جدلية العلاقة بين الشريعة والدستور في التجربة الإسلامية

TT

شكّل وصول الإسلاميين إلى السلطة في دول الربيع العربي علامة فارقة، ليس فقط في مسار التحول الديمقراطي؛ وإنما أيضا في مسيرة ومستقبل حركات الإسلام السياسي بوجهٍ عام، والسلفية منها بصفة خاصة. ففجأة - ومن دون مقدمات تذكر - وجد الإسلاميون أنفسهم إزاء تحديات جمة تتعلق بإدارة الشأن العام بعد أن تخندقوا طويلا في موقع المعارضة متخففين من مسؤولية تطبيق البرامج التي وضعوها بأنفسهم!! وقد دفع ذلك العديد من الباحثين الغربيين إلى إطلاق مصطلح «ما بعد الإسلام السياسي»، على هذه الحقبة في إشارة إلى دخولنا مرحلة جديدة تختلف في بنيتها عن مرحلة الإسلام السياسي التقليدي (بأشكاله المعروفة)، وما يصاحب ذلك من أفول أنماط آليات الصراع على السلطة ليحل مكانها نمط جديد يقوم على تسلم السلطة بالفعل!! ضمن هذا السياق أقام المعهد الألماني للأبحاث الشرقية ورشة عمل بالقاهرة السبت الماضي 9 يونيو (حزيران) من أجل معالجة سوء الفهم المتعلق بجدلية العلاقة بين الشريعة من جهة والدستور من جهة أخرى. صحيح أن سوء الفهم هذا ناتج في الأساس عن بقاء المعضلات السياسية التاريخية من دون معالجة جادة وهادفة وموضوعية، لكن صحيح أيضا أنه ناشئ عن التباس أكبر في فهم ورؤية الإسلاميين للنظام السياسي وركائز مشروعه لإقامة المجتمع وعمارة الدنيا!! ومن هنا استهدفت الورشة طرح تساؤل أمام الإسلاميين - بمختلف أطيافهم - ودعاة الدستور - بمختلف توجهاتهم - حول قدرة وإرادة وتطابق الفكرة الدستورية مع الشريعة الإسلامية: هل الشريعة مصدر موضوعي أو شكلي في الدستور؟!.. وما هو دور الشريعة في إنشاء مبادئ قانونية للدولة والنظام السياسي؟.. وهل ثمة إمكانية للتعايش بين الشريعة والفكر الدستوري نظريا وعمليا؟! تاريخيا يمكن القول: إن مواقف التيارات الإسلامية - السلفية على وجه الخصوص - من الديمقراطية يبدو دائما وأبدا كما لو أنه بؤرة موبوءة ومسكونة بالتباسات شتى! فعادة ما يتم النظر إليها، ليس باعتبارها نظام حكم رشيد يقوم على الحرية والمشاركة الانتخابية والتعددية الحزبية مع ضمان حق الأقلية؛ وإنما كرمز لهيمنة غربية - صهيونية تحاول إبعاد المسلمين عن دينهم وتروم تفكيك بنية العالم الإسلامي ونهب موارده!! ونتيجة لذلك؛ فإن كثيرين قد استثمروا سوء الظن لدى المسلمين في الدستور الغربي وتجربته لتحقيق أهداف سياسية غير معلنة، ولا يزال هذا المنحى واضحا، وإن بصورة أقل إلى الآن! فالسلطان العثماني سليم الثالث تم عزله في مستهل القرن قبل الماضي، تحديدا في سنة 1807م، استنادا لفتوى المفتي العثماني عطا الله أفندي والتي جاء فيها أن كل سلطان يُدْخِلُ نظامات الإفرنج وعوائدهم، ويجبر الرعية على اتباعها لا يكونُ صالحا للمُلك!! وبالمثل استخدم السلاطين الحجة ذاتها في سياق قمع قوى المعارضة الداخلية!! فحين أراد الشاه الإيراني محمد علي بن مظفر الدين القاجاري توجيه سهامه لحركة القوى الوطنية المناهضة لحكمه في البلاد سنة 1907، لم يجد أفضل من تلك الذريعة لفض التفاف الجماهير حولها، فأشاع أن النظام الدّستوري الذي تدعو إليه الحركة يخالف الإسلام جملة وتفصيلا، وأن أولئك الذين نقلوا أنظمة الغرب الكافر ألغوا في المقابل الخلافة الإسلامية ليُقيموا بدلا منها نظاما جمهوريا!! وحين دعت الحركة اليمنية المعارضة لحكم الإمام يحيى، إبان ثورة 1948، إلى إقامة «الحكم الدستوري»، ما كان من الإمام أحمد الشامي إلا أن بعث برسالة استنهاض واستثارة لشيوخ ونقباء القبائل اليمنية جاء فيها «هل يرضيكم قتل الإمام وأولاده وأن يحل محل شريعة الله حُكمُ القانون، وأن يستبدل بالقرآن الدستور، ويُباع اليمن للنصارى؟!». وحتى عندما ألغيت الخلافة الإسلامية بالفعل على يد أتاتورك حاول الشاه رضا خان أن يثبّت دَعائم ملكه مُستخدما الذريعة نفسها!! يتحصل مما سبق أن كلمة الدستور كانت تقع في التضاد من القرآن الكريم باعتباره دستور المسلمين الأوحد، وأنها قد ساءت سمعتها لدرجة أن البعض قصد بها «ألا يكون للمرء بيت ولا دين ولا زوجة»!! وكان اليمنيون يهتفون بحياة الإمام والموت للدستوريين!! ويحكي الشامي في كتابه «رياح التغيير في اليمن» قصة طريفة مؤداها أن كبير السجانين أتى إلى المحبوسين بتهمة الدستور مبشرا وقائلا «أبشروا بالفرح، سيُطلقكم الإمامُ جميعا بعدما ألقى القبض على (الدستور وزوجته) في بيت الفقيه»!! وإن دلت هذه الحكاية على شيء، وقد وقعت بالفعل، فإنها تدل على سوء الانطباع الناشئ عن كلمة «دستور» في المخيال الإسلامي والذاكرة الإسلامية، وكيف أن رفضه كان يعبر في الأساس عن رفض قاطع للمرجعيةِ الغربية وإحلالها محل المرجعية الإسلامية!! ويبقى القول: إن الأهم من وصول الإسلاميين - أو غيرهم إلى السلطة - هو أن تكون الأخيرة خاضعة في مبناها لمبدأ التداول، بما يجعل وصول طرف إليها ليس نهاية التاريخ، وبما يرسمُ للأغلبية حدودها، ويحفظ للأقلية حقوقها. بمعنى آخر، أن يعترف الإسلاميون بقواعد اللعبة الديمقراطية ويرضخوا لأحكامها، وأن يكف المتشددون منهم عن تهديد مكتسبات الدولة المدنية، فضلا عن تخويف الأقليات الدينية!! على أن التجربة القصيرة تكشف لنا أن السلفيين لا يزالون متخندقين في حالتهم النمطية التقليدية إذ يمارسون السياسة وفقا لغاياتها ومآلاتها وليس وفقا لوظائفها وأدواتها!! ومن ثم أصبح العمل السياسي لديهم مجرد أداة لتحقيق أهداف أخرى (تطبيق الشريعة)، ووسيلة لتحقيق غايات أخرى (إقامة الخلافة)!! ومن هنا تبرز مسألة الضمانات الواجب توافرها حتى يطمئن المجتمع - والأقليات الدينية بصفة خاصة - إلى أن الإسلاميين لن ينقلبوا على الديمقراطية بمجرد وصولهم إلى السلطة عبر آلياتها الشرعية.

وفي السياق ذاته، تبرز مسألة تتعلق بالانتقائية الشديدة التي يقوم بها بعض الإسلاميين، خاصة ذوي التوجهات السلفية، حيث لا يقبلون من الديمقراطية سوى وجهها الإجرائي (الانتخابات التشريعية) فيما يعلنون رفضهم لفلسفة الديمقراطية المستندة إلى قيمة «الحرية» بحجة أنها لا تخالف الشريعة فحسب؛ وإنما تعتبر «كفرا بواحا»!! وقد دفع ذلك بعض الباحثين إلى إطلاق مصطلح «ديمقراطية المحارم الورقية» في إشارة إلى استعداد السلفيين للاعتراف بالديمقراطية في جانبها الإجرائي متى أوصلتهم إلى السلطة، ومتى وصلوا إليها بالفعل ألقوا بها في سلة المهملات وانقلبوا عليها!! في ضوء ما تقدم، سعت ورشة العمل إلى معالجة إشكالية العلاقة الجدلية بين الشريعة والدستور، في محاولة للإجابة عن بعض التساؤلات المهمة وفي مقدمتها: هل يعد الدين في الدولة الإسلامية مصدرا للقيم أم مصدرا للسلطة؟! وكيفَ يكونُ مصدرا للقانون من دون أن يكون مصدرا للسلطة؟! وكيف يمكن فهم القول بأن شرعيةَ السلطة في الدولة الإسلامية مرهونة في قيامها واستمرارها بالتزامها بالعمل على إعمال القطاع القانوني الإسلامي في جملته، دونما تمييز، وأن سيادة الشريعة وخضوع الجميع لها، حكاما ومحكومين، من شأنِهِما أن يُنصّبا قانونا أعلَى فوقَ القانون؟! هل الأمر متعلق بتأسيس هيئة فقهية تشريعية كالتي طالبَ بها «الإخوان المسلمون» سابقا، والتي تتشابه مع جهاز تشخيص مصلحة النظام في إيران؟! وكيف يمكن للتشريع أن يظل - في جملته وتفصيله - رهنا باجتهادات بعض الفقهاء الدينيين؟! وما المقصود بالشريعة المراد تطبيقها: شريعةُ الأحكام أم شريعة المقاصد؟! بمعنى آخر: ما هي الشريعة المقصودة المترتبة بشكل مباشر على اعتماد «الإسلام هو الحل» كمبدأ أساسي للدولة؟! وهل «الحل الإسلامي» - والحالة هذه - واحد من عدة بدائل/ حلول، أم أنه يمثل تجسيدا لكل الحلول الأخرى؟ وهل سيتم، حال اعتماده حلا أوحد، تصْنيف الاختلاف بينه وبين الحلول الأخرى على أساس ديني أم سياسي؟! وما هي نتائج الأخذ بالخيار الأول على مستوى كل من المواطنة، والأقباط، والمرأة، والعلاقات الدولية؟! في الجلسة الأولى «الدين والدستور والسلطة» تحدث كل من الدكتور حسام أبو البخاري، المتحدث الرسمي للتيار الإسلامي العام، والدكتور عبد الحي عزب، أستاذ الشريعة بجامعة الأزهر، عن موقع الدين في الدستور، فيما تولت الدكتورة هبة رؤوف عزت، أستاذة العلوم السياسية بجامعتي القاهرة والجامعة الأميركية، مهمة التعقيب على أوراق الجلسة. وفي الجلسة الثانية تحدث كل من الدكتور أحمد ممدوح سعد، رئيس قسم البحوث الشرعية بدار الإفتاء المصرية، والأستاذ إيهاب السيّد، المحامي بالنقض عضو جماعة الإخوان المسلمين، عن إشكالية الشريعة ومدنية الدولة، فيما تولى الدكتور علي ليلة، أستاذ علم الاجتماع، مهمة التعقيب على أوراق الجلسة. أخيرا تحدث في الجلسة الثالثة «الشريعة والدستور» كل من الأستاذ كمال زاخر، مؤسس جبهة العلمانيين الأقباط، والأستاذ هشام جعفر، الكاتب الإسلامي، عن إشكالية المرجعية التي تعول عليها حركات الإسلام السياسي في مطالبتها بضرورة تطبيق الشريعة الإسلامية: هل هي النص القرآني، أم التجربة السياسية التاريخية للأمة الإسلامية؟! وانعكاس ذلك على قضايا الأقباط بصفة خاصة، فيما تولى مهمة التعقيب على أوراق الجلسة الدكتور سيف عبد الفتاح، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، والدكتور محمد كمال الدين إمام، مستشار شيخ الأزهر وأستاذ القانون بجامعة الإسكندرية.

* كاتب مصري