ويبدو أنها لم تفلح في ذلك، والدليل الحي على ذلك تلك المظاهرات التي خرجت منذ بضعة أسابيع في قلب باريس رفضا لمسرحية تزدري المسيحية وتحقر من السيد المسيح وقد رفعت فيها لافتات تقول «نعم الجمهورية علمانية. لكن فرنسا كاثوليكية»..

هذا هو واقع حال واشنطن اليوم، ازدواج أخلاقي وروحي قاتل في الداخل، وجلبة وصخب وإثارة تجاه العالم الخارجي، وهو ازدواج دعا البابا بنديكتوس في التاسع من مارس (آذار) الماضي للتعبير عن القلق إزاء التهديدات الموجهة إلى حرية الدين والضمير والعبادة في الولايات المتحدة الأميركية، التي يجب التصدي لها على وجه السرعة، ومشيرا إلى «ضرورة التحرك بسرعة حتى يتسنى لجميع المؤمنين رجالا ونساء والمؤسسات التي تلهمهم التصرف وفقا لقناعاتهم الأخلاقية العميقة»، على حد تعبيره.

يستدعي هذا الخلاف تساؤلا أبعد: ماذا عن المؤسسات الكاثوليكية الأميركية في الحياة العامة وفي مجال السياسة، وتحديدا تأثير تجاذباتها وتعاطيها مع ما يجري على صعيد انتخابات الرئاسة الأميركية؟

حكما، هذا محدد ومعيار مهم ومثير جدا، ولا بد من التطرق إليه في قراءات قادمة خلال الأسابيع المقبلة، لا سيما أن الانتخابات الرئاسية الأميركية بدأت بالفعل تأخذ منحى دينيا واضحا للغاية، كما بدأ غالبية المرشحين اللعب على أوتار النزعات الدينية.

لكن في جواب قصير من دون خلل، يمكن الإشارة إلى أن أساقفة الولايات المتحدة الكاثوليك اليوم يأخذون زمام المبادرة في عمق الحياة السياسية، وعلى نحو التحديد في زمن الأزمة المالية القاتلة الناجمة عن جشع الرأسمالية، وتوحش العولمة، وخير دليل على ذلك تلك الرسالة التي بعثوا بها مؤخرا لكافة رجالات الكونغرس لكي يأخذوها بعين الاعتبار عند مناقشة ميزانية العالم الجديد، وأشاروا فيها إلى أن الكنيسة الكاثوليكية «تضيف المبادئ الأخلاقية والتجربة اليومية إلى هذه المناقشة»، وقدموا ثلاثة معايير أخلاقية للمساعدة على الهداية إلى قرارات ميزانية صعبة:

1- ينبغي لكل قرار متعلق بالميزانية أن يقيم من ناحية حمايته أو تهديده لحياة وكرامة البشر.

2- أن المعيار الأخلاقي المركزي لأي اقتراح متعلق بالميزانية وكيفية تأثيره على هؤلاء الصغار «أي الفقراء» لا بد من إعطاء الأولوية لاحتياجات الجياع والمشردين والعاطلين عن العمل والفقراء.

3- تترتب على الحكومة والمؤسسات الأخرى مسؤولية مشتركة لتعزيز مصلحة الجميع العامة، بخاصة العمال العاديين والعائلات الذين يكافحون للعيش بكرامة في فترات اقتصادية عسيرة..

هل ترضي هذه التوجهات أساطين المؤسسات المالية والدوائية الأميركية، التي لا يهمها معيار الفضيلة في مواجهة انتشار الرذيلة، وحتى لو شكّل ذلك انهيارا للمنظومة الأخلاقية في البلاد؟

بالقطع، إن ما يهمها حتى الساعة هو المكاسب المالية الهائلة التي تضمن دوران عجلة مصانعها ولو أجبر ذلك الآخرين على مخالفة ضمائرهم ومجابهة عقائدهم.. هذه هي أميركا المرائية... ما الذي يتبقى في هذا السياق؟

الإشارة - ولا شك - إلى أن الكاثوليكية لا تزال تعتبر الشيوعية عدوا لكل القيم الدينية في كل الأديان.

على متن الطائرة المتوجهة من روما إلى المكسيك، في الزيارة السابقة مباشرة لكوبا، كان البابا بنديكتوس يؤكد أن «الآيديولوجية الماركسية كما عرفت لم تعد تتماشى مع الواقع لبناء مجتمع جديد». على أنه وفي ذات الرحلة وفي تصريح لاحق كان البابا يشير إلى الأزمة الأخرى، التي هي في حقيقة الحال سبب من أسباب المواجهة مع الإمبراطورية الأميركية المنفلتة، أزمة العلمنة الكلية المفرطة والمغرقة في كل ما هو مادي.

في زيارة البابا بنديكتوس لكوبا كان هناك تأكيد على ضرورة تبني كوبا مجتمعا أكثر انفتاحا وأقل خضوعا للقيود، مع دور أكبر للكنيسة الكاثوليكية كحائط صد للوقاية من الصدمة أو الاضطراب الاجتماعي، لكنه في ذات الوقت كان يؤكد أن الحق في الحرية الدينية في بعديه الفردي والجماعي يعكس «وحدة» الشخص البشري الذي هو في الوقت نفسه مواطن ومؤمن، والدفاع عن هذا الحق يعزز التعايش السلمي، ويغذي الرجاء في مستقبل أفضل.

في زيارة البابا لكوبا كذلك ضرب من ضروب الذكاء الاجتماعي للكوبيين أنفسهم، ولقاء كاسترو مع البابا، إشارة إلى أن شيئا ما جذري يتغير هناك، فالكوبيون قد اكتسبوا كثيرا من عرض قضيتهم الرئيسية «الحصار» على العالم من خلال إدانة بابا روما للأميركيين حكومة وشعبا، وأصحاب الإيمان والأديان في كوبا ربحوا من دعوات البابا لتجذير حرية المعتقد والمذهب، وهذا أمر يدعونا لإعادة التفكير في كثير من قضايانا العربية التي تفقدها مهارة العرض عالميا عبر محامين لهم سمات وملامح النجوم العالميين، ولا تعد قضية فلسطين آخرها.. ويبقى القول إن «الذين يقرؤون حقا لا ينهزمون».

* كاتب مصري