مقاصد الشريعة وأصول النظرية الاجتماعية

رضوان السيد

TT

قال الماوردي (450هـ/1055م) في «أدب الدنيا والدين»: «الأدب أدبان، أدب شريعة وأدب سياسية. فأدب الشريعة ما أدّى الفرض، وأدب السياسة ما عمر الأرض». ثم تابع: «وكلاهما - أي الشريعة والسياسة - يرجع إلى العدل الذي به سلامة السلطان وعمارة البلدان - لأن من ترك الفرض فقد ظلم نفسه، ومن خرّب الأرض فقد ظلم غيره..». وهنا بيت القصيد، فالذي يدع الشريعة وفرائضها التعبدية إنما يظلم نفسه، أمّا الذي يدع السياسة أو العمل العامّ أو مسائل التدبير فإنه يظلم غيره، أي إنه يظلم الجماعة بعامّة، وذلك لأمرين اثنين: الإعراض عن ممارسة حقّه في المشاركة، وفي الوقت نفسه: التسبّب بأشكال مباشرة أو غير مباشرة في خراب الأرض، للإعراض عن ممارسة واجبه ومسؤولياته في العملية أيضا. وهذا فهم للعلائق بين الشريعة والجماعة والسياسة أو الشأن العام، يبدو أنه ما استقرّ في أخلاد الفقهاء والمتكلمين إلا في القرنين الرابع والخامس للهجرة، لأننا نجده قد ظهر مرة واحدة لدى كلّ من العامري والماوردي وأبي يعلى والجويني والراغب الأصفهاني والغزالي وآخرين، في هذه الحقبة بالذات، والواقعة تقريبا بين 350 و500 للهجرة. ولكي لا نكرّر ما سبق أن تحدثنا فيه كثيرا في الأعوام الثلاثة الأخيرة؛ فإننا نلخّص ذلك في النقاط التالية:

أولا: شهد القرنان الثاني والثالث صراعا كلاميا على المنظومة القيمية القرآنية تحت عنوانين: الإيمان والقدر. وقد قدّم المعتزلة مبدأ التنزيه وقيمة العدل؛ في حين قدّم أهل السنة مبدأ التوحيد وقيمة الرحمة. وخلال ذلك الصراع الذي استمرّ قرنا ونصف القرن(100 - 250هـ) تبلورت في الأذهان والوعي منظومة القيم القرآنية بالفعل، والتي تركّزت في: المساواة والكرامة والرحمة والعدل والتعارف والخير العام. وما كان الخلاف على أهمية هذه القيمة أو تلك، بل على القيمة التي ينبغي أن تردّ إليها القيم الأخرى، وكيف تؤثّر المنظومة بأصولها الكلامية أو اللاهوتية في الأخلاق والتصرفات. وقد بلغ من شراسة هذا النزاع الذي كان في الحقيقة نزاعا على علائق الدين بالمجتمع، وبالنخبة العالمة وبالسلطات على أنواعها، أن اتخذ طابعا نظريا ودوغمائيا، بحيث قيل إنّ التنزيه أو التوحيد هو المرجع، كما أدخل مبحث القيم في مباحث «الأسماء والأحكام» الدينية. إنما ترتبت على هذا النزاع من جهة أخرى نتيجتان بنّاءتان: ظهور مبحث مفهوم العقل وماهيته ووظائفه بالتوازي مع مباحث مفهوم الدين وقيمه ووظائفه - وظهور مبحث الحسن والقبح مترتبا على مبحثي الدين والعقل.

ثانيا: لا نعرف بالقطع متى ظهر مبحث مفهوم العقل، إنما وصلتنا كتابات فيه من النصف الأول من القرن الثالث الهجري، من جانب الكندي الفيلسوف (252هـ)، والمحاسبي (243هـ) المفكر والزاهد. يقول الكندي - متأثرا في ذلك بالترجمات عن اليونانية، وبالجدالات الكلامية - إنّ العقل جوهر فرد، وإنه صادر عن العقل الأول أو العقل الفعّال. ويقول المحاسبي إنّ العقل غريزة أو نور، وإنه يقوى ويزيد بالتجارب والعلم والحلم. وإلى مثل قول الكندي ذهب سائر الفلاسفة الإسلاميين ومقلديهم. وإلى مثل قول المحاسبي ذهب الفقهاء وأكثر المتكلمين. وقد أدّى ذلك من الناحية النظرية إلى ظهور «دين العقل» عند الفلاسفة على اختلاف تياراتهم، وظهور «عقل الدين» لدى الفقهاء وأكثر المتكلمين. ومن الناحية العملية ظهر افتراق شاسع في الرؤية الاجتماعية/ السياسية بين الفلاسفة والمفكرين الأخلاقيين المتفلْسفين من جهة، والفقهاء وبعض المتكلمين من جهة ثانية. فالطرفان يعطيان العقل وظائف تدبيرية، سواء لجهة سيطرته على فيزيقا البدن أو الشبكة الاجتماعية والسلطات الأخرى. بيد أنّ الاختلاف في مفهوم العقل أدى إلى الاختلاف في فهم ممارسته لطرائقه أو وظائفه التدبيرية. فالعقل لدى الفلاسفة ومشايعيهم صادر عن العقل الفعّال، ولذا فهو يملك سلطات عليا ومستقلة أو قائمة بذاتها دونما حاجة إلى شرعية أخرى من أي نوع. وهو لا يحضر لدى سائر الناس على نفس القدر أو الدرجة، لأنّ البشر في نظر أهل الفلسفة أو الفلسفات الكلاسيكية، ليسوا أفرادا عقلاء وراشدين؛ بل هم فئات أو طبقات، وفي كل فئة أو طبقة يحضر العقل بقدر معيّن، إلى أن يغيب تماما لدى العبيد والأرقّاء. بينما يحضر لدى الطبقة العليا أو المختارة فردا أو نوعا بالقدر الأعلى. والقدر الأعلى هذا لدى الحكماء هو الذي يملك حقّ وواجب السطوة والسيطرة. وهذا معنى قول الفارابي (339هـ): يكون الرئيس ثم تكون المدينة وأجزاؤها. فالمدينة الفاضلة التي تتحقق لفئاتها السعادة هي التي يسودها بل ينشئها الفلاسفة والحكماء بمقتضى الطبيعة العاقلة والخالصة والتي يملكونها دون غيرهم. وهكذا وعند الوصول للتأثير والتدبير على المستوى الاجتماعي والسياسي؛ فإنّ الدين يكون قد تنزّل على هؤلاء الحكماء العارفين فيسيطر دين العقل بهذا المعنى المؤسْلم. أو يتوازى الدين والعقل مع بقاء السيطرة للعقل - وتظل النتيجة واحدة في التأثير والتدبير. أمّا لدى الفقهاء وبعض المتكلمين الذين يقولون - تبعا للمحاسبي - إنّ العقل غريزة؛ فإنه يكون - مع الاحتفاظ بالوظائف التدبيرية - قوة من قوى النفس الإنسانية، والناس يتساوون فيه، وبالتالي فإنه شائع فيهم، فتشيع بذلك السلطة على المستويين الاجتماعي والسياسي، ويتساوى الناس فيها حقا ومسؤولية. وبذلك تتبلور رؤية أخرى للمجتمع والسلطات فيه - ويظهر بذلك «عقل الدين» أو كما سمّاه المحاسبي: العقل عن الله، (وهي عملية وليست مبدأ)، بحيث يمارس التقدير والتدبير من طريق الجماعة التي تقدر وتدبّر وتضبط وتنضبط من خلال منظومة القيم التي طرحها القرآن في «رؤيته للعالم» إذا صح التعبير.

ثالثا: الرؤية القيمية والنظرية والاجتماعية: ما كان ظهور النظرية الاجتماعية والسياسية الإسلامية سهلا. فنحن لا نجد تبلورا واكتمالا لها إلا في القرنين الرابع والخامس للهجرة لدى العامري (381هـ) والماوردي (450هـ) والجويني (478هـ) وآخرين وصولا للغزالي. وتتمثل الصعوبات التي أعاقت التبلور في عدة عوامل: الأول: الصراع على منظومة القيم الحاكمة في المجتمع بين المتكلمين، بحيث تحول النزاع إلى عقائديات تتعلق بالكفر والإيمان كما سبق الذكر. واحتاج الأمر إلى بعض الوقت لتنتصر رؤية المحاسبي في اعتبار العقل غريزة، والخروج من طريق ذلك إلى المدى الاجتماعي والسياسي، أي جعل المسألة في المدى الإنساني، أو العودة للقول بمركزية الإنسان المؤمن وتعقّله للشريعة وقيمها. والثاني أنّ هذه العملية ما أدركت باعتبارها كذلك إلا عندما حدث أمران: التحرر من الجمود المريح للرؤية الفلسفية للعقل - وانتقال الملفّ الاجتماعي والسياسي من أيدي المتكلمين العقائديين إلى أيدي الفقهاء. فحتى في القرن الخامس الهجري، كان الجويني (478هـ) ما يزال يشكو من أنّ مبحث الإمامة ما يزال في أيدي المتكلمين وليس الفقهاء. والعامل الثالث مؤسسة الخلافة نفسها، والتي كانت طريقة ظهورها عاملا إيجابيا في فتح الطريق لتبلْور نظرية سياسية جديدة. فقد ظهرت من طريق الشورى والبيعة. لكنّ تطورات النقاش في مرجعيتها، ووقائع استمرارها؛ كلّ ذلك تحول إلى قيد على فهم مسائل التاريخ والشرعية والمرجعية. ولنضرب مثلا بالنقاش حول أصل الإمامة أو السلطة السياسية بين الماوردي (450هـ)، والجويني (478هـ). فالماوردي المتمسك بالتقليد الحي وبالشرعية التاريخية يؤسّس الإمامة على العقل والنقل معا. بينما يذهب الجويني إلى أنه لا تأسيس للإمامة إلا على الإجماع تاريخا وحاضرا، لأنّ السلطة للجماعة، والإمام وكيل عنها بالشروط المعروفة. وهي ليست عقلية لأنها قائمة على الشورى واختيار الجماعة، كما أنها ليست نقلية لأنّ النقل يقتضي اليقين، وليس هناك نصّ ديني يقيني بشأنها.

ولنعد إلى الماوردي ومقولته في أنّ الشريعة معنية بأداء الفرض، والسياسة معنية بإعمار الأرض. فالشريعة تتعلق بالفرائض التعبدية الفردية والحسْبية، بينما تتعلق السياسة بالأعمال التدبيرية - أمّا الناظم بينهما فهو منظومة القيم القرآنية، التي بدأ الفقهاء وبعض المتكلمين والأصوليين يتحدثون عنها منذ القرن الثالث تحت عنوان علل الشرائع أو محاسنها أو مصالحها أو ضرورياتها وصولا للاستقرار على مصطلح مقاصد الشريعة للتعبير عن أمرين: مركزية الإنسان في المنظومة الكونية، واشتراع الدين لصون ضرورياته، ومراعاة حاجاته ووسائل تقدمه وازدهاره. وقد درس الماوردي في باب «أدب النفس» من كتابه: «أدب الدنيا والدين» كيف تسهم العبادات في تزكية النفوس وتطهيرها، بسبب قيامها على الطاعة لله، وبسبب الإصرار على أن تكون تلك العبادات دافعا لتهذيب النفوس، ونشر الودّ والخير بين الناس، من مثل الصلاة والزكاة والصوم. أمّا الفلسفة الاجتماعية والسياسية فإنها تقوم في الإسلام على المنظومة القيمية المتمثلة في قيمة المساواة، وقيمة الكرامة، وقيمة الرحمة، وقيمة العدل، وقيمة التعارف، وقيمة الخير العام. والالتزام العام بهذه القيم من جانب المؤمنين أفرادا وجماعات تكون نتيجته السير في تحقيق المصالح الضرورية لبقاء مجتمع المؤمنين وازدهاره. وقد ترجم الماوردي منظومة القيم القرآنية ومآلات صلاح حال الإنسان في مجتمع المؤمنين، بستة مرتكزات أو شؤون أساسية هي: الدين المتبع، والسلطان القاهر، والعدل الشامل، والأمن العام، والخصب الدارّ، والأمل الفسيح. وما ذكره الماوردي كرره معاصروه وبخاصة العامري والراغب الأصفهاني بعبارات أخرى مقاربة - وإن يكن هناك تفاوت في طرائق المعالجة. فالماوردي يضع نظرية المصالح أو المجتمع الصالح في كتاب «أدب الدنيا والدين»، بينما يقرأ النظرية السياسية في كتابه: «الأحكام السلطانية». ويقتصر العامري (381هـ) على عرض النظرية في «الإعلام بمناقب الإسلام»، وكذلك الراغب الأصفهاني في «الذريعة إلى مكارم الشريعة»، وأبو زيد الدبّوسي في: «الأمد الأقصى». في حين يذهب إمام الحرمين الجويني مذهبا آخر إذ يعرض النظرية السياسية في «غياث الأمم» بينما يدخل للمرة الأولى الضروريات الخمس (النفس والدين والعقل والنسل والملك) في كتابه في أصول الفقه بعنوان: البرهان. وهذا الأمر نفسه يقوم به الغزالي(505هـ) الذي يعرض النظرية الدينية والاجتماعية والسياسية في «إحياء علوم الدين»، بينما يذكر الضروريات الخمس في كتابه الأول في أصول الفقه: «المنخول من تعليقات الأصول». ويصل بنا عز الدين ابن عبد السلام (665هـ) إلى مرحلة جديدة حين يختصّ المصالح أو الضروريات بكتاب هو: «قواعد الأحكام في مصالح الأنام»، ثم يعرض النظرية الاجتماعية القائمة على منظومة القيم القرآنية في كتابه المسمّى: «شجرة المعارف والأحوال». ويبلغ هذا النهج الذروة في المرحلة الكلاسيكية كما هو معروف بكتاب بل كتابا الشاطبي (790هـ)، الأول هو «الموافقات في مقاصد الشريعة»، وهو مشهور، والثاني «الاعتصام» وهو مختص بعرض الجوانب الدينية التعبدية والحبية لقسم «أداء الفرض» من النظرية.