الحقوق والحريات والشريعة

رضوان السيد

TT

إنّ العنوان الموضوعَ لهذا المقال، سبق أن ورد عنوانا لكتابٍ صدر في العام الماضي للدكتور رحيِّل غرايبة. وقد شهدت الكتابات في الشأن السياسي وعلائقه بالإسلام نهوضا جديدا بعد قيام الثورات العربية، وبروز حركات الإسلام السياسي في الانتخابات. والملحوظ أنّ هذا التجدد يركّز على تلاؤم الإسلام مع الحريات والحقوق والديمقراطية، وهذا يعني أمرين: التلاؤم مع الشعارات التي طرحها الشبان المدنيون من جهة. ومن جهةٍ ثانيةٍ اعتبار أنّ الإسلام (السياسيَّ) يملك المبادئ نفسها، مما يؤهله لتولّي الأمور في المرحلة الجديدة، لأنّ الجمهور معه كما بيَّنت الانتخابات، ولأنّ وصوله للسلطة لا يجعل الدولة دولةً دينيةً، ما دام الإسلام مؤسسا لهذه المبادئ المدنية! ما شهد الفكر السياسي لدى الإسلاميين المعتدلين والمتطرفين، تطوراتٍ بارزةً في العقدين الماضيين. ويرجع ذلك إلى الانسدادات التي أحدثتها الغزوات والحروب الأميركية والإسرائيلية من جهة، والتي أَحدثَها الحكام العسكريون العرب نتيجة انضمامهم إلى الحرب العالمية على الإرهاب. فقد اتجه الإسلاميون المتشددون إلى المزيد من التأكيد على الطابع الجهادي للنضال، والذي لا ينالُ من الأميركيين والغربيين بعامة فقط، بل وينال من العرب والمسلمين حاكمين ومحكومين. بيد أنّ هذا النضال الأعمى أو العشوائي تعرض في أواخر التسعينات من القرن الماضي وحتى وقتٍ قريبٍ إلى نقدٍ ومراجعةٍ من جانب بعض الفصائل مثل الجماعة الإسلامية. وقد اقتصرت المراجعة على وقف العنف لاختلال الأدلة التي استند إليها القائلون به. وما مضى هؤلاء قُدُما في اشتراع سياساتٍ سلمية باسم الإسلام بسبب الجوّ المُقْبض كما سبق القول، لكنهم كما هو معروف وبعد قيام الثورات شكَّلوا حزبا أو أحزابا ونزلوا إلى الانتخابات، وحصلوا على ثلاثة عشر نائبا بالبرلمان الجديد دونما تنظيرٍ كثيرٍ، وهم يقولون الآن إنهم إنما يريدون - وبالسلْم - تطبيق الشريعة، وإقامة الدولة الإسلامية. أمّا الإسلاميون المعتدلون (وهم الإخوان ومُشابهوهم)، وهؤلاء ما كانوا يقولون بالعنف لا بالداخل ولا بالخارج؛ فإنهم مارسوا العمل السياسي بقدْر ما سُمح لهم، وتوقفوا عن التنظير الكثير والمتقدم الذي كانوا هم القائمين عليه منذ الستينات والسبعينات. كان هؤلاء وبعد خروجهم من نظرية «الحاكمية» عملا وليس رؤية، قد كتبوا كثيرا في الشورى، وأنها توصل إلى القول بديمقراطية إجرائية إذا صحَّ التعبير، وتصبح حاكمية الشريعة هي المرجعية العليا. وهكذا فقد سايروا العملية السياسية المحدودة المسموح بها، وتوقّفوا عند نقطتين: الدولة في الإسلام مدنية أو تظلُّ مدنيةً رغم حاكمية الشريعة، لأنّ الحاكم أو المشترع ليس معصوما. والنقطة الثانية أنّ الشعب ليس هو مصدر السلطات لأنّ ذلك مُخِلٌّ بمرجعية الشريعة! وكما سبق القول، فإنّ الأجواء المسدودة والمقْبضة منذ التسعينات - بعد حرب الخليج الثانية - ما سمحت بالتقدم على مسارات المراجعة والنقد، فظلَّ الأمر على هذا النحو: مشاركة في الانتخابات على كافة المستويات (ما عدا الرئاسة)، وإصدار بعض الوثائق ثم التراجع عنها، والتماحُك مع السلطات القائمة دونما قطْعٍ للعلائق معها، وبذل جهود خارجية للإثبات للأميركيين والغربيين أنهم غير متطرفين ولذلك فهم مؤهَّلون للمشاركة في العملية السياسية دونما دعوةٍ من جانبهم للتعرض للأنظمة أو القول بضرورة إسقاطها! لقد تغيرت الأجواءُ تماما بعد قيام الثورات. فمن جهة انتشرت شعارات الحرية والكرامة والديمقراطية والتداول على السلطة، وكلُّ ذلك بالسِلْم أو الاحتجاج السلمي. ومن جهةٍ أُخرى؛ فإنّ القائمين بهذه الاحتجاجات وعليها ما كانوا من الإسلاميين. بيد أنّ الإسلاميين جميعا تقريبا دخلوا على أجواء الثورات: الإخوان ومشابهوهم شاركوا بكثافة في الحركات الاحتجاجية، وتبنوا شعارات تلك الحركات. والسلفيون دخلوا في التظاهرات متأخرين، لكنهم سلكوا مسلك الإخوان في إنشاء الأحزاب، وفي المشاركة في الانتخابات. وكان ذلك كلُّه عبارةً عن مسالك عملية دونما كلامٍ كثيرٍ عن مآلات الأفكار أو المبادئ السابقة. إنما ظهرت خصوصياتهم الباقية في مناسبتين بمصر: مناسبة الاستفتاء على الإعلان الدستوري، لأنهم اعتبروا الاستفتاء فرصةً لتثبيت قوة الانتماء والهوية الإسلامية، رغم أنّ المواد الإسلامية في الدستور المصري ما كانت مطروحةً للاستفتاء، ومناسبة الانتخابات النيابية؛ حيث خاضوا في الأرياف على الخصوص معارك في مواجهة العلمانيين والليبراليين تارةً، وفي مواجهة «الفلول» تارةً أُخرى. ولنعُدْ إلى الأجواء التأليفية الراهنة. هناك اليومَ في السوق طوفانٌ من الكتب والمقالات عن الثورات العربية، وظروف اندلاعها، والشعارات التي طرحتْها، ومستقبل هذه «العملية» البعيدة المدى. وهناك من جانب الإسلاميين المستقلّين أو القريبين من الإخوان عملٌ توليفي دَؤوبٌ لجهة «تأويل» شعارات الثورات إسلاميا، ولجهة التدليل على قَول الدين بالدولة المدنية، ولجهة التدليل أيضا على أنّ «الشعب» مصدر السلطات، باعتباره قد أيَّدهُم بغالبيته في الانتخابات! وهذه الأمور جميعها جيدة، وعلى السلفيين ما داموا قد دخلوا في العملية السياسية دون تحفظاتٍ كثيرةٍ، أن يُطوِّروا فكرهم النظري أيضا. إنما هناك مُلاحظاتٌ أساسيةٌ، كان المؤمَّلُ أن يهتمَّ لها وبها السلفيون أكثر من الإخوان لكنهم لم يفعلوا أو لم يفعلوا حتى الآن. فالإسلاميون جميعا أقاموا مقولاتهم في المرحلة الماضية على مسألة تطبيق الشريعة؛ أي أنّ الأوضاع السابقة ما كانت تتمتع بالشرعية لمفارقتها للشريعة، على مستويي الحكم والتشريع. ونحن نعرف أنه كان هناك من تطرف فذهب إلى تكفير المجتمع بذريعة مفارقة الشريعة أو الغفلة عنها. وقد رأى المسلمون بعامة أنّ شرعية مجتمعاتهم قائمةٌ ومستتبّةٌ بالأمان الأول عند قيام الأمة وتبلور الجماعة. والأمة ومجتمعاتها هي التي احتضنت وتحتضن الدين والقرآن، وتتبادل معهما الشرعية في مجتمعات الإيمان والثقة بالله وشرعه. وهذه المقولة التأسيسية فارقها الإسلاميون عندما عملوا طويلا على تحويل الشريعة من نهج فكر وحياةٍ إلى قانون للعقوبات، فقد كانت حجتهم دائما لعدم تطبيق الشريعة، هي أنّ الحدود ليست كلّها مطبَّقة! وعندما صارت الشريعة أو أوشكت تعني القانون المفروض من السلطات (لإثبات إسلاميتها)، افترقت عن الجماعة وعن مجتمعاتها، وصار من الضروري أن يأتي «الفتية الذين آمنوا بربّهم»، فيعيدوا فرض شرع الله على المجتمعات التي غادرته: بسبب التغريب، وبسبب أنظمة الحكم العلمانية. وقد أدرك الحاكمون ومستشاروهم ضعف الإسلاميين لهذه الناحية (أي الوقوف مع الشريعة في انفصالٍ عن المجتمعات)، فجاء جعفر نميري بالسودان في الثمانينات (وبعد قتل ذريعٍ في المجتمع باسم الاشتراكية!) ليقول إنه يريد تطبيق الشريعة، وأن يكون على سُنّة السلف الصالح، وأميرا للمؤمنين، فسارع بعضُ الإخوان، وحسن الترابي إلى تأييده! وما كانت نتيجة «الحقبة الإسلامية» هذه غير إعدام محمود محمد طه وآخرين بحجة أنهم مفارقون لشريعة الترابي والنميري! وكأنما لم تكفهم هذه التجربة المُرَّة. فبعد أقلّ من أربع سنواتٍ على سقوط النميري - على يد جنرالٍ متدين ومُسالم - عاد الترابي للتحالُف مع العسكريين من أجل تطبيق الشريعة وإقامة الدولة الإسلامية مهما كلَّف الأمر. وها هو عمر البشير بعد ثلاثٍ وعشرين سنة من «تطبيق الشريعة» قد أضاع ثُلُثَ السودان، والثلثان الباقيان على خطرٍ وتشرذُم. وبالطبع ما كان هذا الضياع والتضييع بسبب تطبيق الشريعة أو عدم تطبيقها، بل بسبب الاستبداد والفساد، والتحكم بالدولة والمجتمع بطرائق العنف. فالشريعة الإسلامية مطبَّقة باعتبارها هي أساس شرعية المجتمع، وإذا كانت هناك جزئيات أو أحكامٌ لا تلقى تطبيقا، فيمكن إصلاح الأمر من خلال البرلمانات ذات الغالبية الإسلامية، والتي تمتلك سلطة الاشتراع. فالمشكلة ليست هنا، بل في هذا الفهم الحزبي للإسلام وأدواره ووظائفه. فالشأن الديني الذي يحتاج إلى تربيةٍ وتنميةٍ ونقلٍ من جيلٍ إلى جيل بالنصوص ومنظومات القيم، وظائفه غير وظائف إدارة الشأن العام. إذ إنه أساس قيام مجتمعاتنا واستمرارها، اعتقادا وسلوكا، بينما إدارة الشأن العامّ هي حق الناس في مواطنتهم ورعاية مصالحهم. وسيؤثر المتدينون فيها بأخلاقهم وقيمهم بحيث يرتقي العمل السياسي، وينتفي الاستبداد. وهذا معنى مدنية الدولة والنظام الذي يقول به الإسلام في الأساس، باعتبار أنّ الشأن الدنيوي، أو الإمامة، ليس شأنا دينيا وإنما هو شأنٌ ضروري ومصلحي لاستمرار الأوطان والمجتمعات والدول في أمنٍ واستقرار. وهذا ما فهمناه من تفرقة الإمام أحمد بن حنبل بين الشأن الاعتقادي والشأن السياسي. فما كان ليرضى بتدخل الدولة في تحديد طبيعة الوحي المنزل وهل هو قديمٌ أو مخلوق، وإنما في الوقت نفسه، ما كان يرى لنفسه أن يعمل من موقفه الديني في فرض نظامٍ أو أمرٍ معيَّنٍ على رأس الدولة؛ وذلك لاختلاف المجال والأدوار. وهناك أمرٌ آخَرُ أقلُّ خطورةً، لكنه مهمٌّ في الظروف الحالية هو إدخال الدين في الصراع السياسي. فهناك في بلدان الثورات عدة أحزاب إسلامية، ولكلٍّ برنامجه في تطبيق الشريعة، وكسْب الناخبين على أساسٍ منه. وبالطبع فقد حدثت مشكلاتٌ وتحدث بين الأحزاب وباسم الإسلام، وهذا الأمر مُضِرٌّ بالدين وبوحدة المجتمع. وقد رأينا في العقود القريبة أنّ هناك جماعات لا تقبل أن تصلّي مع المسلمين الآخرين، فكيف إذا أُضيف إلى أسباب الخصومة الشأن السياسي/ الديني؟! لقد أعطت المجتمعات الإسلاميين على شتّى اتجاهاتهم، ثقتها، وفي ظنها أنه ما دامت بهؤلاء ثقةٌ في دينهم، فسيكونون موفَّقين في عملهم السياسي. وهذا قياسٌ مع الفارق الكبير. ولذا فالذي أراه أنّ المؤلفات الكثيرة من جانب الإسلاميين في الشأن السياسي (الشرعي) بعد الثورات، يمكن أن تكون مفيدة، إذا أفادت من التجربة الطويلة من التنافُر مع الدول والأنظمة، فلا تقع في وهم إمكان الاستيلاء على الدول والأنظمة بأي ذريعةٍ كانت.