بين الجد واللعب

موئل يوسف عز الدين

TT

طلبت مني صغيرتي ذات السنين الأربع أن اشتري لها لعبة لقطة اسمها «كتي» وكانت سعادتي غامرة وأنا أرى طفلتي تكلم لعبتها بشغف عجيب.. حينها قررت أن أتعرف على تلك اللعبة.. ولم أدرك أن القطة هي من مشاهير العالم حتى بدأت اقرأ عنها فوجدت أنها في الأصل يابانية وأن لها عالما خاصا بها وأنها قد غزت كل الأسواق العالمية بوردتها الحمراء المعقودة على رأسها ووجها الدائري الذي يشبه وجوه الأطفال.. ووجدت أيضا أنها تدر على شركتها أكثر من مليار دولار سنويا!. وهذه القطة وملايين الألعاب من أمثالها تعكس بعدا كبيرا لحضارة عالمنا اليوم. إنها حضارة ألعاب يحتل اللهو فيها جانبا أكبر من جانب الجد. وما أكثر ما يختلط فيها الجد مع اللعب فلا تستطيع فصل أحدهما عن الثاني كما حصل بالفار المسكين ميكي ماوس حين أثيرت حوله ضجة منذ وقت قريب قيل إنها أدت إلى أن يهدر بعض المسلمين دمه بحجة نجاسته! وكل ما في الأمر هنا أن الجد قد خلط ووضع في موضع اللعب عندما اجتهد البعض في إصدار إحكام فقهية على لعبة كانت في أصلها مجرد قصة تروى للأطفال لتسليتهم ثم حولها التجار إلى أمر ملموس وسلعة تباع وتشترى وتدر الملايين فوصفت أدق دقائقها وحولها الخيال إلى قصص متعددة والعاب تقتنص الربح من معجبي ميكي ماوس ونواديه وألعابه وأفلامه وملابسه وأطعمته. وكان أولى بالحكم الفقهي هنا أن يبحث في أثر عموم الألعاب الحديثة على الصغار وعلى هويتهم وانتمائهم. وهذا الأمر يطرح سؤالا آخر وهو من الذي له أن يحرم أو يحلل في مجتمعنا الإسلامي العالمي الذي لم تعد تحده حدود ولا يحكمه سوى ضمائر الناس التي لا بد أن تثقف نفسها فتعرف الحلال لتأخذ به وتفهم الحرام فتجتنبه. وهنا يأتي دور الأسرة في رعاية العيون الصغيرة لحلال وصيانتها عن حرام.. وأنا لا يهمني في لعب الأطفال أن تكون في كتي أو في ميكي ماوس بقدر ما يهمني مراقبة الوالدين لصغارهما لما قد ينتجه عبث ولهو غير موجهين على عقولهم الصغيرة. وأخطر شيء عندي هو غبش الهدف وهو أمر تتميز به حضارة غرب الأرض.. فالكثير من أهدافها هي أهداف لا تتجاوز ساحات اللعب لأنها حضارة ألعاب وفرضيات تقوم على جزء من الحقيقة تنسج حوله أوهاما وفرضيات تحوله إلى شبه حقيقة يصدقها الناس ويتفاعلون معها حتى وإن كانت من دون غاية أو معنى.

وصناعة السينما هي مصداق لما أزعمه فما أكثر ما تقذفه على الإنسان من أساطير وشخصيات تتحول إلى أمور يسلم بها الناس ويؤمنون بها أكثر من أي حقيقة أخرى كما هو الحال في قصة هاري بوتر الذي دخل عقل وقلب كل أطفال العالم حاملا لعصا سحرية وجبهة فيها ندبة جرح. وأمثال هذه ألأفلام لا شك تقدم متعة لمتفرجيها وخاصة الأطفال. وأحسب أن المسلمين اليوم بحاجة إلى تقييم وفهم لكثير من هذه الأفلام للموازنة بين متعتها وأحيائها لخيال الطفل وربما إبداعه وبين تأثيرها السلبي على تصوره المستقبلي خاصة حين تؤدي به إلى أن يعيش معها في وهم يعتاده وسرعان ما يصدقه فيصبح حاله كحال من قال فيه المتنبي:

إذا ساءَ فِعْلُ المرْءِ ساءَتْ ظُنُونُهُ وَصَدَقَ مَا يَعتَادُهُ من تَوَهُّمِ وبعد أن قلت ما قلت فلا بد من أن أنصف فأقول إن حضارة الفرضيات والوهم هذه لها وجه آخر يجب أن لا ننكره بل لا بد من أن ندرسه ونستفيد منه.. إنها حضارة إنجازات لأنها قدمت للإنسان ما لم يقدمه له سواها رغم أنها سلبت منه الكثير.. إنها أكدت دور الإنسان واستقلال فكره ونظمت حياته من خلال مؤسساتها وحضته على الخير وهذا أمر لا يستهان به وقد دعا إليه الإسلام إلا أن مؤسسات المسلمين المعاصرة قد فشلت فيه فشلا ذريعا حين قمعت الإنسان وحجمت دوره فردا كان أو جماعة.

ويقودني الحديث في أمر ألعاب الصغار إلى ضرورة دراسة علماء المسلمين الكرام لحضارة العصر الحديث ومعرفتها معرفة حقيقية قبل التصدي للإفتاء فيها كي لا تفشل الفتوى وتتحول إلى نكتة يضحك بها الناس علينا. إن المسلمين بحاجة ماسة اليوم إلى فهم ودراسة حضارة غرب الأرض تماما كما درس المستشرقون حضارة الإسلام وفهموها وحللوا أسبابها ونتائجها فاستفاد منها من أراد استشفاف حقيقة المسلمين من الساسة والاقتصاديين وغيرهم. ولا يكفي للعالم المسلم كي يفتي في شؤون العالَم أن يعرف الكتاب والسنة وفقه أرضه وأصولها وحسب بل يجب أن يدرس حضارة البلاد التي يفتي لها ويتعلم لغتها وأسرارها قبل ذلك. وهو أمر يجب أن ينتبه إليه صناع القرار وأساتذة الإسلام وعلومه.

المسلمون قد سبقوا أوروبا في دراسة الأجناس البشرية ومعرفة مواطن قوتها وضعفها والاستفادة منها كما فعل ابن بطوطة في رحلته وما فعله البيروني في كتابه الموسوعي عن الهند. ويعد كتاب أبي الريحان محمد بن أحمد البيروني (362 - 440 هجرية) الموسوم «تحقيق ما للهند....» معلما مهما في فهم الهند لا للمسلمين وحسب بل قد استفاد منه حتى البريطانيون في استعمارهم لها. وإليكم اقتباسا مما قاله في مقدمة كتابه عن لغة الهند. وما أشبه ما يقوله بحالنا في فهم لغات أوروبا:

«... لغتهم.. في ذاتها طويلة عريضة تشابه العربية يتسمى الواحد منها بعدة أسامٍ مقتضبة ومشتقة. وبوقوع الاسم الواحد إلى عدة مسميات محوجة في المقاصد إلى زيادة صفات.. إذ لا يفرق بينها إلا ذو فطنة لموضع الكلام وقياس المعنى إلى الوراء والأمام.. ثم هي منقسمة إلى مبتذل لا ينتفع به إلا السوقة وإلى مصون يتعلق بالتصاريف والاشتقاق ودقائق النحو والبلاغة ولا يرجع إليه غير الفضلاء المهرة.. ثم هي مركبة من حروف لا يطابق بعضها حروف العربية والفارسية ولا يشابهها بل تكاد ألسنتنا ولهواتنا تنقاد لإخراجها على حقيقة مخارجها ولا آذاننا تسمع بتمييزها من نظائرها وأشباهها».

ويستطرد البيروني بعمق وبيان وتحليل نقدي لكل ما يمكن أن يخطر على البال في وصف تلك الأمة التي تتشعب أعراقها وعاداتها وشعوبها كتشعب السنديان. وتنعكس شخصيته بوضوح في هذا الكتاب وهو العالم الكبير الذي جمع ما بين العلوم البحتة كالرياضيات والفلك، وعلوم اللغة والفلسفة والدين. ولعل أهم سبب أعطى كتابه بعدا إنسانيا فعالا هو أنه لم يكتب من فرضيات فقط ولا من فراغ بل عاش في الهند وكتب عما شاهده وعاصره بصدق وتجرد فكان كتابه موسوعة زاخرة بالعلم والمعرفة والأحكام الصحيحة التي ربما ساعدت على بقاء الإسلام في الهند حتى يومنا هذا كجزء من النسيج الاجتماعي لتلك الأرض العظيمة. والتاريخ يخبرنا أن كل الحضارات التي دخلت الهند بما فيها بريطانيا قد دخلتها من الباب وطردت من الشباك إلا الإسلام فقد استقرت جذوره فيها وتفاعل مع أرضها وطرح حضارات أخرى بعضها موغل في الإسلام كالإسلام الهندي وبعضها يخالفه وإن كان يحمل ملامح منه كديانة السيخ. ولا بد هنا من سؤال.. متى يبدأ المسلمون رحلة بحثهم عن أنفسهم من خلال فهم الآخرين ومتى تصل رسائلهم الجادة إلى كل مكان في العالم.؟