كيف تنشأ الفِرق الدينية؟

رضوان السيد

TT

تحكم المؤلفين المسلمين القدامى في تعليل ظهور الفرق الدينية في الإسلام إحدى مقاربتين: المقاربة التي تنسب بدايات الانقسام إلى انحراف السلطة السياسية عن الدين، والمقاربة التي تنسب بدايات الانقسامات إلى أهواء ومطامح سلطوية وتأويلية من جانب أصحاب الأهواء، أو المدسوسين من أهل الديانات والثقافات الأخرى. أما المقاربة الأولى فتظهر في رسائل الإباضية والزيدية، بل وفي رسائل كتاب الديوان بالدولة الأموية. فبعد مقدمة في نهج الهداية الذي أرسل به النبي - صلى الله عليه وسلم - واجتمعت عليه الأمة، وساد فيه على النهج ذاته الشيخان أبو بكر وعمر، بدأت الأهواء تتسلل إلى النهج الراشد من خلال الأخطاء التي ارتكبها الخليفة الثالث في الإدارة بتقريب أقاربه، وعدم الإصغاء لتظلمات أهل الأمصار. أما كتاب الديوان الأموي فينسبون الانحراف إلى عهد علي، والإشاطة بدم عثمان. ثم تجمع أطراف المعارضة السياسية كلها على الشكوى من بني أمية وجبروتهم وتوريثهم للسلطة. إنما المحصلة من هذه المقاربة أن الأمويين هم الذين غيروا وبدلوا في السياسة كما في الدين. لكن المقاربة الثانية التي تحاول استكشاف أسباب ظهور الفرق الدينية، هي الأكثر تركيبا وربما كانت الأجدر بالاعتبار. فالمحكّمة (الذين صرخوا في وجه علي: لا حكم إلا لله)، والشيعة (شيعة علي)، وقد عارض كلاهما الأمويين، كانوا مختلفين معهم بشأن السيطرة على الدولة وإدارة الشأن العام. وهم يذكرون عن الأمويين التجبر وسوء قسمة الفيء وتوريث السلطة.. إلخ. وهذه جميعا مظالم سياسية واقتصادية، لكنها لا تعلل ظهور آراء دينية خاصة لدى كل من الذين سموا خوارج أو شيعة أو مرجئة أو معتزلة أو جهمية.. إلخ. ولدى هؤلاء الأواخر لا تظهر اهتمامات سياسية بارزة، بل هم معنيون بمواضيع كلامية ولاهوتية، وبالعلاقة بين الله والإنسان، وبحكم مرتكب الكبيرة، وبعلائق العمل بالإيمان. وبعد منتصف القرن الثاني الهجري تضاءلت المسائل السياسية لدى الخوارج والشيعة أيضا، وبدأ يظهر بينهم لاهوت أو علم كلام يشبه من حيث الموضوع ما ظهر لدى المرجئة والمعتزلة والجهمية.. إلخ.

إنما في كل الأحوال، إذا كان هؤلاء شيعا أو فرقا، أو انشقاقات، فهل هم انشقاقات عن جسم أكبر هو الأرثوذكسية؟ وأين وماذا تعني الأرثوذكسية في هذه الحالة أو الحالات؟ في القرنين الثالث والرابع انشغل المؤلفون ببغداد بتعداد الفرق الشيعية التي بدا كأنما تنقسم على نفسها إلى ما لا نهاية. ولدى المبرد (في «الكامل في اللغة والأدب»)، والطبري (في «التاريخ»)، خطاطة في تصنيف فرق الخوارج أيضا. ومنذ ذلك الحين (مطالع القرن الرابع الهجري) كان واضحا أن نضاليي الخوارج إلى انقضاء، وأنه لم ولن يبقى غير الإباضية، لأنهم كتبوا لاهوتا وفقها، وأقاموا دولا بين المغرب وعمان. لكن نعود إلى السؤال: هل كانت هذه الفرق انشقاقات؟ وإذا كانت انشقاقات فعن ماذا؟ وعمن؟ إذا تأملنا العناوين التي تدرس هذه المسألة في القرن الثالث الهجري (مثل «مسائل في الإمامة» لجعفر بن حرب)، نجد أن رأي هؤلاء أن الخلاف كان سياسيا ثم تطور إلى خلاف ديني عندما انتقل الأمر إلى العباسيين، بمعنى أن المعارضين يئسوا من الانتصار السياسي (والديني) فانصرفوا إلى تأسيس جماعات دينية منفصلة، وليس جماعات سياسية فقط. لكن الإمام الأشعري (في «مقالات الإسلاميين») الذي كتب في مطالع القرن الرابع (ثم تبعه في ذلك كل الآخرين)، يرد الاختلافات الدينية كلها إلى القرن الثاني، وهو يعزلها عن الخلافات السياسية، ويعتبرها آراء فردية تحولت إلى «آراء فرقة»، ويمضي قدما في البناء والتفريع، ذاهبا إلى أن هؤلاء المختلفين مهما افترقوا فإن الإسلام يجمعهم. أما الذين مشوا في منهجه من بعد فهم الذين ظهرت لديهم تعليلات لمسألة الانحراف أو الانشقاق الديني عن الأكثرية الأرثوذكسية (مثل البغدادي والإسفراييني والشهرستاني). فهناك جماعة كبيرة أو شاملة أو الأمة، وهي على الصراط المستقيم. ثم يجري تعداد انحرافات الأفراد والجماعات عن الدين، بقدر افتراقهم عن «أهل السنة والجماعة». وقد سادت هذه المقاربة تماما بعد القرن الخامس الهجري، في حين ظلت الفرق الباقية تروي سبب «خروجها» الأول على السلطات (الدينية)، دون أن تلتفت إلى اختفاء الأمويين والعباسيين وأهل الآراء الدينية الأخرى! وعندما بدأ الأوروبيون (المستشرقون) الاهتمام بالتاريخ الديني للإسلام، واجهتهم هذه المشكلة، وبخاصة أنهم عرفوا المعتزلة أولا من طريق اللاهوت اليهودي، الذي أفاد منه متكلمو اليهود في العصور الوسطى كثيرا. ومن مؤلفات المعتزلة عرفوا ردودهم على الأشاعرة من أهل السنة - فبدا المشهد شبيها بما بين الكاثوليك، والمنشقين عنهم من البروتستانت في القرن السادس عشر. وهكذا صارت «الأرثوذكسية» السنية هي الجماعة الكبيرة، والتي انشقت عنها الفرق والشيع الأخرى وبخاصة المعتزلة والشيعة. وقد تدعم هذا الانطباع (ليبراليون انشقوا عن رجعيين ومحافظين) من خلال ترجمة كورتن لـ«الملل والنحل» للشهرستاني. وفي الكتاب عروض مطولة لآراء المعتزلة، وهي مزودة بردود تمثل آراء الأشاعرة والتي بدت محافظة بالمقارنة بها، في أجواء الصراع الديني الذي كانت ذكرياته لا تزال طازجة بأوروبا. وقد عرف الأوروبيون أن العثمانيين الحاكمين ينسبون أنفسهم إلى أهل السنة والجماعة، وقد صبغوا صراعهم مع الصفويين الشيعة بهذه الصبغة. وفي ثمانينات القرن التاسع عشر، ألف ألفرد فون كريمر كتابه «الأفكار السائدة في الإسلام»، وفيه يظهر المعتزلة باعتبارهم حملة أفكار التحرر والحرية، ويبدو الأمويون والعباسيون بوصفهم سنة لأنهم حاكمون وقائلون بتلك الأفكار المحافظة في القضاء والقدر وأفعال العباد.

وفي هذا الوقت بالذات تمايز يوليوس فلهاوزن بكتابه «أحزاب المعارضة السياسية - الدينية في الإسلام.. الخوارج والشيعة». وفلهاوزن بروتستانتي من أتباع لاهوت التحرر، ولذلك فقد انصب إعجابه على الخوارج الذين خرجوا على كل أشكال الاستبداد السياسي باسم الدين، أو باسم تأويل معين للدين. وبهذا المعنى للبيوريتانية (الطهورية) فقد اعتبر فلهاوزن آراء الخوارج ونضالهم، مواجهة منهم لآراء الشيعة (قدسية أهل البيت)، كما هي مواجهة مع الأمويين المستبدين دونما اعتبار لتوجهاتهم الدينية. فالخوارج عند فلهاوزن هم بروتستانت الإسلام، وقد أثبتوا ذلك ليس في ثوراتهم فقط، بل في الدول التي أنشأوها بعمان والمغرب. وفي حين كان من المنتظر أن يتطور التشيع من معارضة سياسية إلى «لاهوت»؛ فإن التطور اللاهوتي الذي شهدته الإباضية (إحدى فرق المحكمة) إنما حصل بسبب هزيمة الفكر الجمهوري لديهم، لصالح مؤسسة الخلافة وإمبراطوريتها الضخمة. وهكذا فقد كان فلهاوزن واعيا بفروق التاريخ، وأن تطورات الكثرة والقلة إنما حصلت فيما بعد. ومسألة الأرثوذكسية إن صحت في التاريخ المسيحي، أو المسيحي واليهودي، فإنها لا تصح في تاريخ الإسلام، أو فليقل لنا المؤرخون ما هي «الأرثوذكسية» أو التوجه الديني العام في عصر الراشدين والأمويين، لكي نعتبر هذا الفريق أو ذاك انشقاقا عنه، بيد أنه كان هناك من قال إن القرن الهجري الأول شهد تطورين وليس تطورا واحدا: الأحزاب السياسية - الدينية مثل الخوارج والشيعة. والفرق الدينية أو اللاهوتية البحتة مثل المرجئة والجهمية والمعتزلة.. وأهل السنة.

وقد كان سوسيولوجي الديانات المشهور ماكس فيبر (1864-1920) واعيا إلى حد ما بهذه الفروق والافتراقات، عندما أقبل على كتابة تاريخ آيديولوجي وسوسيولوجي للديانات الكبرى في العالم. فقد كتب في اليهودية والمسيحية والبوذية والهندوسية، ودائما على نمطين: نمط الأرثوذكسية والافتراقات عنها، ونمط التشظي المتوازي بعد غياب النبي أو الداعية. وفي النمط الأول تظهر الفرق للتحرر من الأرثوذكسية المحافظة، بينما في الثاني يحصل التشظي بسبب عدم ظهور مؤسسة دينية قوية في زمن مبكر. وما كتب الرجل في الإسلام غير خواطر عابرة، لكنه بدا متأثرا بما استقر عليه الأمر في الأزمنة المتأخرة، أي سواد أهل السنة والجماعة. ولذا فقد كانت وجهة نظره أن أهل السنة إنما تحولوا إلى أكثرية أرثوذكسية، لأن السلطات في زمن الخلافة وبعدها تبنت توجههم لدعم سيطرتها. وقد احتاج الأمر إلى قرابة المائة عام، ليلاحظ إرنست غلنر التلميذ الفكري لماكس فيبر، أن الفرق الإسلامية خارج أهل السنة ليست أكثر ليبرالية بل هي أكثر تشددا منهم في العقائد والشعائر والممارسات. فأهل السنة أقل شعائرية، وأكثر انفتاحا بغض النظر عن حقبتهم الأولى. إذ بدوا بعد الحقبة الأولى استيعابيين، وبعيدين عن تكفير الآخرين أو عزلهم. وهذا وإن ظهرت في قلبهم اتجاهات أو جماعات صغيرة متشددة. ووجهة نظر غلنر أن التشدد السني يحصل في أزمنة الأزمات الداخلية الطويلة، وأزمنة الغزوات الخارجية. إنما يكون علينا أن نلاحظ التوجه الاستيعابي الكبير لأهل السنة، من خلال تبنيهم للتصوف والطرق الصوفية بعد القرن السادس الهجري - الثالث عشر الميلادي. وهو يرى أيضا أن ملاحظة هذا التطور التاريخي الشاسع الآفاق يجعل من مسألة علائق أهل السنة بالحاكمين مسألة طردية وعكسية. بمعنى أن قوة أهل السنة الاجتماعية هي التي دفعت الحاكمين من السلاجقة والترك إلى تبني توجهاتهم، وربما تكون قد دفعت أهل السنة من جهة أخرى، أو دفعت بعضهم مثل المالكية والشافعية، إلى السير باتجاه الحاكمين. فالأحناف على سبيل المثال انضموا إلى أهل السنة، كما أن المماليك الأحناف في الأصل، صاروا أكثر سنية بالاعتراف بالمذاهب الأربعة في سائر أنحاء مملكتهم! ماذا يعني هذا كله؟ هناك عدة أمور لا بد من تقريرها، وهي بإيجاز: أن التطور الديني في الإسلام، مختلف عن التطورات الدينية في اليهودية والمسيحية، من حيث إن «الأرثوذكسية» متأخرة الظهور. والملاحظة الأخرى أن ظهور الأرثوذكسية وقدرتها الاستيعابية منذ القرن الخامس الهجري، أخرجت فرقا كثيرة من السباق والانفراز. والملاحظة الثالثة أنه من غير المفيد التصنيف إلى أرثوذكس وغير أرثوذكس في التاريخ الديني الإسلامي، بل الأحرى التفرقة بين لاهوتين: لاهوت العناية والرحمة والفضل (أهل السنة)، ولاهوت التنزيه والعدل (المعتزلة والزيدية والمحكمة). والملاحظة الرابعة أن النصف الثاني من القرن العشرين أبرز لدى كل الديانات تطورات جديدة تجعل من القسمة التقليدية لدى أهل كل الديانات أمرا عسيرا وعسيرا جدا. فينبغي عند الحديث في التاريخ الديني للإسلام (وربما للمسيحية واليهودية) التفريق بين التاريخ الديني الوسيط والحديث من جهة، والأوضاع الحاضرة من جهة أخرى.