السعادة في المنظور الصوفي والوعي السياسي

محمد حلمي عبد الوهاب

TT

خلق الله الإنسان وكرمه بأن جعله أسمى مخلوقاته، واختصه بالتكليف من دون سائر الكائنات، وترك له حرية الاختيار في ما يتعلق بحمل الأمانة. وتبعا لذلك تعددت مسؤولياته تجاه نفسه، وربه، ومجتمعه الذي يعيش فيه: أما مسؤوليته تجاه نفسه، فأن يحفظها من الهلاك، وأن يرعى صورته المادية في غير ما إخلال بقواعد الدين والأخلاق، وأن يتعرف كوامنها الداخلية من خير وشر فيسعى بالخير ويجاهد في نفسه أمر هذا الشر، وأن يقف على قدراتها الروحية فيشبعها دون الإخلال أيضا بمتطلبات الجسد.

وأما مسؤوليته تجاه غيره من الناس؛ فأن يحفظ ويصون أعراضهم ويعصم دماءهم وأموالهم، وأن تتجلى روعة روحه من خلال تحليه بمكارم الأخلاق ومحاسن العادات، فيساعد المحتاج، ويساند الفقير، ويكون عضوا فعالا في مجتمعه لا إنسانا سلبيا تجاه الآخرين. وأخيرا يتربع إحساس المرء بمسؤوليته تجاه ربه على هرم مهامه، فالله هو الذي أنشأه من عدم، وبث فيه من روحه، وهو جدير بالعبادة إن أعطى، وهو جدير بها أيضا إن منع، ولكن: ما أشد جحود الإنسان ونكرانه لخالقه!! وقد جاهد الإنسان طوال مسيرته لأن يتشبه - قدر طاقته - بالباري سبحانه وتعالى. ومن هنا كانت أحلام الفلاسفة عن إمكانية الاتصال بالعقل الفعال، ورياضات المتصوفة من أجل المكاشفة والبرهان. أما الاتصال بالعقل الفعال؛ فيعني حالة عقلية تنتج عن التفاعل والتقابل ما بين العقل الإنساني من جهة والعقل الفعال من جهة أخرى، تحصل بمقتضاها سعادة للمرء تكمن في كمال المعرفة وفناء العارف وصولا إلى مرتبة الكشف من دون حجاب، وهنالك يصبح بمقدور المتصل أن يكون نورا من الأنوار التي تسبّح الخالق سبحانه وتعالى.

فالوصول والاتصال بالعقل الفعال يمثلان جوهر السعادة التي تغنى بها فلاسفة الإسلام؛ وبخاصة إذا ما وضعنا بعين الاعتبار حقيقة أن اللذة التي يحصلها العبد عندما يتعقل ملائما تفوق لذته بأن يحس ملائما، فاللذة العقلية أشد وأتم من الحسية، بل لا نسبة لها بالمقارنة مع هذه!! ولعل ذلك هو ما دفع البعض إلى التأكيد أن المراحل الأخيرة لدى متوحد ابن باجة، في ترقيه الفكري والروحي، تصبح غير إنسانية بالكلية، وإنما يتم استكمال النعمة الأخيرة بنور يقذفه الله في صدر متوحده فتفتح له المعارف!! وتأسيسا على ذلك؛ يتم تأويل اعتماد العقل البشري على الإشراق الإلهي في مراحله العليا؛ كشاهد قوي على نزوع ابن باجة نحو الصوفية التي استمر مع ذلك في التنكر لها!! فعلى غرار خلفه ابن طفيل؛ قرر فيلسوفنا أن هذا العون مقصور على الفلاسفة، وكأنه أراد بذلك أن يحد من مدى هذا الإشراق، فوضع قيودا يقصر بها هذا النور على من اصطفاهم الله من عباده!! على أن تأويلا كهذا يبدو مخالفا لحقيقة ما كان عليه فيلسوفنا نظريا وعمليا؛ وبخاصة أن عزلة المتوحد التي نادى بها إنما تستند إلى مبدأ التفرغ من أجل التأمل ليس إلا! وآية ذلك؛ أنه لم يكن من أولئك الذين يمارسون التصوف عملا أو علما في حياتهم، كما أنه ناهض الصوفية - وبخاصة الغزالي - ونقد طريقتهم التي تعتمد على الأوهام والخيالات بحسب تعبيراته!! والأمر بخلاف ذلك بالنسبة إلى صدر الدين الشيرازي؛ فرغم اتفاقه مع ابن باجة في غائية السعادة؛ فإنه يفضل طريق المجاهدات والرياضات النفسية. وحجته في ذلك، أنه عن طريق الترقي الصوفي يمكن للسالك قبول الفيوضات الربانية ليصبح مؤهلا من بعد ذلك للدخول في حيز الحضرة الإلهية (كن).

ومع ذلك؛ فإن الوصول إلى كنه هذه الحضرة الشريفة يظل مرتبطا - أولا وأخيرا - بنوع المعرفة؛ فكلما كان المعروف أكمل كانت السعادة به أكمل! وهو ما عبر عنه حجة الإسلام أبو حامد الغزالي بالقول: «وليت شعري! هل في الوجود شيء أجل وأعلى وأشرف وأعظم من خالق الأشياء كلها ومكملها ومبدئها؟ وهل يتصور أن تكون حضرة في الملك والكمال والجمال أعظم من الحضرة الربانية التي لا يحيط بمبادئ جلالها وعجائب أحوالها وصف الواصفين؟!».

ويطلق الشيرازي على هذه العملية اسم «الطريق إلى الحق»، فبعد أن توفر على تحصيل الفلسفة ثبت له أن مبادئها تظل مقرونة بالحقائق الملهمة كما أنزلت على الأنبياء وكشفت للحكماء المتألهين. وقد استطاع أخيرا أن يدرك حدسيا، ما كان قد حصله أولا بالطرق الجدلية، ثم أخذ يزداد يقينا بأنه مدعو إلى أن يطلع الآخرين على تلك المعارف التي أنعم الله بها عليه! ومن هنا كان عنوان كتابه «الأسفار الأربعة» التي يعني بها: أسفار النفس من الخلق إلى الحق، ثم إلى الحق بطريق الحق، ثم من الحق رجوعا إلى الخلق، وأخيرا إلى الحق كما يتجلى في الخلق!! من جهة أخرى؛ تستمد السعادة علاقتها بالسياسة من منطلق كونها تعبر عن فكرة فلسفية لم تخل فلسفة من اعتبارها والعمل على تحقيقها. وقد يبدو الفيلسوف للبعض رجل أفكار انطوائيا يحيا بمعزل عن هذا العالم، ويغلق على نفسه باب مذهبه التأملي المجرد، لكن الفيلسوف أولا وأخيرا إنسان يمضي إلى عالم المثال استنادا إلى الواقع المعيش.

وآية ذلك، تلك العلاقة الوثيقة التي تربط كلا من الفلسفة والسياسة، فقد نادى أفلاطون بضرورة أن يكون رئيس مدينته الفاضلة فيلسوفا، وكذلك فعل ابن باجة، وبدا لنا أرسطو في مظهر «المربي الأعظم» للإسكندر الأكبر، وتولى كل من: ابن سينا وابن باجة وابن رشد مناصب عليا في مجتمعاتهم بلغت حد الوزارة. وعليه؛ فإن الفلاسفة قد تجاوبوا مع أطرهم الحضارية وحاولوا أن يعكسوا في فلسفاتهم أصداء واقعهم الحي، وأن يعبروا عن آمال مجتمعاتهم وأحلام مواطنيهم، على الرغم مما يقال من أن الفلسفة ليست إلا خيالات أفلاطونية تفقد السند الواقعي!! ومع أن السياسة قد أصبحت اليوم علما من العلوم؛ فإن هذا العلم لا يستطيع أن يستغني عن مذاهب الفلاسفة ونظرياتهم وأحلامهم ومدنهم الفاضلة؛ لأن هذه كلها هي لحمة الحضارة البشرية وسداها، إن لم نقل إنها الجو الروحي الذي يتنسمه الإنسان.

ويبدو هذا الارتباط وثيقا إذا ما أمعنا النظر في فكرة السعادة؛ لأنها تمثل مطلوبا لكل طالب ومرغوبا لكل راغب، فليسوفا كان أم رجل سياسة. والدليل على ذلك؛ أنه سواء أكانت المشكلة الأولى لدى اليونانيين مشكلة سياسية، أم كانت المشكلة الأولى لدى الإسلاميين تمثل الألوهية؛ فإن السعادة هي القاسم المشترك الذي يجمع بينهما في إطار أخلاقي يكفل لكل من الفرد والمجتمع سعادته الدنيوية والأخروية على السواء؛ وبذلك تمثل السعادة حجر الزاوية في الفكر الإنساني كافة!! ففي مجابهة الواقع الفاسد الذي عاينه ابن باجة، طرح فيلسوفنا مدينته المثلى، ودعا متوحده لأن يعتزل الناس، إلا في الأمور الضرورية، وقد برزت ملامح هذه المدينة الأساسية على النحو التالي: سيادة المحبة بين سكانها، وبالتالي ليس ثمة ما يدعو لوجود القضاء، «إذ لا تشاكس بينهم أصلا»!! أما عن الملمح الثاني؛ فيتجلى في تقريره أن أفعال أهلها صواب كلها، وأنهم أصحاء الأجساد والنفوس معا؛ فليس ثمة حاجة بهم إلى أطباء!! وأن آراء أهل مدينته صادقة كلها، وأن أعمالها هي «الفاضلة بالإطلاق»، وأن التجانس الملحوظ فيها نتيجة طبيعية لسير أهلها على هدي الحقيقة الواحدة التي لا يلحقها تبديل أو تغير!! وفي الأحوال كلها؛ يبدو أن فيلسوفنا عانى كثيرا، على المستوى السياسي، وذلك بحكم أنه عاصر سقوط موضع مولده (سرقسطة) على يد ألفونسوا الأول عام 512هـ/ 1118م بدعم من بعض الخونة المتواطئين، ومن المرجح أنه كان يشغل الوزارة حينها، إذ ولاه إياها أبو بكر بن إبراهيم الصحراوي، فخرج من بلاد الأندلس نازحا إلى بلاد المغرب، باكيا على أطلال المدينة الشاخصة، وقد ملأت الحسرة ما بين جنبيه جراء فراقه موطنه الذي حظي فيه بمكانة مرموقة عالية، إضافة إلى أنه فقد الإحساس بالأمان، وأحس بالخطر يطل نحوه، كما عبر عن ذلك في رسالة بعث بها إلى تلميذه ابن الإمام، قال فيها: «وسيرتي التي أنا عليها شهيرة؛ وأنا متعرض فيها للخطر».

وقد أثر هذا بدوره في فلسفة ابن باجة، حتى إن الاضطراب يشيع في أسلوبه، فتكثر أخطاؤه اللغوية على الرغم من أنه كان أديبا شاعرا، وتبدو كل جملة من جمله وكأنها جزيرة منعزلة ليس من الهين فك شفراتها، ويغلب عليها أيضا الإحساس بعدم طمأنينة مؤلفها، كما لو كان يشعر بأن الحوائط جواسيس تنقل ما يتبادر إلى عقله وما يمليه عليه ضميره!! وعلى العكس من ذلك تماما، نجد صدر الدين الشيرازي غير عابئ بأمر السياسة فلم يولها اهتماما؛ وجل ما في الأمر أنه عاش في العصر الصفوي وتتلمذ على يد أستاذه الأمير داماد، وهو الأمير محمد الباقر بن محمد الاسترآباذي (ت1631م) الذي كان من أشهر علماء العصر الصفوي بإيران، كما تتلمذ على يد بهاء الدين العاملي (ت1621م). وقد دفعه اشتغاله بالتحصيل إلى الاعتزال خمسة عشر عاما! وبخاصة بعد أن رأى الناس من حوله يحصلون العلم على يد الأصاغر؛ فألم به ما ألم بسلفه ابن باجة، وكثيرا ما دفعه ذلك إلى بث كتبه همومه وشكاياته!! ختاما يمكننا القول: إن حلم الفلاسفة لم يتحقق بعد، وبخاصة إذا ما وضعنا بعين الاعتبار حقيقة أن إنسان العصر الحديث يبدو في أمس حاجة إلى تحقيق السعادة!! فسياسات ما يسمى «المجتمع الدولي» لا تتبع إلا مبدأ المنفعة، وتحت وطأة السيطرة الإعلامية يتم تضليل المجتمع!! كما يتم إخضاع الشعوب - بوعي أو من دونه للقلة التي تملك الأمر في السياسة والاقتصاد معا، فأين مدينة أفلاطون من الواقع المعيش؟ أليس لنا - على ضوء دراستنا لابن باجة أن نقرر أن المناخ الحالي أدعى لظهور متوحد جديد يقيم بناء نفسه بنفسه من دون أن يخضع في سلوكياته المختلفة لمجتمع العبيد؟!.. تلك قضية أخرى!

* كاتب مصري