جدلية السعادة والمعرفة في الفكر الإسلامي

محمد حلمي عبد الوهاب

TT

في جميع المراحل التاريخية التي مر بها الفكر الإنساني، الإسلامي منه بصفة خاصة، يمكننا ملاحظة ارتباط مسألة السعادة بالنظرية المعرفية ارتباطا وثيقا بشكل أو بآخر. ومن هنا، يصح القول إن نوع السعادة التي قصدها فلاسفة ومتصوفة الإسلام تعد وثيقة الصلة بموضوع «المعرفة» ومرهونة به كذلك! ولا أدل على ذلك من أن فلسفة ابن باجة الأندلسي - على سبيل المثال - لا تخرج بحال من الأحوال عن حدود «السعادة العقلية» التي تمثل بحق جوهر مشروعه الفلسفي، وغاية له في آن معا هروبا من مأزق زمانه الفاسد!! ومن ثم؛ فإن السعادة في جوهرها تمثل ضربا من «التكامل العقلي» الذي يتم عن طريق تفهم وتحصيل علم «الصور الروحانية»، ذلك الذي عجز المتصوفة - بحسب ابن باجة - عن بلوغه وتفهمه!! وتبعا لذلك؛ فإن ثمة سبيلا واضحا لبلوغ المرء الكمال من ناحية الفطرة، حيث يُعرّف فيلسوفنا الإنسان الكامل بأنه «هو الذي فُطِر على أن يكون لنفسهِ معلما، فبَيّنٌ أن الفطرة الفائقة هي الفطرة التي يُنَالُ بها العلم النظري»!! في المقابل من ذلك؛ يؤكد العرفاء من المتصوفة أن معرفة «واجب الوجود»، سبحانه وتعالى، تأتي على رأس المعارف التي يتحصلها السعيد في ذاته، وأن ذلك يتم بالبحث النظري أيضا ولكن عن طريق الممازجة بين «طريق المتألهين من الحكماء» من جهة، وطريق «المِلّيينَ من العرفاء» من جهة أخرى. وبحسب الشيرازي؛ فإن من يتم له ذلك يتحصل فورا على «الفضيلة الفلسفية»! على أن نقطة الانطلاق المثلى لربط مسألة السعادة بالمعرفة إنما تتمثل في تقسيم وتحديد طبيعة وغائية الأفعال الإنسانية. وفي هذا الإطار قام ابن باجة بتقسيم «أفعال الإنسان» إلى ثلاثة أصناف رئيسية: أولها الأفعال البهيمية، وهي التي تصدر عن «الغريزة»، وثانيها: الأفعال الإنسانية، وهي التي يظهر فيها عمل «العقل الإنساني» الصادر عن الفكر والروية، وآخرها: الأفعال الإلهية، وهي التي يغلبُ عليها «الجانبُ العقلي الروحاني»، حيث النور الإلهي والسعادة الأزلية.

وفي السياق ذاته، اهتم كلا الفريقين (الفلاسفة والمتصوفة) بدراسة ضرب من السعادة يختص بها من يطلقون عليهم «خواص الخواص»؛ نظرا لكونها تعبر عن أقصى درجات السعادة. ومن هنا يتأتى وصف الكندي الإنسان السعيد بأنه هو ذلك «القريب الشبه إلى الباري سبحانه»! أما الفارابي؛ فيصف هذه المرحلة بالقول «أنْ تفيدَ نفس الإنسان من الكمَال في الوجود إلى حيث لا تحتاج في قوامها إلى مادة؛ وذلك أنْ تصير في جملة الأشياء البريئة من كل سيطرة للحس ومتطلباته، وتبقى على هذا الحال دائما أبدا»!! ومثلا بمثل يصفها ابن سينا بأنها عبارة عن «البقاء السرمدي في الغبطة الخالدة في جوار من له الخلق دائما أبدا»، على حين أكد صدر الدين الشيرازي حصولها ووقوعها عن طريق «الذوق والمشاهدة»؛ حيث يصبح بمقدور السالك أنْ يَلْقَى في العالم الإلهي من اللذةِ ما لوْ علِمَهُ ملوكُ الأرض لنازعوهُ عليه بالسلاح!! وهنالك يطغى على النفس حال من الكمال تتحرر فيه من أسر المادة وذلتها، فترقى بذلك إلى مرتبة عظمى حيث مشاهدة جمال الباري ومعاينة جلاله سبحانه وتعالى!! الآن بعد أن حاولنا وضع المشكل الخاص بماهية السعادة في سياقه الفلسفي والتاريخي، سنعمل على تحديد إشكالية السعادة بالمعنى الفلسفي، تمهيدا لبحث علائقها المختلفة مع سائر أنواع المعرفة الإنسانية. ولعل أول رد فعل يحدث في النفس إزاء سماعها لكلمة «مشكلة السعادة» أن تبادر بالتساؤل: وهل ثمة مشكلة في السعادة؟! لذلك نرى لزاما علينا أن نبدأ أولا بتحديد «مشكلة السعادة» من أي جهة تقع، وأن ننظر - ولو نظرة إجمالية – لمعناها، حتى يصبح بمقدورنا بعد ذلك أن نحدد عناصرها، وارتباطاتها، ومداها، وحينئذ سيتضح لنا أن هذا البحث الذي بدا أول الأمر جزئيا محددا سيشمل معظم الجوانب التي تهم الإنسان، بما أنه إنسان ناطق مفكر عاقل!! ومضيا في الطريق ذاته إلى منتهاه، يتعين علينا أن نفرق أولا بين كل من المشكلة من جهة، والإشكال من جهة أخرى، حتى يتسنى لنا أن نحدد اللفظ الأنسب لوصف وضعية «السعادة» على الصعيد العلمي! وأول ما نبدأ به هو تقرير أن «الإشكال» يراد به صفة تطلق على كل شيء يحتوي في داخل ذاته على تناقض، وعلى تقابل في الاتجاهات، وعلى تعارض عملي. بينما المشكلة تعني طلب هذه الإشكالية بوصفها شيئا هناك محاولات للقضاء عليه، كما أنها تعني أيضا الشعور بالألم الذي يحدثه هذا الطابع الإشكالي، وبوجوب رفعه وإزالته، وذلك من خلال تتبع هذه الإشكالية كما هي في ذاتها أولا، ثم محاولة تفسيرها تفسيرا يصدر عن طبيعة الشيء المشكل وجوهره ثانيا!! وواقع الأمر أننا إذا ما أردنا تطبيق هذا المعيار على «السعادة»، لوجدنا أنها تتصف أولا بصفة «الإشكال» بحكم طبيعتها؛ بما أنها عبارة عن نسيج من الأضداد والمتناقضات حيث تغطي اللذات المشبعة للبدن - ممثلة في لذات الحواس كلها - كما تغطي اللذات المشبعة للروح - ممثلة في اللذة العقلية وإمكانية الوصول إلى عالم الحق سبحانه وتعالى - أي أنها «إشكال» سواء من الناحية الوجودية، أو من الناحية المعرفية!! عند هذا المستوى من التحليل الأولي يبرز أمامنا تساؤل مفاده: متى تصبح السعادة مشكلة إذن؟! والحال أنها تصبح مشكلة فقط عندما يشعر المرء شعورا قويا بطبيعة وحتمية هذا الإشكال من جهة، ويسعى جاهدا إلى محاولة تفسيره بعد الوقوف على حقيقته من جهة أخرى.

ولا شك أن هذا يقتضي - ضمن ما يقتضي - لمن تصبح السعادة بالنسبة إليه مشكلة، أن يكون ذا وعي وإحساس بذاتيته، ولهذا لا يمكن أن تمثل السعادة مشكلة بالنسبة للرجل العادي؛ لأنه متى استحوذ عليها فسرعان ما يضيّعها، ومتى ضيّعها لم يعد بإمكانه أن يسترجعها أو حتى يشعر بفقدها فيتحسر عليها!! ومثل هذا الشعور القوي بحتمية إشكالية السعادة نلاحظ وجوده بقوة ضمن تضاعيف مصنفات فلاسفة ومتصوفة الإسلام كافة! فهذا ابن باجة يضع خارطة طريق من أجل تدبير متوحده بحثا عن سعادة المجتمع ابتداء بالفرد، والدولة ابتداء بالأسرة، وهذا صدر الدين الشيرازي يستغرق جل حياته في البحث الفلسفي ليؤكد في النهاية أن طلب المعارف الإلهية وإمكانية تحصيلها للغريب السالك، أمر يكفل له أن يصل إلى أتم سعادة وأبلغ هناء يمكن الشعور به في هذا العالم!! وحب الحصيد؛ إننا إذا ما اعتبرنا السعادة «مشكلة»، بالنظر إلى ما سبق، فإنه سرعان ما يتبين لنا أن ثمة مشكلات كبرى تثيرها السعادة إذا ما خضعت للبحث العلمي الدقيق والمباشر!! فعلى سبيل المثال؛ ثمة مشكلة تتعلق بتحديد لفظة «سعادة»، وثانية تتعلق بالكشف عن علائقها وارتباطاتها بمختلف الأصعدة الفكرية والدينية، وثالثة تتعلق بصلتها بكل من اللذة والمنفعة، وأخرى تتعلق بتنوع طرائق النظر إليها، ومن حيث اعتبارها غاية أو قيمة بحد ذاتها، وكذلك من حيث طبيعتها وأطرها، وما تثيره تلك الأطر من تساؤل.. إلخ.

وبالرجوع إلى معاجم اللغة العربية، نلاحظ أن ثمة تصورا تقليديا يسود أغلب هذه المعاجم في ما يتعلق بتحديدها لمفهوم السعادة. فعلى سبيل المثال؛ يُعرّف صاحب لسان العرب «السعد» بأنه اليُمْن، وهو نقيض النحْس! «فالسعودة: خلاف النحوسة، والسعادة: خلاف الشقاوة، يقال: يوم سعد ويوم نحس!! وسَعَدَ يسعَدُ سعدا وسعادة، فهو سعيد: نقيض شقي! وسُعِد، بالضم، فهو مسعود، والجمع سعداء. والسُّعُدُ والسُّعُود: سُعُودُ النجوم، وهي الكواكب التي يقال لكل واحد منها سُعْدُ كذا، وهي عشرة أنجم، أربعة منها ينْزل بها القمر، وستةٌ لا ينْزل بها القمر!! والإسْعَادُ: المعونة، والمساعدة: المعاونة. وسعديك: إلبابا بعد إلباب، أي لزوما لطاعتك بعد لزوم! وأصل الإسْعاد والمساعَدة: متابعة العبد أمر ربه ورضاه».

وبهذا نجد أنفسنا إزاء تصور تقليدي للسعادة في معاجم اللغة العربية، كأحد المعطيات الثقافية للحضارة العربية الإسلامية، يعرّف الشيء بنقيضه، فالسعادة: ضد الشقاوة، أو هي: نيل الخير، أو الرضا والاطمئنان الذي يكون بقناعة المرء بمقدوره في الحياة!! ولعل ذلك يفسر لنا كيف كان استخدام لفظة «السعادة» أقل انتشارا من استخدام كلمة «السعد» أو «اليُمْن» في البيئات العربية المختلفة، ثم تطور استعمال الكلمة للدلالة على «نيل الخير» أو «طيب النفس وصلاح الحال»، فيقال إن من «سَعِدَ يسْعَدُ سعادة كان في حالة راضية ونفس طيبة»! والحال أن متابعة تطور اللفظة في إطار اللغة الحضارية من شأنها أن تضعنا مباشرة في خضم مشكلة السعادة؛ إذ سرعان ما يدفعنا ذلك لأن نتساءل عما إذا كانت السعادة ذات مصدر داخلي أم خارجي! وهل هي حالة شعورية تمتلك الفرد السعيد، أم أنها تعني تملك شيء ما وحيازته! وتبعا لذلك؛ يخلص الدكتور عزت قرني - من خلال استقرائه لمدلولات اللفظة في المعاجم العربية - إلى استنتاج ملاحظات ثلاث:

الأولى: غلبة الاتجاه الخرافي، كما يتضح من صلة السعد باليُمن؛ وبالتالي من اليمين والشمال، ومن ثم تعريف السعد بأنه ضد «النحوسة»!! الثانية: أن السعادة تعني في جوهرها «حظا» طيبا يأتي على المرء من الخارج، أي بنيله أو حيازته لشيء ما؛ فالنظرة إليها إذن نظرة «شيئية» و«خارجية».

الثالثة: أن هناك بالتالي فقرا شديدا في الانتباه إلى ذاتية السعادة!.. وتلك قضية أخرى!

* كاتب مصري