ماذا يجري خلف أسوار حاضرة الفاتيكان؟

إميل أمين

TT

هل نحن أمام فاتيليكس جديدة على وزن ويكيليكس الأميركية المثيرة؟ الشاهد أنه إذا كانت ويكيليكس قد سربت بعض من الوثائق السرية للخارجية الأميركية، فان فاتيليكس بدورها تم من خلالها تسريب عدد من الوثائق الخاصة بالبابا بندكتوس السادس عشر، وبشؤون حاضرة الفاتيكان، وهو أمر لمن يعرف السرية والخصوصية داخل أروقة الفاتيكان جد خطير. يتساءل المرء بداية: «هل الأمر مجرد تسريبات يراد منها سبق صحافي أو إعلامي أم أن القضية برمتها أكبر وأعقد من ذلك، وتعكس ربما صراعا على مستويات عليا، يلف مدارات الكوريا الرومانية أي حكومة الفاتيكان التي يرأسها البابا نفسه؟ وهل هناك تشابكات فرعية لقضايا مالية مع إشكالية الوثائق المتسربة؟».

البداية جرت مع ظهور كتاب للصحافي الإيطالي جيانلجي نوتس وعنوانه «قداسته» Sua Santita والذي حفل بعدة وثائق حقيقية من مراسلات البابا بندكتوس الشخصية.. ماذا عن أهم ما جاء في تلك الوثائق وما دلالات نشرها في هذا التوقيت؟

بحسب الخبير في شؤون الفاتيكان ساندرو ماجيتسر فإنه ليس هناك عناصر فضيحة خاصة، بل وثائق عادية تحمل أحداثا بعينها مثل اجتماع البابا مع الرئيس جورجيو نابوليتانو والتحضير لهذا الاجتماع.

بعض الوثائق الأخرى تناولت ما يجري داخل بنك الفاتيكان، وهل كان شريكا أم لا في رأس مال مستشفى سان رافاييل الكاثوليكي، عطفا على قلق الكرسي الرسولي حيال النظام الضريبي لأملاك الكنيسة في إيطاليا. من بين الوثائق رسالة من سفير الفاتيكان في واشنطن، رئيس الأساقفة كارلو ماريا فيغانو كان قد بعثها إلى البابا تحمل شكوى من وجود تجاوزات في إسناد عقود عمل لبعض الشركات بعينها.

على أن اخطر ما نشر في تقدير صاحب هذه السطور هو الوثيقة التي تتحدث عن «موت البابا بندكتوس خلال عام»، وجرى تداولها في فبراير (شباط) الماضي، وترد إلى الكاردينال كاستريون وفقا لما بلغه من قبل رئيس أساقفة باليرمو الكاردينال باولو روميو.

ورغم نفي الفاتيكان السريع والقاطع لما جاء في هذه الوثيقة تحديدا، فإن الربط بينها وبين مشكلات الفساد المالي داخل بنك الفاتيكان، يقي بظلال من الماضي على الحاضر، ظلال حول ما جرى مع الكاردينال البينو لوتشياني بطريرك البندقية، الذي أضحى البابا يوحنا بولس الأول، ولم يطل بقاؤه في السدة البطرسية، سوى ثلاثة وثلاثين يوما، ولا تزال الشكوك تحوم حول وفاته، وهل كانت طبيعية أم لا، من جراء محاولاته لكشف أي فساد مالي، وإعلاء شان الشفافية في الأمور البنكية.

هل جاء تسريب تلك الوثائق تحديدا لتشكل إنذارا للبابا بندكتوس بأن لا يقترب من تلك المنطقة الداكنة؟ لا أحد يمكن أن يؤكد أو ينفي، لكن في كل الأحوال تبقى المؤامرة غير مستبعدة في ذاك الذي يجري على صعيد الفاتيكان والتأكيد هنا على لسان الكاردينال المتنفذ روبرت سارا رئيس مجلس قلب واحد (في تصريحاته لصحيفة لاريبوبليكا الإيطالية)، وعنده أنه «ليس بوسع أحد أن يستبق الأحداث ويستبعد احتمال وجود مؤامرات وتحركات تمت بشكل غاية في الإتقان، طالما لم توضح السلطات القضائية وبشكل تام ملابسات هذه القضية المروعة».

هل للمراقب والقارئ أن يتساءلا من يقف وراء هذه المؤامرة؟ ومن الشخص القريب إلى هذا الحد من البابا ويستطيع إن يسرق وثائقه الشخصية، ويسلمها إلى صحافي مغمور، ليتسبب في ضجة عميقة للفاتيكان والكنسية؟ وما مصلحته الشخصية في ذلك؟

علامات الاستفهام المتقدمة سابقة على التحقيقات القضائية التي استهلت الأيام الفائتة برئاسة قاضي التحقيق بييرو أنطونيو بوني مع كبير الخدم البابوي باولو غابرييلي المشرف الشخصي على خدمة البابا طوال ساعات النهار، وحتى موعد النوم.

لماذا باولو غابرييلي؟

بحسب الناطق الرسمي باسم الكرسي الرسولي الأب فيدريكو لومباردي فإن التحقيقات التي قامت بها قوات الدرك الفاتيكاني بناء على تعليمات من لجنة الكرادلة أسفرت عن تحديد شخص بحوزته وثائق سرية.

ورغم أن الأب لومباردي لم يحدد اسم غابرييلي فإن تصريحات الكاردينال سارا كانت تشي به، إذ هو القريب جدا، بل الأكثر قربا من الأب الأقدس (بحسب تعبيره).. من هو غابرييلي وهل هو بالضرورة الفاعل الحقيقي أم كبش فداء لصراع أعمق يدور خلف أسوار الفاتيكان؟

لعل الذين شاهدوا البابا في سيارته الكلاسيكية البيضاء، يتذكرون جيدا وجه الرجل الإيطالي باولو غابرييلي الذي يحتل بسترته السوداء الأنيقة، المقعد الأمامي من السيارة البابوية، وعلى هذا فهو شخصية عامة، ويعيش مع زوجته وأولاده الثلاثة في إحدى البنايات المخصصة للعاملين داخل دولة الفاتيكان، وفي النصف الثاني من العقد الخامس من العمر منذ عام 2006 وأول وجه يلتقي به البابا في السادسة والنصف هو وجه باولو الذي يساعده على ارتداء ملابسه البيضاء، وتقديم وجبة الإفطار له، ولا يغادره إلا في نحو السابعة والنصف مساء، وبعد أن يقدم له طعام العشاء.

ولعل ما أغفلته وسائل الإعلام العربية والأجنبية على حد سواء في تفكيك مشهد غابرييلي، هو أن تعيين أحد ما للعمل بالقرب من البابا عملية شاقة ومعقدة جدا وتخضع لاختبارات وتحريات، ربما تفوق تلك التي يخضع لها العاملون في الأجهزة الاستخبارية الكرى حول العالم، كما أن الذي يعمل قرب البابا لا بد له وأن يحوذ على سيرة ذاتية كاثوليكية إيمانية وبها من الوفاء والولاء للبابا ما لا يحد.

وما لا يدركه الكثيرون أن هناك داخل حاضرة الفاتيكان أجهزة للاستخبارات السرية «الحلف المقدس»، وأخرى لمواجهة الجاسوسية المضادة «جمعية بيوس». والمعروف أن العمل السري داخل تلك المؤسسة الدينية يعود إلى زمن البابا بيوس الخامس أي قبل نحو خمسة قرون، وهذه قراءة قائمة بذاتها.

هل كان باولو غابرييلي بعيدا عن الرقابة الوثيقة واللصيقة التي يخضع لها من له مثل هذا الاحتكاك اليومي مع البابا؟

بالقطع لا، وهذا ما يؤكده أحد رجال الدين الكاثوليك الذي كان غابرييلي يمارس لديه أحد طقوس العبادة «سر الاعتراف» إذ يصرح لصحيفة «لاستامبا» الإيطالية بالقول «إنه يحب البابا حبا شديدا إلى درجة أنه لا يمكن أن يخونه، ولم أسمع أحدا يتحدث عنه بسوء.؟».. هل يقودنا هذا التصريح إلى الشك في أن غابرييلي ليس المسرب الحقيقي، وأن حديث المؤامرة قائم بالفعل؟ ربما يكون هذا بالفعل حقيقيا، فبحسب تصريحات «لاستامبا» الإيطالية كذلك فإن أحد أصدقاء باولو يشهد بأنه تحدث إليه عشية توقيفه، وكان غابرييلي حزينا لأنه علم قبل ساعات أن الشكوك تحوم حوله.

الأمر هنا يستدعي تساؤلا «إذا كانت لدى غابرييلي مثل تلك الوثائق عالية القيمة فلماذا لم يتلفها وهو يعلم أن منزله سيتم تفتشيه لا محالة؟».

هنا نحن أمام احتمالين لا ثالث لهما، الأول هو أن تكون هذه الوثائق قد دست عليه دسا، أو أن يكون قد تعرض لابتزاز ما جعله يقبل بأن يوضع موضع الاتهام هذا، وقضية ليدل في ثمانينات القرن الماضي خير مثال على إمكانية وجود أي من الاحتمالين المتقدمين.

الغموض فيما يجري يمكن للمتخصص في الشأن الفاتيكاني أن يضمنه ركيزتين الأولى مالية، والثانية دينية رئاسية تراتبية، والغالب أن هناك ما يربط بينهما ولو بخيوط من الحرير.. ماذا يعني ذلك؟

يلفت النظر أول الأمر أنه ليلة توقيف غابرييلي، قرر مجلس إدارة بنك الفاتيكان عزل رئيسه إيتوري غوتي تديسكي بدعوى فشله في القيام بأساسيات عمله، إلا أن تقارير أخرى تحدثت عن احتمال ضلوعه في مسألة تسريب الوثائق. وتديسكي كاثوليكي ملتزم، ومستشار مالي مشهود له كان يدرس الأخلاقيات المالية في الجامعة الكاثوليكية في ميلان، وفي عام 2010 باشرت نيابة روما تحقيقا معه ومع مسؤول آخر لم تكشف هويته، لانتهاك قانون أوروبي لمكافحة تبييض الأموال، الذي يرغم المصارف على كشف هوية المسؤول عن كل عملية مالية وهدفها وطبيعتها.

حكما هناك حاجة من الوقت لإماطة اللثام عن الذي يشوب الجانب المالي، أما الروحي فيبدو الأمر بحسب البعض صراعا على أعلى مستوى بين أمراء الكنيسة «الكرادلة» لجهة البابا القادم، وفي مقدمة هؤلاء أمين سر حاضرة الفاتيكان (رئيس الوزراء) الكاردينال ترشيزيو بيرتوني، والذي ستؤثر هذه الضجة الأخلاقية على فرصه في الترشح للبابوية القادمة، وخاصة أن هناك من يتطلع إلى هذا المنصب الروحي الرفيع، والتحليلات تكاد أن تحدد أسماء بعينها مثل الكاردينال أنجلو بانياسكو، رئيس مجلس أساقفة إيطاليا.

هل لهذا السبب روجت صحيفة «لاريبوبليكا» الإيطالية القول بوجود سيناريو انقلابي من قبل مجموعة من الكرادلة والأساقفة يهدف إلى إسقاط الكوريا الرومانية الحالية وإعداد المسرح لانتخاب البابا القادم، وبنوع خاص إذا جرت المقادير بغياب أو تغييب البابا بندكتوس على غرار السيناريو السابق في 1978؟ هذا الحديث المؤامراتي في غالبه، تطلب ردا حاسما من الأب لومبادري، إذ أشار صراحة إلى أن «جميع الأحبار الأعظمين الذين انتخبوا خلال القرن الماضي، كانوا شخصيات تتمتع بقيم روحية عالية غير قابلة للشك والجدل».

هل من المبكر استشراف مآل القصة الفاتيليكسية الآنية؟

بحسب قانون العقوبات في الفاتيكان والذي يستند إلى القانون الذي كان معمولا به في المملكة الإيطالية عام 1889، فإن البابا يمكنه أن يتدخل في أي لحظة للعفو عن المتهم، وربما يحدث هذا مع باولو غابرييلي، من باب العفو والغفران الفعلي أو من باب إقفال ملف مثير للجدل والألم والحزن للبابا والكنيسة، ولهذا يمكن إن يتم تصنيفه «سرا حبريا»، وعلى غرار العديد من التقارير الأخرى المحفوظة في إحدى زوايا الأرشيف السري للفاتيكان.. هل من خلاصة قبل الانصراف؟.

قطعا في الكنيسة الكاثوليكية يعمل الملايين من الأشخاص، في طليعتهم شخصيات معروفة ومحترمة وصادقة عرفها التاريخ في خدمتها للإنسانية وليس للكاثوليكية فحسب، مثل الأم تريزا في الهند، والأب بيير في فرنسا، ومؤمنين غير معروفين في نطاق عملهم، من أجل عالم أفضل بالفهم المسيحي. إن عملهم المخلص لا يمكن إن يسيء إليه الأشقياء الدجالون الموجودون في المكاتب العليا حتى داخل الكنيسة.

هل تفتح قضية وثائق الفاتيكان المتسربة أحاديث جوهرية متباينة حول أقدم مؤسسة دينية في العالم؟

* كاتب مصري