مبحث النفس في فلسفة ابن باجة

محمد حلمي عبد الوهاب

TT

في مقالنا هذا نعاود الحديث حول مبحث النفس في فلسفة ابن باجة، استكمالا لمقالنا قبل الأخير «النفس وقواها في أعمال ابن باجة» (نشر هنا بتاريخ 5 يونيو «حزيران» الحالي). وكنا قد نوهنا إلى صعوبة حديث فيلسوفنا عن النفس في «رسالة الاتصال»، مستأنسين بكلام ابن رشد حول أن كلامه في هذه المسألة بالذات يعد أكثر صرامة وتعقيدا من كلام أي كان، وأنه يثير الكثير من الإشكاليات التي تستدعي الحل.

والواقع أن فيلسوفنا تعرَّض في هذه الرسالة أيضا إلى مسألة في غاية من التعقيد والأهمية، ونقصد بها حديثه عن «المحرك الأول» الذي يحرك الإنسان بواسطة نوعين من الآلات الوسيطة: النوع الأول الأعضاء الجسمانية التي تنقسم بدورها إلى صنفين: إما طبيعية كاليد والرجل وما شابه، أو صناعية كالعصا التي يستخدمها الإنسان لتحريك شيء ما. أما النوع الثاني؛ فالمقصود به الآلات الروحية، أو النفسية، ويعني بها الأجزاء المختلفة في الروح؛ على النحو الذي شرحه لاحقا في «ما بعد الطبيعة».

على أن انقسام الجسم الحي إلى جزأين: محرك، ومتحرك، لا يعني بحال من الأحوال الانفصال التام بينهما! إذ يعتبر الجسم ذاتا واحدة استنادا إلى مبدأ الحياة والحركة؛ أي النفس والحار الغريزي، وذلك بحكم كونه الآلة الأولى للنفس.

ويؤكد ابن باجة في رسالته أيضا العلاقة المتبادلة بين كل من: الإرادة الإنسانية الحرة من جهة، والتعقل من جهة أخرى. فالمحركات العقلية هي التي تحرك الجسم عبر الصور الروحانية التي هي مجرد آلات ليس إلا! أما المحرك الأول في الإنسان؛ فهو الفكر أو العقل: «فالعقل بالفعل، هو المحرك الأول في الإنسان بالإطلاق، وظاهر أن العقل بالفعل قوة فاعلة، وليس العقل وحده، بل جميع الصور المحركة هي فاعلة أيضا».

وليس أدل على اهتمام فيلسوفنا بهذه المسألة من إفراده رسالة كاملة عنها، ونعني بها «رسالة في المتحرك»، حيث يهتم فيها ببيان الحركة وأنواعها، ونسبتها إلى النفس، ويخلص فيها إلى تأكيد أن كل حركة تكون عن أكثر من محرك لا يتحرك فيها المتحرك بنفسه وإنما بغيره، تُنْسَبُ حركته تلك إلى المحرك الأول دون سائر المحركات الأخرى. وبما أن المحرك الأول هو محرك الحركة السرمدية؛ فإن إضافة الحركة إلى غيره يكون بالعرض لا بالذات.

وكذلك الأمر بالنسبة إلى الآلات التي ليس لها في وجود هذه الحركة حمد أو ذم!! فالمحرك الأول في الحيوان هو النفس النزوعية، ويقسمها ابن باجة إلى صنفين متقابلين، لكل منهما فعلان متقابلان: الأول اسم لجنسه، ويدعوه بـ«المحبة»، وتدخل فيه الشهوة الغذائية، ومنها يكون الإمساك والطلب. أما الثاني، فهو الكراهة، ويدخل فيها السأم والخوف، وبها يكون الترك والهرب، وسببها النفس الخيالية.

ويبين ابن باجة أيضا أن الإنسان يختص من دون سائر الكائنات بالحركة الاختيارية التي ينتج عنها «النطق»، وبسببها يُنسَبُ للمرء الصواب، والخطأ، فضلا عن أنه يحوز بها صناعته!! فالحركة الإنسانية الخاصة بالإنسان إذن: «هي التي تكون عن الأمور التي توجهها الرؤية الصادقة، وهي التي تكون ضرورة نحو أمر ما، وهي الخير بالإطلاق الذي هو معشوق بالطبع، محبوب للكل». ولا شك أن هذه الحركة الإرادية هي التي تدفع بالإنسان قدما نحو البحث عن السعادة، والوقوف على أسبابها، ومعرفة الطرق المؤدية إليها، والعمل على بلوغها وتحصيلها.

وتبعا لما قاله فيلسوفنا في «تدبير المتوحد»؛ فإن الإنسان يطلق على شيئين: أولهما الجسد، ولهذا يدعى الميت حيوانا باسم الجنس على طريق التواطؤ، وتكرم جثث الموتى بالدفن. ثانيهما: النفس، ولهذا قال سقراط لتلامذته قبل موته: تكفلوا بي! ويقصد بذلك أن الذي سيكون في موضعه عما قليل ليس بسقراط وإنما جثته، أما هو فقد رحل لخالقه.

أخيرا، يقرر ابن باجة أن الخير موجود بنفسه، وأنه معشوق في الطبيعة بأسرها، وأن أفضل ما يوجد للإنسان من جهة ما هو ذو جسد، هو الحركة عنه وإليه (الخير)، وأن حصول الخير يعد أفضل ما يوجد للإنسان على الإطلاق؛ خاصة أن البدن وجد أساسا ليحصل له هذا الخير: «فهو آلته التي بها يتحرك، كالسفينة التي يتحرك بها الملاحون».

في رسالته «الفحص عن القوة النزوعية»؛ يبدأ فيلسوفنا ببيان القوة النزوعية وكيف هي؟ ولم تنزع؟ وبماذا تنزع؟ فيوضح أولا أن النفس النزوعية إما أن تكون جنسا لثلاث قوى هي: النزوعية بالخيال، والنزوعية بالنفس المتوسطة، والنزوعية التي تشعر بالنطق، وإما أن تقال على هذه الثلاث بتقديم وتأخير.

أما النزوعية بالخيال؛ فبها تكون التربية للأولاد، والتحرك إلى أشخاص المساكن والإلف والعشق وما يجري مجراه. وأما النزوعية بالنفس المتوسطة؛ فبها يكون الغذاء والدثار وجميع الصنائع والأعمال، إذ إن كل حيوان ساعٍ تحصل له هذه النفس فيشتاق بها إلى الغذاء، وتشوُّق النزوعية المتوسطة يتقدَّم بالطبع النزوعية الخيالية، وأما التي تشعر بالنطق؛ فيختص بها الإنسان، وبها يكون التعليم والتعلم. ثم يبدأ بعد ذلك ببيان أجناس المحرك: فثمة محرك بالطبع كالنار، وثمة محرك خارج عن الطبع، كالسهم المشتعل. وقد يتحرك المتحرك خارجا عن الطبع، كتحرك الحجر إلى فوق، أو بالطبع، كتحرك الجاهل نحو العلم بالقوة.

وفي الأحوال كلها؛ فإن المتحرك بالطبع لا يخرج عن أن يكون: إما متحركا من ذاته، فيكون محركه فيه، أو من غيره، فيكون محركه خارجا عنه!! فحركة الحجر إنما تكون بالعائق وبالثقل، غير أن مبدأ الحركة يتجوهر حول إزالة العائق: «وعند ذلك صار للحجر ما كان له أن يكون، فإن الثقل ليس بمحرك بطبيعته، إذ لو كان محركا بطبيعته لكان له متحرك بالطبيعة، والمتحرك عنه إنما هو بالقسر، فالجمادات كلها لا تفعل، وإنما تنفعل».

هذا في ما يتعلق بحركة الجماد؛ أما كل ما يتحرك حركة واحدة من الحركات المتقابلة، فهو جسم طبيعي، وصورته جزء يقال لها طبيعة على وجه الخصوص. وعلى ذلك؛ فإن محل الحركة هو المكان، والحركة المكانية هي ما يطلق عليها العرب لفظة «النقلة» بمعنى الحركة الإرادية، ولها عدة أطراف متقابلة: كالصعود والهبوط. أما الأجسام التي لم تُعْطَ مبدأ أكملَ من هذا من مبادئ الوجود فليس لها من حركة المكان بالذات إلا هذان الصنفان كالشمع والذهب، إذ توجد لهما سائر الحركات بالعرض: إما قسرا، أو خارجا عن الطبع.

يتحصل مما سبق؛ أن البحث عن السعادة ليس إلا نزوعا تقوم به النفس الناطقة من أجل أن يتأتى لها من بعدُ أن تسْتَشْعِرَ ذاتها وتدرك تميزها عن باقي النفوس الأخرى، وذلك عن طريق التعليم والتعلم؛ خاصة أن بمقدور النفس الإنسانية - دون غيرها - أن تتحصل مبادئَ الموجودات، وتعْلَمَ واجبَ الوجود، من خلال حركة النفس التي تنزع دائما في شوق نحو سعادتها.

وفي السياق ذاته، يوضح ابن باجة أن العادة تنشأ عن طريق النفس النزوعية، وأن الذي يقبل العادة في الإنسان هو الجزء النزوعي والجزءُ العاديُّ. ثم يمضي بعد ذلك لإحصاء الأشياء التي تطلق عليها العادة فيفصل القول في الخشوع الذي يدعوه بالاستهانة!! وبحسبه؛ فإن الخشوع قد يكون بالعادة أو بالطبيعة: فالذي هو بالطبيعة يُقْصَدُ به الخشوعُ للكمال من جهة أنه كمال! فكلُّ كمالٍ - بداهة - يستوجب الخشوع، غير أنه قد يكون أمرٌ ما كمالا عند قوم بينما يعده آخرون نقصا، والكمال ذاته قد يكون كذلك كمالا عند شيء ونقصا عند شيء آخر، وهو ما يدعوه كمالا بالإضافة!! ومن ثم؛ يفضِّلُ فيلسوفنا أن نطلق على الصنف الأخير اسم الخير؛ نظرا لأن الخيرات: إما أن تكون مرادفا للكمال، أو أعم منه: «فالأشياء التي هي كمال قد تكون بالوضع والشرع، وما هو بالوضع مختلفٌ؛ فما كان كمالا عند قوم، لا يكون كمالا عند آخرين».

وواضح جدا أن ابن باجة يأخذ بعين الاعتبار أثر البيئة المحيطة بالإنسان، فمن الممكن أن ينشأ إنسان ما بين قوم تخشع نفوسهم لأمور يستهين بها الآخرون. وكما أن المرضى يحسون الحلو مرا والعكس، فكذلك مرضى النفوس يرون الكمال نقصا والنقص كمالا!! وكما أنه لا سبيل لهؤلاء المرضى إلى أن يحسوا الحلو حلوا والمر مرا حتى يصحوا؛ فكذلك مرضى النفوس ليس بإمكانهم أن يروا الخير خيرا والشر شرا حتى تصح نفوسهم وتشفى قلوبهم، ومتى صحت نفوسهم؛ يعلمون الخير ويحركهم، بدلا من أن تحركهم الشهوات نحو «المدن الفواسد» ممن لا يعرف أهلها الكمال المتبرئ عن القوة.

يتحصل مما سبق؛ أن السعادة تدخل ضمن الخشوع الذي هو بالطبيعة، أي خشوعا للكمال من جهةِ أنه كمال (غائية السعادة)، فكلُّ كمالٍ يستوجب منا الخشوع. وهكذا يبدو لنا أن دراسة فيلسوفنا لمسألة السعادة وارتباطها بالنفس لم تكن مقطوعة الصلة بالمواضيع الأخرى كالأخلاق والمعرفة؛ وإنما كانت توضع دائما داخل إطار نسقها الفلسفي العام، ذلك الإطار الذي يبدو لنا اليوم بمثابة منظومة واحدة تتلاحم مواضيعها بمجرد أن يعمل العقل عمله في أي جانب منها على حدة!!

* كاتب مصري