خلائف الحضارات.. وجفاف الأرض

TT

كيف وجد الجفاف والأرض أكثرها تغطيها المياه؟.. لماذا توجد الصحارى الظامئة ونسبة مياه الأرض إلى اليابسة هي أكثر من سبعين%؟.. هذان سؤالان من الأسئلة المحيرة التي كانت تواجه الإنسان في بحثه عن أهم سبب لبقائه على الأرض.. الماء.. ويقول العلماء الماديون: إنه يمكن تتبع أثر بحث الإنسان عن سبب الحياة هذا حتى بداية عمر البشرية منذ اثني عشر ألف سنة وهي مدة ضئيلة جدا لو قورنت بعمر الأرض التي يعتقد علماء الجيولوجيا أنه لا يقل عن ستة وأربعين ألف مليون سنة.. وتبدأ القصة منذ كان أكثر الجزء الشمالي من الأرض مغطى بطبقة من الثلوج الكثيفة وقد بدأت في الذوبان حتى لم يبق منها سوى مساحات محدودة جدا تمثل اليوم جزءا ضئيلا من تلك الثلوج التي كانت تغطي وجه الأرض مثل ثلاجة أيسلندا. يقول عالم الجيولوجيا ايان ستيوارت: إن الجفاف الذي نجده اليوم في مساحات واسعة من الأرض ومنها منطقة الشرق الأوسط سببه الثلوج الهائلة التي امتصت رطوبة الأرض أثناء ذوبانها.

وليس غريبا أن لا نجد كلمة الثلج في القرآن الكريم، وقد أنزل في بيئة الصحراء، ولكن الملاحظ أن لا نجد كلمة الجفاف فيه، بل نجد نتائجه المتمثلة في همود الأرض وخشوعها. ويربط الكتاب الذي لا ريب فيه بين معنى الخشوع والجفاف بشكل مؤثر فيقول: «وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» (فصلت: 39) إنه ربط إعجازي يثير في النفس آفاقا لا حد لها لأنه يذكرها بحاجتها إلى الخلاق الذي وحده عنده مفاتح الغيب والرزق، وإليه تلجأ الأرض فتخشع، ومن عليها بانتظار الماء، فتهتز وتربو حين يسقط. والاهتزاز والربو حين يأتي المطر بعد همود الأرض كما في سورة الحج هو تعبير يرمز إلى الحياة والنبات بعكس الجفاف الذي هو رمز للموت والفناء. والموت والحياة وردا في القرآن معرفين مجردين مرة واحدة فقط في سورة الملك لبيان أن سبب خلقهما هو ابتلاء الإنسان كي يحسن عمله في مرضاة الله، وبحثا عن الحياة وعن أسبابها.

والجفاف بحد ذاته هو الذي أدى بالإنسان الأول إلى أن يبحث عن وسائل استغلال المياه من أجل الحياة. إذ إنه بعد أن كان يعتمد على الصيد وجمع الطعام فقد أدرك أن سهم الصيد لا يقارن بمعول الفلاحة من حيث إنتاجية الطعام، رغم أن الجهد المبذول في الصيد يفوق جهد الزراعة بكثير. فتحول الإنسان الذي كان صيادا في الأصل إلى فلاح يزرع الأرض ويجمع الثمار، وبهذا تركزت الحياة في أماكن كثرة المياه مثل مهد الحضارات؛ عراق الرافدين ومصر النيل.. وأوجدت حضارة الماء أبعادا جديدة في شخصية الإنسان وفي سياسته واقتصاده. وكانت الأنهار من أهم أسباب ازدهار الحضارات الأولى على نهري دجلة والفرات والنيل، والهند القديمة على نهر السند، وفي الصين على ضفاف النهر الأصفر. ورغم ما يظنه الناس اليوم خطأ أن تلك الحضارات كانت بدائية إلا أن الاكتشافات التاريخية الحديثة تكاد تجمع على أنها كانت حضارات متوازنة اقتصاديا وبيئيا لو قورنت بحضارتنا المعاصرة المدمرة التي أخطأت كل الخطأ باتجاهها نحو المادية الطاغية، فردية كانت أو جماعية. ويقدم البروفسور ستيوارت مثالا من تاريخ الفراعنة يعكس فيه مدى تطور تلك الحضارات يتجلى في قدرتها على الموازنة الاقتصادية الدقيقة بين ما ينتجه الفرد وما يجب أن يدفعه للدولة من ضريبة عادلة على الغلة.. المثال يأتي في ابتكار مهندسي الفراعنة لأنفاق صغيرة تتصل من طرف بالنيل وفي طرفها الآخر يوضع عمود عليه خطوط لقياس مقدار ارتفاع الماء في النهر. وهي طريقة بسيطة في ظاهرها ولكنها عظيمة في قدرتها على قياس ومعرفة منسوب مياه النيل وما تنتجه الأرض سنويا، وبالتالي فرض الضرائب المناسبة. وكانت كل هذه الحضارات تستخدم الإنسان لخدمة الإنسان إلا أن نقطة ضعف هذه الحضارات رغم ضرورة مبدأ خدمة الإنسان للمجتمع تأتي من أنها كانت تحول خدمة الإنسان لمجتمعه إلى استغلال يمارسه القوي على الضعيف كما فعل الفراعنة حين سخروا الملايين من الناس أثناء بنائهم للأهرام. ولهذا فقد جاء الإسلام ليصحح مبدأ استغلال الإنسان للإنسان بمبدأ أمانة الإنسان على الأرض لا لخدمة طائفة أو مادة، بل طاعة الله الذي ابتلى الخلق بخدمة خلقه إذ يقول: «وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ» (الأنعام: 165).

ولا شك أن التاريخ يخبرنا بأن هذا المبدأ أيضا قد يستغل باسم الإسلام.. إلا أن المبدأ يبقى هو المهم، لأنه يبقى مؤثرا على نهج الراعي والرعية المسلمين طالما بقي شرع الأمة ومنهج حياتها مبنيا على الإسلام. وتعتبر مبادئ توزيع المياه في الإسلام معلما مهما في استنتاج المقصد الأساسي من عموم التشريع الإسلامي الذي يهدف إلى خدمة كل الخلق مدنيهم وباديهم ووحشهم وطيرهم وحاضرهم ومستقبلهم. وتقسم شريعة الإسلام المياه إلى ماء محرز يمتلكه الأفراد وماء عام تجده في العيون والأنهار العامة التي يشترك فيها الناس كشراكتهم في الكلأ والنار، أما حقوق موارد المياه فقد نظمتها شريعة الإسلام تنظيما رائعا يقوم على مصلحة الحياة قبل المادة والضعيف قبل القوي والمحكوم قبل الحاكم، فحق الشرب والشفة جعلت للحياة، وحق المجرى والمسيل تقصد تنظيم استخدام الماء في سقي الأراضي وزرعها.. ونظمت شريعة الإسلام الأحكام العامة للشرب والانتفاع بالمياه بطريقة أقل ما يقال عنها إنها عادلة بيئيا واقتصاديا، ومن أجمل تلك الأحكام إلزام الحاكم بالمحافظة على حافة البئر والعين والنهر العام ومراقبة الخاص منها وجبر المالك على تلك المحافظة إن قصر فيها. ولم تكن الأنهار هي مصدر المياه الوحيد للماء كما في قوله تعالى: «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ» (الزمر: 21) وما أدق وكم هو معجز قوله تعالى: «فسلكه» فكأن ينابيع الأرض مرتبطة بمسلك واحد يشبه أنهار ما تحت الأرض. التي اكتشفها الإنسان منذ القدم ووجد فيها المياه الجوفية في أعماق الصحراء فحفر القنوات لاستغلال ما تبقى من مياه تجمعت في أعماق الأرض منذ أن كانت كل الصحارى بحارا مليئة بالمياه منذ آلاف السنين. وتتجلى عناية المسلمين بخلافتهم للبيئة بما أبدعوه في تلك القنوات التي كانت تنقل الماء تحت الأرض وعبر الصحارى فتنقله من مكان تجمعه إلى حيث يحتاجه الإنسان فتمنع تبخره حتى يصل المدن والحواضر فيهتز به الإنسان ويربو معه الزرع والضرع. وحتى اليوم لا يزال بعض هذه القنوات قائما عامرا عاملا نافعا كأنه شيد بالأمس.. يحار فيها العلماء وفي قدرة الإنسان على إبداعها بما كانوا يمتلكونه من تكنولوجيا محدودة. ومن أمثلة عيون هذه القنوات عين زبيدة في مكة المكرمة التي بنتها السيدة زبيدة زوجة الخليفة هارون الرشيد رحمهما الله لما علمت حاجة مكة المكرمة وحجاج البيت إلى المياه نتيجة جفاف مياه الآبار فبذلت أموالا طائلة وجهودا لا توصف حتى أنجزتها.. ومما يثلج الصدر أن نجد اليوم في جامعة الملك عبد العزيز بجدة وحدة علمية رائعة تختص بأبحاث إعادة إعمار عين زبيدة والمياه الجوفية.

وفي ختام حديثي عن الحضارات والجفاف والماء لا بد لي أن أشير إلى الجفاف المدمر الذي يحل اليوم بمهد الحضارات نتيجة إحجام الإنسان الذي استخلفه الله عليها عن رعايتها وحماية بيئتها بسبب السياسات التي اهتمت بخارج حدود العراق قبل أرضه وفضلت إرضاء الأغراب فأعطتهم الماء قبل فقراء العراق الذين دمرت قراهم ونفقت ماشيتهم بعد أن أصبحت بيئتها غورا إذ انقطع الماء عنها؟.. ما أقوله عن هذا الخراب هو ليس من نسج الخيال بل تؤكده المنظمات البيئية وتقارير مؤسسة ناسا الفضائية وتدعمها أنظمه جريس للأقمار الصناعية. إنه جفاف.. ولكن من نوع آخر.

* أستاذ الدراسات الإسلامية في جامعة ويلز - المملكة المتحدة