في مجلة «التفاهم» العدد 35: مجتمع الخير ومنظومة القيم والاتجاه العالمي

رضوان السيد

TT

في المقالة التي كتبها الدكتور محمد الشيخ عن «العلاقة بين قيمتي العدل والخير لدى جون رولز»، يذهب رولز إلى أولوية العدل على الخير، باعتبار أن العدل يحدد الحدود، أما الخير فهو أمر غائي. والأولوية لا تتعلق هنا بالأهمية وحسب؛ بل بالفلسفة السياسية الليبرالية التي يدعو لها جون رولز. يرد ذلك كله في مقالة بالعدد رقم 35 من مجلة «التفاهم» العمانية الصادر قبل أيام، وهو يتضمن محورا رئيسيا بعنوان: «المجتمع الخيري وفعالية منظومة القيم».

قدم الدكتور عبد الرحمن السالمي للملف أو المحور بالآية القرآنية: «يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون». وهكذا يكون عمل الخير أو فعله عملا عباديا، مثل الصلاة والأعمال العبادية الأخرى. وهذا معنى اعتبار الخير قيمة عليا في القرآن الكريم، وفي السنة النبوية. وقد تجلى ذلك في الربط المباشر ما بين العمل الإنساني والإيمان. وظهرت منذ وقت مبكر نقاشات محتدمة عن أثر ارتكاب الكبيرة في الإيمان، وكيف أن عمل الخير «يزيد» في الإيمان. وقد ترتب على ذلك مبحث آخر وهو أن العمل الصالح ليس ناجما مباشرة عن الإيمان، بل إن الإيمان يغير رؤية العالم لدى الفرد، فتنشأ منظومة القيم التي تقود الأعمال الصالحة، والتي تتساند في إنشاء مجتمع الخير. وبالفعل فإن الدكتور إبراهيم بيومي غانم في مقالته: «الرؤية القرآنية لمجتمع الخير العام»، استنبط من القرآن الكريم خمسة مقاصد هي أركان الخير العام: الحرية، والتمدين، والسلم الأهلي، ومحاربة الفقر، والإسهام في بناء المجال العام. وأقبل الأستاذ صلاح الدين الجورشي على قراءة فعالية منظومة القيم في التجربة التاريخية للأمة؛ فدرس أولا المسألة في القرآن الكريم، ثم درس التجليات في المجتمعات الإسلامية الوسيطة من خلال مؤسسة الأوقاف العظيمة، ومن خلال التنظيرات الكلامية والفقهية، ومن خلال الانفتاحات في منظومة القيم والأنظمة الثقافية والاجتماعية. وقام رضوان السيد بقراءة عن «مجتمع الخير والصلاح» كما حدده الماوردي في «أدب الدنيا والدين». فقد وضع له الماوردي أركانا هي الدين المتبع، والسلطان القاهر، والعدل الشامل، والأمن العام، والخصب الدار، والأمل الفسيح. وقد أوضح الماوردي أن هذه القيم /الأهداف، إنما تقوم على أساس الأخلاقيات الإسلامية العامة الظاهرة التأسيس في القرآن الكريم. وقام الدكتور عز الدين عناية بكتابة مقالة مقارنة في مفاهيم الخير بين اليهودية والمسيحية والإسلام. وقد لاحظ عناية تشابها في منظومات القيم المتأسسة على الإيمان الإبراهيمي، لكنه لاحظ اختلافات كثيرة في معنى العمل الإنساني، وفي المؤسسات التي ظهرت على أساس من منظومة القيم والأخلاق. ودرست الدكتورة منى أبو زيد مسألة «الأمة الميمونة» عند أبي الحسن العامري صاحب: «الإعلام بمناقب الإسلام»، و«السعادة والإسعاد»، و«الأمد على الأبد». فذكرت قراءته المقارنة بين الديانات الست وبماذا يتميز الإسلام، وقارنت بين مفهوم السعادة الفلسفي عنده، ومفهوم المجتمع الخيري في الإسلام، وطافت طوافا واسعا في كتابات الأخلاقيين المسلمين، وكيف مزجوا بين قيم الدين وقيم النظام الفلسفي اليوناني الموروث عن أفلاطون وأرسطو. أما الدراسات الباقية في الملف فقد انصرفت للقراءات الحديثة والمعاصرة في المسألة: أما الدكتورة أمل مبروك فقرأت مفهوم الخير في الفلسفة الحديثة منذ ما قبل كانط وإلى المفكرين المعاصرين في مقال متميز سعة وتأملات. وأما الأستاذ الدكتور أحمد أبو الوفا فقد استعرض مفهوم الخير في مبادئ وعمل مؤسسات المجتمع الدولي، سواء لجهة مكافحة الفقر والمرض والاضطهاد الديني والعرقي والسياسي، أو لجهة الضغوط التي تتعرض لها من حيث منظومة القيم، وعلائق الدين بالسياسة، ومحدودية الإمكانيات. وأما عامر الحافي فقد انصرف إلى دراسة «واجبات ومسؤوليات النخب الدينية في صنع المجتمع الخيري في الزمن الجديد». فالنخب الدينية تتعرض لتحديات بعضها ذاتي، والبعض الآخر يتعلق بالسياقات الجديدة. وأهم التحديات الذاتية اختلاف النخب كيف يمكن تحقيق الخير العام؟ فهناك من يرى ضرورة الاتجاه إلى التأثير على المؤسسات السياسية والجهات الدولية. وهناك من يرى حتى ضرورة الاستيلاء عليها. في حين يرى قسم آخر العمل على أساس مقولات المجتمع المدني والتي تنشط دونما تنسيق تفصيلي مع النظام السائد، إنما دونما معاداة له. والواقع أن الباحث مر مرورا عابرا على تحدٍ آخر مهم ينال من فعالية النخب الدينية، كما ينال من مرجعيتها. وهو يتعلق بظهور الحزبيات الدينية في سائر الأديان (وبخاصة البروتستانتية واليهودية والإسلام)، وهي حزبية تريد أمرين اثنين معا: امتلاك القيم والمبادئ الدينية، والعمل على تطبيقها من خلال المجتمع السياسي وليس المجتمع العام فقط. وقد كان من شأن هذه الظاهرة الجديدة أن شككت النخب الدينية في مرجعيتها (= التحدث باسم الدين)، وفي قدرتها على التأثير بما يصون المجتمع من سلبيات التحزب الديني. وقد قام أحمد الزعبي بقراءة كتاب أميتاي أتزيوني عن الخير العام. والكتاب مهموم بالمصاعب المحيطة بعمليات «نشر الخير العام» بعد أحداث سبتمبر (أيلول) عام 2001. فقد صار كل عمل تطوعي يتضمن إنفاقا ماليا مدعاة للريبة والشك وإمكان استخدامه لتمويل أعمال إرهابية. تماما مثل التسلح الجرثومي أو الكيماوي أو النووي، وإمكان وقوع أدواته في أيدي جماعات تقول بالعنف. والصعوبة ناجمة بالتحديد عن ارتباط هذا العنف بجماعات دينية أو ترفع شعار الدين؛ مما يدفع للمرة الأولى إلى القيام بدراسات معمقة في الموروث الديني، والقيم التي قامت عليها الأديان، وكيف يمكن اكتساب المناعة التي تميز بين الصالح والطالح أو ما يمكن أن يؤدي لذلك. وقد أوضح الدكتور محمد الشيخ - كما سبق القول - العلائق والحدود بين قيمتي الخير والعدل عند جون رولز. وفهمنا من المقال أن هذه المسألة تخترق الفلسفة كلها في تواريخها القديمة والوسيطة والحديثة. وما تطرق الدكتور محمد الشيخ إلى مسألة القيم باعتبارها أساسا لهذه المشكلة، لأن جون رولز الذي درسه كان مهتما بالمجتمع السياسي. لكن الدكتورة أمل مبروك عادت في مقالتها السالفة الذكر لمسائل الفلسفة الأخلاقية العامة.

على أن عدد مجلة «التفاهم» هذا، يتضمن أبوابا أخرى ترد فيها بحوث بالغة الأهمية. وذلك من مثل محاضرة الوزير عبد الله السالمي بعنوان: «التقارب والوئام الإنساني»، والتي ألقاها في مؤتمر بعمان، ونشرها في باب «آفاق» من هذا العدد. وتطل المحاضرة على مسائل القيم المشتركة من جديد، والتي شكلت أساسا للحوار المسيحي - الإسلامي، ثم لحوار الحضارات والثقافات. ويلاحظ المحاضر أنه ما تحقق الكثير، ليس بسبب عدم وجود المشتركات، بل لتفاوت السياقات، والأفكار المسبقة لدى القائمين على الحوار بمرحلتيه. والوزير ليس يائسا من إمكان حدوث تقدم في هذه المسائل الكبرى والضرورية وبسبب تبلور ظواهر ومتغيرات تصنع سياقات جديدة. وهناك مقالتان مترجمتان متميزتان في باب «الإسلام والعالم» من المجلة. أما المقالة الأولى فهي عن الموريسكيين أو «مسلمو غرناطة بعد العام 1492». والمقال مترجم عن الفرنسية، ويعرض فيه الكاتب خوليو كارو باروخا دراسات حديثة عن هذا الموضوع المؤسي. أما المقالة الأخرى فهي بعنوان: «الله وقيصر في أميركا» وهي مترجمة عن الإنجليزية، وتهتم بمصائر المسيحية (أو الإنجيلية) السياسية في الولايات المتحدة. وقد استعرض فيها كاتباها (كامبل، وبوتنام) ظهور الإنجيليين الجدد في السبعينات من القرن الماضي، وكيف تميزوا عن «النهضات» البروتستانتية السابقة بمحاولة تحقيق مبادئهم المحافظة من طريق التأثير في المجال السياسي الأميركي. ومع الوقت تحول هؤلاء الناشطون الدينيون إلى ناشطين سياسيين مهجوسين بتطبيق المبادئ الدينية والعائلية المحافظة، وفي الداخل والخارج بواسطة الدولة الأميركية والنظام السياسي - وتمركزوا في الحزب الجمهوري. وأوصلوا نوابا كثرا إلى الكونغرس للعمل ضد الإجهاض، وحقوق المثليين.. الخ، كما أسهموا في انتخاب ثلاثة رؤساء أميركيين. بيد أن الباحثين أشارا إلى أن التسييس الشديد الذي دخل فيه الإنجيليون الجدد وبعض الكاثوليك، صرف الشبان عن الذهاب إلى الكنائس، وفي أحيان كثيرة دفعهم إلى الإعراض عن الدين باعتباره قد وقع في يد جماعات سياسية محافظة! وهكذا وبالاستناد لاستطلاعي عامي 2006 و2011 لمؤسسة غالوب المتخصصة، توصل الباحثان إلى أن الدين انحسر تأثيره في المجتمع الأميركي العام بشكل عكسي مع ازدياد تسييسه وتأثيره على النخبة السياسية الأميركية. ولا ينبغي أن ننسى التنويه بمقالة أنجليكي زياكا عن الكتابات اليونانية عن الإسلام في عصر الفتوحات العثمانية، فهي مقالة طويلة ومتميزة، وتكمل مقالة أخرى لها عن المسيحية والإسلام في العلاقات البيزنطية /العثمانية منشورة قبل عدة أعداد. وهناك مقالة عن التثاقف ومستقبله بين المسلمين وغيرهم لعبد الرحمن السالمي رئيس تحرير المجلة. وهناك مقالة لأحمد الإسماعيلي في علم الكلام الإباضي، ومقالة عن السلطنة العثمانية من الخلافة إلى الدولة المركزية للدكتور أسامة عرابي. وقد قام محمد عويس بكتابة مراجعة لمشروع نشر «الفكر النهضوي الإسلامي» بمكتبة الإسكندرية (صدر في المشروع اثنان وعشرون كتابا حتى الآن) بناء على ندوة أقيمت بمعرض القاهرة الدولي للكتاب. في حين قام معتز الخطيب بكتابة مراجعة لوقائع الندوة الفقهية السنوية بمسقط، وكانت بعنوان: النظرية الفقهية والنظام الفقهي. وقد شارك في الندوة الحادية عشرة هذه نحو الستين فقهيا وباحثا، وثارت فيها مناقشات غنية، وتلتها في اليوم الأخير ورشة عمل تخصصية، لتقييم تجربة الندوة الفقهية خلال عشر سنوات.