«كاريتاس».. الجوع ليس قدرا محتوما على البشرية

TT

هل بات الجوع قدرا مقدورا في زمن منظور حول العالم؟ ربما يضحى هذا الأمر حقيقة إذا استمرت البشرية في أنانية بعضها وبراغماتية البعض الآخر، غير أن ما يدعو القلب للاطمئنان والنفس للأمان وجود قلوب مليئة بالمحبة وعقول مهمومة بآلام الآخر.

كم عدد الذين يعانون خطر المجاعة المحدقة بهم حول العالم؟ بحسب بيانات مؤسسة الفاو المنوط بها أمور الكون الغذائية، يتجاوزون الـ925 مليون شخص حول العالم، أي إنه قبل انقضاء العقد الحالي ربما يبلغون المليار نسمة، والمؤلم حتى البكاء في هذا السياق أن البشرية، بحسب «دانيل نيرنبيرغ » مديرة مشروع «تغذية الكوكب» في معهد وورلد واتش، تهدر ثلاثين في المائة من المواد الغذائية التي لديها.

هل كان للمؤسسات الدينية والإيمانية أن تقف مكتوفة الأيدي أمام هذا المشهد البعيد كل البعد عن روح الأديان؟

حتما لا، ولهذا كانت الدعوة التي أطلقتها مؤسسة «كاريتاس» الدولية، تحت عنوان «مستقبل خال من الجوع»، والمؤتمر الذي عقد في فيينا الأول والثاني من شهر يونيو (حزيران) الحالي. ما الهدف الرئيسي من تلك الدعوة وذلك المؤتمر؟ لعله حري بنا بادئ بدء أن نتساءل ماذا عن «كاريتاس»، ما هوايتها وإلام تهدف وأين توجد وتنتشر؟

تعنى كلمة (CARITAS) باللغة اللاتينية «المحبة.. التعاون.. المشاركة»، وتعود بدايات تأسيسها الأولى إلى القرن التاسع عشر وتحديدا سنة 1879، وقد كان المقر الأول لها سويسرا، وهدفها تنمية الإنسان وكل إنسان من دون تفرقة بسبب الدين أو الجنسية أو اللون. غير أن الانطلاقة الحديثة لها كانت في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وذلك عندما شاء البابا بيوس الثاني عشر، أن يعرب للعالم كله عن تضامن الكنيسة الكاثوليكية مع الأشخاص الذين آلمهم وشردهم النزاع المسلح وحرمهم من كل شيء. وقد فعل ذلك من خلال إنشاء وكالة تعنى بتنسيق جهود المنظمات الخيرية المنضوية تحت لواء الكنيسة الجامعة في مختلف أنحاء العالم، وسرعان ما بدأت هذه الهيئة تضطلع بدورها حول العالم من خلال ممارسة أعمال المحبة.

ما هدف مؤتمر «كاريتاس»؟ حتما، الوقوف على أسباب الجوع الذي يؤدي إلى وفاة طفل كل اثنتي عشرة ثانية حول الأرض وفضح الممارسات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي تقف حائلا دون وصول الإمدادات الغذائية إلى كل إنسان في قارات الأرض الست، ثم حث الإنسانية على مكافحة الفقر والجوع معا كأولوية أساسية وتخفيض عدد الجياع إلى النصف بحلول عام 2015. يقول قائل: «هل لمؤسسة خيرية من مقدرة على فعل ذلك كله بمفردها؟ بالقطع لا، لكن يكفي أنها تميط اللثام عن حالة اللاعدالة الغذائية التي يعيشها العالم.. كيف ذلك؟

الجواب يعود بنا إلى «دانييل نيرنبيرغ» المشار إليه سلفا، وإلى معهد وورلد واتش ومركز باريلا للغذاء والتغذية وكانا أصدرا في أوائل شهر مايو (أيار) الماضي تقريرا حمل عنوان «طعام كوكب الأرض في 2012»، وهدفه تسليط الضوء على التحديات التي تواجه الغذاء والنظام الزراعي حاليا، والفوائد المترتبة على جعل النظام أكثر استدامة وسهل الوصول إليه وعادلا.

أما عن خلاصة التقرير، فهي القول بوجود دول يفيض عنها ما تنتجه، وأخرى لا تجد ما يسد رمق مواطنيها لأسباب مناخية واقتصادية، أما اللاعدالة فتتمثل في أن الأولى وحفاظا على مستويات الأسعار ومدارات المنافسة العالمية فتفضل إهدار أو بالأصح إهلاك الفائض على أن يجد طريقه للأسواق فتنخفض أثمانه.

من خلاصة هذا التقرير يدرك المرء معنى ومبنى عدة تصريحات أطلقت على هامش مؤتمر «كاريتاس» الأخير في فيينا، ومنها قول كريستوف شويفر الأمين العام للبرامج الدولية في «كاريتاس» النمسا ومنسق المؤتمر: «إن منظمة (كاريتاس) مقتنعة بأن المستقبل الخالي من الجوع ليس حلما خياليا، بل إنه رؤية قريبة من الواقع، وما علينا سوى الكفاح من أجل تحقيقها».

في قلب مؤتمر «كاريتاس» هذا، عنّ لنا أن نسال أحد الآباء الذين عملوا من هذه المنظمة العالمية لأكثر من خمسة عقود، الأب هنري بولاد اليسوعي، عن إشكالية كثيرا ما تطرح حول علاقة المواليد والتضخم السكاني مع ظاهرة الجوع، وهل المجاعة محصلة طبيعية لازدياد السكان أم أننا أمام ظاهرة مثل السراب؟

في جوابه الذي يكذب هذه العلاقة الجدلية، يحيلنا الأب بولاد إلى النموذج الهندي وكيف أنه قبل ثلاثين عاما كان عدد قليل جدا منا يتصور أن الهند سوف يقدر لها ذات يوم أن تكتفي بنفسها على صعيد التغذية، نظرا إلى سير نموها الديموغرافي، غير أن الحال اليوم يشير إلى أن الهند الحالية لم تكتف بإدراك هذا الهدف فقط، بل أخذت أيضا تصدر من الذي يتبقى عن حاجاتها، أي من فائض إنتاجها، وهذا يبرهن على أن الإنسان إذا وضع في بيئة مناسبة فإنه يبدع في تقديم حلول غير تقليدية، وأولها في مواجهة خطر الجوع ورعب المجاعة.. ما الذي يمكن للمرء أن يستنتجه من مثل هذه الإحالة وذاك الرهان العملي؟

يستنتج - ولا شك - أن ضرع الأرض لم يجف، وأن الخالق لم يدر ظهره لخليقته، وأن الوسائل والموارد الموضوعة بتصرف العالم اليوم، بحسب رسالة الحبر الروماني بنديكتوس السادس عشر لمدير عام منظمة الفاو، يمكنها أن تؤمن غذاء كافيا لحاجات نمو الجميع.. لماذا إذن لا يمكن تفادي أن عددا من الأشخاص يعاني الجوع لأبعد الحدود؟

دوافع هذه الحالة، حيث يجتمع غالبا الوفر والقحط، متعددة، وفي مقدمتها الاستهلاك الذي لا يتوقف على الرغم من توافر كميات أقل من الأغذية، والتي تفرض تدنيا إجباريا في القدرة الغذائية للمناطق الأكثر فقرا من الكرة الأرضية.

هل يحيلنا هذا الحديث إلى قضية خطيرة جدا وربما كانت متلازمة مع قضية الجوع؟

«الأمن الغذائي»، تلك كلمة السر التي ترددت كثيرا في الأعوام الأخيرة، والمقصود بها يتجاوز في حقيقة الأمر توفير احتياجات الجوعى حول الأرض، إلى حالة الأمن الجيوسياسية وارتباطها بتوافر المواد الغذائية من عدمه، وأثر ذلك على الاستقرار السياسي أو الاضطراب والثورات حول العالم، وباختصار القول ما بات يعرف بحرب أو حروب الغذاء.

والشاهد أن مؤتمر «كاريتاس» في فيينا قد تنبه إلى هذه الإشكالية ولكنه لم يدخل في العمق منها، وإنما أشار إلى ضرورة أن تشكل قضية «الأمن الغذائي» محورا متقدما له الأولوية الرئيسية في مؤتمر الأمم المتحدة حول التنمية المستديمة، الذي سيعقد في ريو دي جانيرو الشهر الحالي أيضا، وبهدف تلافي آثار الظلم العالمي الناجم عن الجوع، وبنفس القدر تجنب الثورات والحروب التي مردها الرئيسي لقمة العيش كما شهدنا في العامين الأخيرين.. ماذا يعني ذلك؟

بتاريخ الخامس والعشرين من شهر أبريل (نيسان) 2011، نشرت مجلة «فورين بوليسي» الأميركية ذائعة الصيت تقريرا مطولا حول الغذاء، وما يمكن أن تسببه ارتفاعات أسعاره أو نقصه، وكذا اختفاؤه من الأسواق، من اضطرابات تتجاوز محنة المجاعة، بل تضاعفها إن شئنا الدقة. يقول التقرير إن ارتفاع أسعار الحبوب والمحاصيل حول العالم ناجم عن أسباب عدة، في مقدمتها التزايد المتسارع للسكان، وارتفاع درجات الحرارة الذي يفسد المحاصيل وجفاف آبار الري، وعليه فإن كل ليلة ينضم نحو 219 ألف شخص إضافي إلى مائدة العشاء العالمية، أي أولئك الذين ينتظرون المساعدات الغذائية الدولية، وذلك ما يجعل أزمة الغذاء في الأعوام القادمة حقيقية ويرجح أنها سوف تجلب معها المزيد من ثورات الخبز والسياسة، وقد كانت شعارات بعض ثورات الربيع العربي تحمل في مقدمتها حديث «العيش»، أي الخبز، جنبا إلى جنب بجانب الحرية والعدالة الاجتماعية، ولهذا تحذر المجلة الدولية «استعدوا أيها الفلاحون ووزراء الخارجية على حد سواء، لعصر جديد تتشكل فيه السياسة الدولية وفقا لندرة الغذاء».

هل انتشار ظاهرة الجوع مرشحة للتصاعد في الأعوام المقبلة؟ في شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، صرح باباتوندي أو سواتايمهين، المدير التنفيذي لصندوق الأمم المتحدة للسكان، لوكالة «إنتربريس سيرفس»، بالقول إنه بمعدل النمو الحالي يقدر أن يبلغ عدد سكان العالم تسعة مليارات نسمة بحلول عام 2050، و10 مليارات بحلول عام 2100، وعليه فقد نبه إلى أزمات الغذاء والماء والهجرة والأراضي والنزاعات التي يجب أن يتم التعامل معها وبجدية تامة، باعتبار أن تعداد سكان الأرض لا يزال يتنامى. هل كانت تلك الأرقام بعيدة عن المجتمعين في مؤتمر «كاريتاس» بفيينا من سلطات عامة أوروبية ورجال دين وأكاديميين وصحافيين وممثلين للمجتمع المدني من جميع أنحاء العالم؟

بالطبع لا، ولهذا فإن الحوارات التي جرت حملت على معضلة التفسير المغلوط للقيم القائمة عليها اليوم العلاقات الدولية - قيم الاستهلاك النهم الذي لا يشبع، وقيم المنافسة عديمة الرحمة، وصراعات الشركات العابرة للقارات، والسباق الحثيث على الأموال المادية، وفي هذه جميعها يتناسى المتبارون الطبيعة الحقيقية للإنسان وتطلعاته العميقة، والنتيجة للأسف عدم قدرة الكثيرين في أخذ حاجات الفقراء والجوعى على عاتقهم بتفهمها وبإنكار كرامتهم القابلة للتقييد.

نبه مؤتمر «كاريتاس» - ولا شك - إلى أبعاد الجريمة التي لا محكمة تعقد لمحاكمة الجناة أمامها، فالمتسببون في الجوع حول الأرض لا توقفهم شرطة ولا يدينهم أو يجرمهم قانون وضعي، لكن تبقى النواميس الإلهية فوق الشرائع الوضعية ناقوسا يدق منذرا ومحذرا من الأسوأ الذي لم يأت بعد.. هل العالم الجائع أمام خدعة كبرى من الدول المتقدمة؟

لعل ما يترقبه العالم في أيامنا، ليس هو النقص في الإنتاج، بل الزيادة فيه، لا سيما إذا طبقت أساليب الثورة التكنولوجية في الإنتاج والتضاعف الكرومسومي من حيث الحجم والعدد، بل الزيادة فيه، وإن كنا لا ننتج المزيد فليس لأننا لا نستطيعه بل إننا لا نريده، فالإدارة الأميركية على غرار الكثير من الحكومات حيال فيض الهراء بالحبوب تمنع المزارعين عن الإنتاج لئلا يُسقط ذلك الأسعار ويخل بالمراتب الاقتصادية العولمية المتوحشة لها. المشكلة ليست على مستوى الإنتاج، بل على مستوى التوزيع، ولهذا فإن مشكلة التغذية وقبل كل شيء مشكلة إنسانية وسياسية، وفي إمكاننا حلها إن أردنا.

هناك من الأراضي ما يكفي الجميع، وهناك من الغذاء ما يكفي الجميع، ولكن ما دام الناس يضعون الربح فوق الإنسان، سنصل دائما إلى معادلة غير متزنة، تضخم في الإنتاج هنا، ونقص في التغذية هناك، هذا أمر لا يصدق في قرن العقول الإلكترونية والأسفار الفضائية.

سبب الجوع وانتشار المجاعة ليس الانفجار السكاني ولا ضيق الأرض أو جفاف ضرعها، بل انفجار الأنانية ويوم نصل إلى مراقبة الأنانية وتقييدها، وإلى إعادة النظر بعمق في حالة اللاعدالة القائمة.

* كاتب مصري