أسماك في حلبة الموت

موئل يوسف عز الدين

TT

قررت أن أهرب من مدينتي بعد أن وافقت على إعادة ترشيح حزب العمال لي عن الدائرة الشمالية في الانتخابات المحلية.. وكنت واثقا أن الناخبين لن يصوتوا لي فيها ثانية لأنني مرشح مسلم وعيوني سوداء كما أنني أجمع التبرعات لبناء أول مسجد في شرق ويلز. وكان أول اثنين من مايو (أيار) هو يوم إجازة البنوك العامة. فقال الصغار: نذهب في عطلة قصيرة، وكان البحر أول مكان خطر على بالي، فأنا أعشق البحر، لأنه يذكرني بالصحراء التي أحبها حتى البكاء وأفتقدها وأنا في غربة غرب الأرض.. إلا أن الصغار أصروا على أن نذهب لزيارة مدينة برمنغهام لأنهم قد ملوا رؤية المزارع والحقول والأرانب والخراف في ويلز. وكنت وأنا أناقش الصغار أتابع إحدى القنوات الإسلامية الكردية وأرى المئات من الشعب العراقي الكردي وهم يبكون تنحي قائدهم عن رئاسة حزبه الإسلامي ورفضه أن يرشح نفسه لدورة رئاسية جديدة بعد سنين طويلة في الرئاسة، لأنه عازم على أن يفسح المجال أمام غيره ليقود أمته.. وأكبرت في الرجل تلك الروح، وقلت في نفسي: مثال قيادي جديد في عالمنا الإسلامي. وقررت أن أكون ديمقراطيا بأن أطرح أمر الإجازة للتصويت العائلي. وكانت النتيجة متوقعة، فقد فاز الصغار باعتبارهم الأغلبية وباعتباري الأقلية المغلوب على أمرها رغم دعم وزارة الداخلية لي! وأقنعني الصغار بأنها ستكون رحلة تعليمية مفيدة لأننا سنزور متحف عالم البحار الذي يقال: إنه الوحيد في العالم في طول نفقه الزجاجي الذي تحيط به المشاهد من كل جانب وهو يطل على عالم الأسماك الرائع العجيب. والغريب أن انتخاباتنا العائلية تزامنت مع انتخابات اليونان وانتخابات فرنسا واستقالة رئيس حزب الاتحاد الكردستاني الإسلامي في العراق واستقالة رئيس وزراء الأردن التي هي أيضا عندي ظاهرة فريدة في عالمنا المستبد، لأنها استقالة رجل قانون ذي مبادئ لا يقبل معها أن يتحول إلى «مناد في المزاد العلني» كما نقلت عنه «الإيكونومست» في مقابلة أجرتها معه بعد استقالته. وظاهرة عدم التمسك بالكرسي من أجل المبدأ هي ظاهرة تستحق الاحترام والدراسة، خاصة حين تظهر في عالمنا العربي الحزين الذي هو بحاجة إلى أن يلتفت إلى الأمام بدلا من أن يتعلم فيه الإنسان أن يكون مستبدا منذ بداية طفولته حين يعلم أن أباه أو أمه قد خطفتهما غيلان القصر الجمهوري ثم دهستهما سيارته خطأ وعن غير قصد! وأنا كعراقي إذ أنسى فلن أنسى ما كان يجري في قصر النهاية الذي كتب على بابه أن داخله مفقود وخارجه مولود. ويبدو اليوم أن الفلك قد استدار ثانية وبدأ يكرر نفسه مرة أخرى وبشكل أسوأ فعادت الغيلان تختطف أساتذة العراق الجامعيين وعلماءه الأفاضل.. ثم لا يعرف مصيرهم.. ولا أحد يدري من الذي يقف وراء هذا كله.. أهو العراق وأهله ونخله أم هم أعداء يجثمون خلف حدوده الشرقية وينتظرون سقوطه ليأكلوه؟ وهذا يعيدني إلى درس حقيقي جديد تعلمته في إجازتي مع الصغار.. إذ كنت أسير في النفق الزجاجي في متحف عالم البحار في برمنغهام وكانت الأسماك الجميلة تحلق حولي بإشكالها وألوانها الرائعة التي تشبه ألوان زهور الربيع حين لمحت سمكتين تتعاركان بعنف، والزعانف هي السلاح.. وكانت إحداهما أصغر بكثير من الثانية، ولكنها كانت ذات عزم وحيوية، وكان ضوء النفق الأزرق منعكسا من عينيها كأنه سيف من أشعة الليزر، والأسماك الأخرى تدور حولهما بصمت وتنظر إليهما كالنظارة في حلبة الموت. وعندما أخذت الكبيرة بالترنح اجتمعت عليها كل الأسماك واشتركت في تقطيعها إربا إربا ثم أكلتها.. حينها تذكرت عالمنا العربي وتذكرت كل الأسماك المفترسة التي تحيط به من كل جانب وتطمع في أرضه وبتروله وثرواته وتخطط لحرفه عن دين التوحيد وسنة المصطفى الذي ورد عنه أنه قال في رواية أبي داود في سننه: «يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها»، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: «بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم وليقذفن الله في قلوبكم الوهن» فقال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال: «حب الدنيا وكراهية الموت». وشعب من الشعوب التي لا شك تحب الموت من أجل الحياة هو شعب سوريا البطل الذي ما زال صابرا محتسبا برغم أن ربيعه العربي قد تحول إلى شتاء طويل ثقيل.. وسوريا مقبلة على حرب أهلية مرعبة كما نقلت «الشرق الأوسط» عن كوفي أنان. ولا أدري إلام يقف العالم صامتا وهو يرى ما يجري فيها.. وكم أكبر ما قاله الأمير سعود الفيصل في القاهرة عن سوريا «نحن لن نقبل بأي حال من الأحوال أن نكون شهود زور أو أن يستخدمنا أحد لتبرير الجرائم المرتكبة بحق الشعب السوري الشقيق». وكم تساءلت وأنا أقرأ عن مواقف الدول الكبرى حول سوريا عن حقيقة الصفقات التي تجريها الدول الديمقراطية العظيمة فتباع فيها أمم وشعوب ويقال فيها هات وخذ؟

ولعلنا نفهم المعادلات السياسية وصفقاتها بشكل أشمل حين ننظر إلى اقتصاد العالم واقتصاد أوروبا من خلال انتخابات اليونان الأخيرة لأن هذه الانتخابات تمثل مفصلا مهما في فهم العلاقة ما بين مبادئ أوروبا وأحلامها التاريخية في بناء دولة أوروبا العظمى وبين مصالحها الاقتصادية، فإن اقتصاد اليونان المتداعي يشبه خرقا كبيرا في سفينتها أرادت أوروبا رتقه بجبر حكومة جورج باباندريو على تطبيق سياسة تقشف قاسية للتقليل من عجز اليونان المالي وكان هذا هو السبب المباشر لسقوط حكومته في صناديق الاقتراع ومجيء حكومة قلقة جديدة ترفض التقشف. وهذا يعني فترة طويلة من عدم الاستقرار السياسي في اليونان كما يقول محلل الـ«ديلي ميل» السياسي روب كوبر. والسؤال الكبير الآن من الذي سينتصر؟.. مصالح أوروبا الاقتصادية؟ أم أحلامها التاريخية بدولة عظمى تشمل اليونان وتنافس الصين وأميركا؟ وهل ستقفز أسماك أوروبا لتلتهم سمكة اليونان وتطردها من السوق الأوروبية؟

ومشكلة حكومة اليونان الاقتصادية تشبه إلى حد كبير مشكلة فرنسا الاقتصادية، فهي بدورها قد أسقطت حكومتها وأطاحت برأس نيكولاي ساركوزي السياسي وهو واحد من ألمع وأذكى رؤساء أوروبا.. سقط الرجل وهو يردد: «إنهم يحملونني المشكلة الاقتصادية التي وجدت قبل مجيئي إلى الحكم». ولا أخفي بأنني مهتم بانتخابات فرنسا لأن الحزب الاشتراكي يشابه كثيرا حزب العمال البريطاني الذي وافقت أن أمثله في مدينتي، وأنا أحسب بأنني لن أفوز بالانتخابات فيه على أي حال. فكلاهما ينطلق من مبادئ يسمونها اشتراكية رغم أنها في حقيقتها إسلامية تدعو لخير الإنسان وعدله. وأنا لا أقول بالاشتراكية أبدا لأن الكثير من فلسفاتها وسياساتها تتنافى مع الإسلام، ولكنني ااحسب أن المشاركة في حياة أوروبا السياسية يبقى لها ما يبررها لمسلمي غرب الأرض لما قد تحققه هذا المشاركة لهم من مصالح ومكاسب تحمي أجيالهم وتحفظ وجودهم. ولا بد لنا نحن المسلمين من أن نبحث عن حلفاء وأصدقاء في وقت تحول الانتماء للإسلام فيه إلى شبهة كشبهة الانتماء إلى بيت سيئ السمعة.. أما بالنسبة للمشكلة الاقتصادية العالمية فتبقى الحقيقة البسيطة في أن كل سياسات الأحزاب في أوروبا اليوم هي سياسات مادية تحاول درء كارثة اقتصادية مدمرة نجمت بسبب النمو الزائد عن حده لأن الاقتصاد المادي قد بنى أكثر العالم على أوهام بليونية رقمية خلقتها سياسات البنوك الخيالية إذ حولت الديون الربوية إلى حقائق ربوبية كحقائق المؤمن بربه وما هي إلا زبد ظهرت حقيقته حين بدأ يتأثر اليوم عبر صناديق الاقتراع.

بقي أن أخبركم عن نتيجة لم أكن أتوقعها في الانتخابات البريطانية المحلية.. فقد استيقظت في اليوم التالي لها على تليفون من سكرتير مجلس المدينة يقول لي فيه: مبروك أيها المستشار فقد أعيد اختيارك عضوا في مجلس البلدية!

* أستاذ الدراسات الإسلامية في جامعة ويلز - المملكة المتحدة