الدنمارك والمسلمون.. من أجل تفاهم مستقبلي أفضل

إميل أمين

TT

بعد عدة سنوات من القطيعة بين الدنمارك والعالم الإسلامي، يبدو وكأن الدنماركيين يريدون إعادة بناء جسور من التفاهم مع المسلمين، عبر اللقاءات الحوارية المشتركة، ولا سيما لقاءات الحوار الديني والبحث عبرها عما يوفق ولا يفرق، في هذا التوقيت المهم والحساس حول العالم وفي أوروبا بنوع خاص. في هذا السياق انعقد في بيروت وبمقر مؤسسة الحريري للتنمية البشرية المستدامة في الفترة من 3 أبريل (نيسان) إلى الثالث من مايو (أيار) المؤتمر المشترك الدنماركي - الشرق أوسطي الذي حمل عنوان «من أجل تفاهم أفضل بين المسلمين والمسيحيين».

ما الهدف من وراء هذا اللقاء ومن داعمه الأدبي والمادي؟

بحسب أوراق المؤتمر واستيضاح آراء المشاركين من رجالات الدين العرب والعجم، المسيحيين والمسلمين، فإن الهدف الرئيسي هو توسيع مجالات التفاهم، وتعزيز فرص التلاقي بين أتباع الديانات التوحيدية، والتطلع إلى ما هو مشترك وأساسي في هاتين الديانتين، كنقطة بداية نحو تطور من شأنه أن يركز على السلام والمصالحة والتكافؤ والديمقراطية.

وقد بدا واضحا أن الكلمات التي ألقيت والنقاشات التي دارت طوال الأيام الثلاثة إنما كانت تتجاوز الدنمارك إلى أوروبا بأكملها، وبخاصة في وقت محنتها العنصرية الحاضرة. خلف هذا المؤتمر تقف مجموعة التواصل بين المسيحيين والمسلمين في الدنمارك، وهي ثمرة التعاون بين مجلس المسلمين المشترك، ومجلس الكنائس الدنماركية، بما في ذلك ممثلون عن الكنيسة العامة، والكنيسة الكاثوليكية، والكنائس المستقلة، وبالتعاون مع أطراف شريكة في الشرق الأوسط مثل الفريق العربي للحوار الإسلامي - المسيحي، والتمويل بشكل رئيسي من وزارة الخارجية في الدنمارك، وهذا أمر له دلالات بعينها.

يلفت الانتباه قبل الدخول في عمق الحوارات التي جرت، ما أشار إليه سفير الدنمارك لدى لبنان جان توب كريستانسن الذي يتقاطع مع بعض ما أشرنا إليه في مقالات سابقة، من أن أوروبا تشعر بمخاوف واضحة من جراء «الربيع العربي»، ولهذا فإن بعضا من دولها تحاول الاقتراب وربما التلاحم، حتى ولو عبر الحوار مع ومن الشرق الأوسط، خوفا من ترك ساحة دوله نهبا لتيارات دينية ذات طبيعة راديكالية، في حين أن بعضها الآخر تأخذه المخاوف إلى مزيد من التشدد والعنصرية اليمينية.

على كل الأحوال، فإن السفير كريستانسن أرسل أكثر من رسالة لها معان ودلالات عميقة وتحتاج إلى تفكيك جذري، لا إلى التعاطي معها سطحيا. فعلى سبيل المثال يقول: إننا لا نعرف متى ينتهي الربيع العربي، لكننا متأكدون من أنه أرسى نظما متقدمة في مجال الديمقراطية وحقوق الإنسان.. هل في هذا الكلام مداهنة سابقة لأوانها تعكس محاولة ما لتغيير فكرة مسبقة عن الدنمارك تحديدا؟

لماذا لبنان بداية؟ ثم ما هو الحوار في تقدير الحكومة الدنماركية؟ للتاريخ نشير إلى أن الحوار الدنماركي - العربي كان قد انطلق قبل سنوات عدة قاصدا الشرق الأوسط، وهو رقعة جغرافية اهتم بها الدنماركيون منذ مئات السنين، ففي عام 1761 أرسل الملك الدنماركي آنذاك ستة رجال إلى العالم العربي، الذي كان غامضا وغير معروف آنذاك «ربما بالنسبة للدول الإسكندنافية خاصة»، وكانت مهمتهم الأساسية القيام ببعثة استكشافية لمدة عامين في تلك البلاد العربية الغامضة.

على أن هذا الحوار وذلك التواصل، قد تعرض كما يعلم الجميع لضربة قاسية قاصمة، إثر أزمة الرسوم الكاريكاتيرية الشهيرة التي أصابت مشاعر مسلمي العالم وليس الشرق الأوسط في مقتل.. هل إعادة إحياء تلك العلاقة كما في ذلك المؤتمر نوع من أنواع التكفير عن الخطيئة السابقة ومحاولة لرأب الصدع؟

مهما يكن من أمر الجواب، فإن حكومة الدنمارك وإن اعتقدت في الحوار، إلا أنها لا ترى فيه حلا سحريا وسريعا، بل هو عملية مستمرة ومتراكمة، والحوار بين المسلمين والمسيحيين يجب أن يستمر هذا العام، وبعد عشرة أعوام، وبعد مائة سنة، ويجب تعزيز كل مقومات هذا الحوار من خلال التسامح والتفاعل بين جميع المجموعات في الشرق الأوسط، بعيدا عن التطرف المنتشر في كل أنحاء العالم، وليس فقط في هذه المنطقة، وسواء كان من مجموعات إسلامية أو مسيحية.

أما لبنان فلأنه معروف بثقافته ويحتوي ديانات مختلفة، وهنا يقر سفير الدنمارك بأنه في «الدنمارك لدينا الكثير مما نتعلمه من ثقافة الحوار التي يتميز بها لبنان، وقد جئنا لنجمع بعض الخبرات ونستفيد منها». والشاهد أنه يصعب الإحاطة في هذا المسطح، بكل ما ألقي من كلمات، وما جرى من مناقشات ثرية بالفعل، غير أننا وقبل التوقف مع التوصيات النهائية للمؤتمر، ربما نختار ورقتين واحدة من الجانب الدنماركي، والأخرى من الجانب العربي، على سبيل المثال وليس الحصر لتحديد اتجاهات المؤتمر الفكرية.

ضمن فعاليات اليوم الثالث والأخير وفي الفترة الصباحية كان هناك محور قراءة حول «الأخلاقيات.. وهل هي قيم مشتركة أم خاصة في الإسلام والمسيحية»، وقد تحدث فيه الدكتور محمد محفوظ من المملكة العربية السعودية، والسيد جواد الخوئي من العراق، والقس بيتر فيشر موللر من الدنمارك.

ولعل ما جاء في كلمة القس الدنماركي يلفت النظر إلى أن الدنماركيين ليسوا جميعا على عينة رسام الكاريكاتير السيئ الذكر، فالقس بيتر من أبرشية مدينة روسكيلده، وهو رجل الحوار المتميز في مجلس كنائس الدنمارك، وباحث عميق في شؤون الديانات، ولا سيما الإسلام والمسيحية، وقد كانت رسالته لدرجة الماجستير تحت عنوان: «الوصايا العشر في القرآن والعهدين القديم والجديد.. دراسة مقارنة»، ولهذا فإنه يرى أن الأخلاق واحدة ومشتركة بين جميع الديانات السماوية، بل والإنسانية إذا صح التعبير، مع الاختلاف في الرؤى والعمق، لذا يمكن اعتبار القيم الأخلاقية من المسائل المشتركة بين بني البشر، وإن كان هناك اختلاف فيما بينها في بعض الموارد الجزئية أحيانا لكنها تكاد تتفق في الخطوط العامة لها.

وعلامة الاستفهام التي يطرحها حديث القس بيتر مفادها أنه «إذا كان ذلك كذلك.. فهل المشهد شبه التوافقي بامتياز هذا أخلاقي يقودنا بالضرورة إلى الحوار وأهميته بل وحتميته؟».

في ورقته التي ألقيت على مسامع الحضور يؤكد القس بيتر على أن «حوار الديانات في زماننا الحاضر يعتبر ضرورة ملحة، لأن مصالحنا الاجتماعية واحدة، فما يصيب أحدنا يصيب الآخر سلبا أو إيجابا، وأيضا لتقريب وجهات النظر بين أتباع الديانات لنتمكن من العيش في هذا العالم الرحب بمحبة ووئام، ولتبديل ثقافة العنف والحقد والكراهية إلى ثقافة التعايش والتسامح».

في هذا الصدد نشير إلى ما لا يعرفه الكثيرون عن القس بيتر وكيف أنه بالفعل رجل مهموم بالمشترك الإنساني الذي يحث أتباع الديانات على الوقوف في صف واحد، ولا سيما عند وقوع الخطوب، ولذلك فإنه يأخذ على عاتقه دفع المسلمين والمسيحيين حول العالم دفعا لمواجهة التحديات المناخية التي تكاد تذهب بالكرة الأرضية، جفافا وتصحرا واحتباسا حراريا، إلى آخر سلسلة الكوارث البيئية المحدقة بالإنسانية.

يسأل القس بيتر الانفتاح على الآخر، وفهم اعتقاداته وأصوله بكل علمية وإنصاف واحترام ونزاهة، ويشير إلى أنه «كلما ازدادت القواسم المشتركة، اضمحلت الفوارق والخلافات، وتمكنا من تحكيم القيم الأخلاقية في مجتمعاتنا».

الورقة الأخرى التي جاء اختيارها موفقا إلى أبعد حد ومد في هذا التوقيت، تلك المتعلقة بـ«سماحة الإسلام مع أهل الديانات» والتي قدمها السيد علي بن السيد عبد الرحمن آل هاشم مستشار الشؤون القضائية والدينية في قصر الرئاسة بدولة الإمارات العربية المتحدة، وعضو مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر.. لماذا الكلمة موفقة في هذا المحفل الذي يضم الأوروبيين خاصة؟ حكما لأنها تبعث برسالة تطمينية، وهي أصل في الإسلام، إلى الغرب، الذي يرى قطاع عريض منه اليوم أن أهل الديانات في الشرق الأوسط، ذي الأغلبية الإسلامية، ربما كانوا في خطر، وهو أمر ولا شك ارتفعت وتيرته، ولا نرجم بالغيب إن قلنا إنها ستزداد أكثر بعد الربيع العربي.

والإسلام في ورقة السيد علي، يوجب على المسلمين في كل نقاش أو حوار أن يسلكوا أحسن الطرق وأدناها إلى الأدب والمجاملة، وأن يلتزموا جادة العقل والمنطق السليم، بل وعليهم أن يفسحوا المجال لأهل الديانات للتعبير عن معتقداتهم، وفي هذا يقول المولى تبارك وتعالى مخاطبا الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم: «ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ» (النحل: 125). ويقول جل شأنه مخاطبا المؤمنين برسالة الإسلام: «وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آَمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ » (العنكبوت: 46).

هل استطاع المتحاورون في نهاية أعمال المؤتمر بلورة رسالة واضحة تؤكد أهمية الحوار، وتتخطى الاختلافات الثقافية والدينية التي تقف اليوم حاجزا بين الشرق والغرب، ولا أحد يعلم على وجه اليقين ما وراء ذلك الحاجز على الجانبين، وماذا حال انهياره بشكل سلبي لا قدر الله؟

المقطوع له أن هناك توصيات خرج بها المجتمعون كنقاط مشتركة، وهي باختصار غير مخل: التأكيد على أن المسلمين والمسيحيين لهم إيمان واحد بخالق واحد يجمعهم معا. والإشارة إلى أن المفاهيم المختلفة عن الخالق لا يجب أن تكون مصدرا لغياب الثقة. ومحبة الله العميقة تدعونا لمحبة كل إنسان واحترام آرائه وحقوقه بصرف النظر عن معتقداته الدينية أو السياسية. ويتشارك المسيحيون والمسلمون بقيم أخلاقية مثل الرحمة والاهتمام بالضعفاء والاحترام المتبادل. والقيم الأساسية في الإسلام والمسيحية مصدر لإثراء المجتمعات. والاختلافات الدينية يجب أن تكون مصدر إثراء للحقوق الثقافية والسياسية والدينية للجميع. وحتمية تعزيز ثقافة المساواة والتفاهم الأفضل وتثمين قيم المواطنة.

هل يقيض هذا المؤتمر للمسلمين والمسيحيين في الشرق الأوسط بداية والغرب لاحقا أن يحيوا حياة النضج الإنساني والوعي اللاهوتي والفقهي والاختمار الروحي، مما ييسر لهم لاحقا النهوض لتجديد صياغات فذة من التعايش الواحد، عرفها التاريخ رغم كبوات الماضي، مما يهب الجميع قدرة على بلورة نضال مشترك يصون القيم الإنسانية السامية، وفي طليعتها الحرية، والعدالة، والمساواة، والأخوة؟

* كاتب مصري