التفكير الإسلامي في زمانين

رضوان السيد

TT

أصدرت مجلة الهلال الشهرية المصرية عددا في شهر يونيو (حزيران)، ضمنته محورا عن الكاتب الراحل عباس محمود العقاد عنوانه: «بعد قرن من الزمان، العقاد وثيقة ثقافية». ومن تتبع مقالات المحور عن العقاد، فهمت أن المقصود بالقرن، أن العقاد كتب مقالات في صحف ومجلات عام 1912، وبذلك يكون قد مر على كتاباته أو أنه بدأ الكتابة قبل قرن من الزمان. وليس في مقالات المحور شيء لافت، لكنني لاحظت أن هناك مقالتين عن كتابات العقاد الإسلامية أو إسلاميات العقاد. والدكتور أحمد هيكل وزير الثقافة المصري الأسبق، يعتبر إسلاميات العقاد اهتداء إلى طريق الحق بعد زوغان! وما كان الأمر كذلك بالطبع، فقد كتب العقاد أول أعماله في الإسلاميات، أعني «عبقرية محمد» عام 1942. وقد سبقه إلى الكتابة في الإسلاميات عدد من البارزين في جيله مثل توفيق الحكيم (الذي كتب مسرحية عن النبي صلى الله عليه وسلم)، وأحمد أمين (الذي بدأ في كتابة «فجر الإسلام» عام 1929)، ومصطفى صادق الرافعي الذي كتب في إعجاز القرآن، ومحمد حسين هيكل الذي كتب «حياة محمد». وطه حسين الذي بدأ سلسلته: «على هامش السيرة» (النبوية)، قرابة ذلك الوقت الذي بدأ فيه العقاد. وهذا فضلا عن عشرات المقالات بل مئاتها في موضوعات إسلامية في مجلة «الرسالة» التي أصدرها أحمد حسن الزيات في مطلع الثلاثينات من القرن العشرين. وما ذكرت في هذا المعرض المجلات الإسلامية مثل «المنار» أو «لواء الإسلام»، لأنه كان من البديهي أن تنشر دراسات ومقالات في الإسلام؛ بل ركزت على كتابات المحدثين الذين ما تعودوا الكتابة في الإسلام وتاريخه وشخصياته من قبل.

إن الواقع أن الكتاب ذوي التوجهات الحديثة، استقر في أخلادهم صنيع الأوروبيين مع تراثهم اليوناني والروماني، وقد عمدوا للعودة إليه والاستناد إليه في نهضتهم الجديدة. وهكذا فقد أقبل شباب المثقفين بمصر وبلاد الشام وتركيا وإيران والهند على إحياء التراث الإسلامي والعربي وشخصياتهما وبالمناهج الحديثة التي تعلموها من الأوروبيين، لكي تكون دعامة من دعائم البناء الوطني والقومي في الأزمنة الحديثة، كما كانت عماد النهوض في الزمن الإسلامي الأول. الدكتور أحمد هيكل يعتبر أن الصراعات الأدبية والفكرية التي دارت في العشرينات والثلاثينات علتها الفساد والإفساد الذي أدخله على نفوس المصريين وثقافتهم كتاب عنصريون أوروبيون مثل ماكس نورداو الذي كان العقاد شديد الإعجاب به، وقد كتب عنه ثلاث مقالات بين 1912 و1924! لكنني لا أحسب أن العقاد تعلم من نورداو أساليب الهجوم والمخاصمة. بل إنه يذكر في مقالته عنه في «ساعات بين الكتب» (1924) أنه إنما تعلم من نورداو أساليبه في السير وكتابة تاريخ الشخصيات. فنورداو وأبناء عصره مثل شتفان تسفايغ وأميل لودفيغ - وقد تأثروا بمباحث التحليل النفسي التي ازدهرت في الربع الأول من القرن العشرين، أقبلوا على كتابة السير للشخصيات البارزة انطلاقا من فكرة المفتاح أو المفاتيح التي تعين على فهم الشخصية أو جلاء الغموض عنها من خلال التعرف على الدوافع النفسية والذهنية الرئيسية أو العميقة التي تحكم تلك الشخصية. وهكذا فقد توافرت لشبان الكتاب وكهولهم الذين أرادوا المشاركة في نهضة الأمة مناهج وطرائق للعودة إلى ذاك الزمان بنصوصه وتاريخه وشخصياته. وما كان يمكن العودة إلى السرديات التراثية التي انتهجتها المجلات الإسلامية حتى لو كانت تريد التجديد؛ بل ذهب هؤلاء الكتاب الجدد إلى أجناس وأنواع أدبية وكتابية جديدة، وأقبلوا على انتهاج أساليبها في الكتابة مثل الشعر والمسرحية والقصة والمقالة والسيرة الذاتية. وكما حظيت تلك الكتابات الإسلامية باستحسان من جيل الشباب؛ فقد كانت لها لأول وهلة أصداء سلبية لدى كهول المتدينين وشيوخهم وبخاصة علماء الدين. وكانت وجهة نظرهم أن هذه المحاولات وإن كانت تقرب الشبان غير ذوي الثقافة الدينية إلى الموروث بطرائق محببة؛ لكنها تؤنسن تلك الشخصيات (وعلى رأسها شخصية النبي صلى الله عليه وسلم) أكثر من اللازم. والحق أن ذلك غير صحيح أو غير دقيق. فالعقاد نفسه ما استعار من كتاب السيرة الأوروبيين أساليبهم في التحليل ذات الأبعاد النفسية والذهنية فقط؛ بل استعار أيضا ومن توماس كارلايل (صاحب كتاب: «البطولة وعبادة الأبطال»)، نموذج البطولة، والذي يرتكز على سمات وخصائص في الأشخاص ودوافعهم وأخلاقهم - وقد اعتبر كارلايل النبي محمدا صلى الله عليه وسلم واحدا من هؤلاء الأبطال. وإذا عرفنا أن الشبان الذين درسوا في المدارس الحديثة في حقبة ما بين الحربين، كانت نماذجهم للشخصيات المثالية والخالدة ليست عربية ولا إسلامية؛ أدركنا كم كانت أعمال السيرة تلك مهمة، بحيث يجد الشاب المسلم منذ سن الفتوة نماذج من تاريخه يستطيع أن يعجب بها وأن يحتذي سلوكها وسماتها الشخصية والعامة. وبالفعل فإن الاعتراضات على مفرد «عبقرية» في إسلاميات العقاد، أو على مسرحة شخصية النبي(ص) من جانب توفيق الحكيم، ما لبثت أن اختفت، ودخل ذلك النتاج كله في البرامج الدراسية المصرية منذ الخمسينات والستينات من القرن الماضي، وما يزال بعضه حاضرا إلى يوم الناس هذا.

لكننا نجد تفكيرا من نوع آخر في الإسلام وتاريخه منذ الستينات بل الخمسينات من القرن العشرين. نجد على سبيل المثال أطروحة الدكتور محمد محمد حسين في «الأدب العربي الحديث» من النصف الأول من الخمسينات، وفيها حملة شديدة على استخدام الشخصيات الإسلامية في أنواع وأجناس إبداعية حديثة. والدكتور حسين يعيد ذلك إلى أميال واعتبارات محمد عبده ومدرسته في أواخر القرن التاسع عشر، والتي انتهجت نهج المماثلة بين التاريخين الإسلامي والغربي حتى في المجالات الأدبية والإنسانية. والدكتور محمد البهي في كتابه: «الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي» يحدد لنا بالضبط ماذا يزعجه في التأويلات الحديثة للشخصيات الإسلامية الأولى: فابن خلدون يبدو في عمل رشدي صالح ماركسيا، وأبو ذر يبدو اشتراكيا، وعمر بن الخطاب يبدو مثل شارلمان.. الخ. وهذا يعني أن الكتاب المسلمين المحدثين، وسواء أكانوا يحملون أيديولوجيا معينة أم لا؛ فإنهم بوعي أو من دون يتخذون من المثالات الأوروبية نماذج، ويعمدون إلى تصوير الشخصيات الإسلامية بصورتها، فينسبون إليها مثال التقدم الأوروبي، أو مثال الأصالة، أو مثال العبقرية؛ بينما المطلوب القطيعة مع أوروبا والغرب كله من أجل بناء النموذج الخاص والمتفرد! وهذا نهج في التفكير مختلف بالطبع عن النهج الحداثي العام الذي ساد في النصف الأول من القرن العشرين، وكانت فكرة التقدم الإنساني، والمشترك الإنساني العام فيه، قوية وسائدة.

يعتبر العقاد وطه حسين ومحمد حسين هيكل وأحمد أمين وعثمان أمين وعبد الرحمن بدوي.. الخ أن تاريخ العرب والمسلمين هو جزء من التاريخ الإنساني العام. وقد أثرت الحضارة الإسلامية في حضارتي الصين وأوروبا تأثيرات كبيرة وخطيرة. وإذا كان الأوروبيون والغربيون قد كونوا عبر القرون الثلاثة الأخيرة نموذجا للتقدم الخاص والعام؛ فإننا نحن المسلمين نملك نموذجا موازيا أو مماثلا يوصل إلى النتائج ذاتها. لقد بحثوا عن التوازي والتساوي والشراكة. بينما رأى الأصاليون أن هذا النهج يؤدي إلى الذوبان في المجرى الأوروبي للتاريخ والحاضر، وعلى حساب أصالتنا وهويتنا وحاضرنا ومستقبلنا. نعم، نحن لا نشبه الأوروبيين ولا هم يشبهوننا. والعمل - ولو باسم التوازي والتحدي الإيجابي - يؤدي إلى عكس المقصود منه، بسبب علاقات القوة السائدة لصالح أولئك الناس الذين استعمرونا، وغزونا ثقافيا بحيث راح كتابنا الكبار يقلدونهم في المنهج لأن «المغلوب مولع بتقليد الغالب» كما قال ابن خلدون. ولذا فإن الأفضل أو الأصح هو إحداث القطيعة، بحيث تسيطر أصالتنا من جديد، ونبني نموذجنا الخاص المنفصل وليس المتواصل، لأن التواصل مستحيل بالشروط والظروف السائدة. وهذه الفكرة الأساسية لجماعات الأصالة، والتي صاغها أولا أمثال المودودي والندوي.. وسيد قطب، تمشت حتى في أوصال غير المسلمين أمثال أنور عبد الملك الذي كتب بالفرنسية عام 1963 مقالته: «الاستشراق في أزمة» - والتي صارت فيما بعد الأساس لكتاب إدوار سعيد في الاستشراق (1978).

كانت الكتابات الإسلامية لرجالات «النهضة» في النصف الأول من القرن العشرين كتابات إبداعية، تنشد التواصل النظري والمنهجي، وتبني على فكرة التقدم، وتستخدم من أجل الإقناع بذلك شخصيات تاريخية كبرى مثل أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعمر بن عبد العزيز. وقد ظهرت في زمنها مشروعات ثقافية كبرى مثل مشروع أحمد أمين للتاريخ الثقافي الإسلامي، ومشروع مصطفى عبد الرازق للفلسفة العامة للحضارة الإسلامية، ومشروع طه حسين بالإدارة الثقافية بالجامعة العربية لإحياء التراث العربي والإسلامي ونصوصه الخالدة. أما في زمن الأصالة؛ فقد سادت كتابات أيديولوجية تجلت لدى الأكاديميين - وليس لدى الحزبيين - في تيارين رئيسيين: تيار ناشدي الأصالة والمنظرين لها، وتيار أعداء الأصالة ومقاتليها. أما كتاب التيار الأول فقد انضووا في التيار الإسلامي العام، وبرز منهم طارق البشري، وعبد الوهاب المسيري وآخرون أكثر كتابة وتأثيرا مثل الدكتور محمد عمارة وأنور الجندي. وأما أعداء الأصالة فقد ركزوا جهودهم على تحرير الجمهور من أوهام التراث، أو تحرير التراث من قبضة الحزبيات الإسلامية الصاعدة. ومن هؤلاء محمد أركون ومحمد عابد الجابري وحسن حنفي ونصر حامد أبو زيد وعبد المجيد الشرفي وتلامذة كثيرون لهم.

ومن الواضح الآن، بعد انتشار حركات التغيير على مدى العالم العربي، أن تيار الأصالة لقي بروزا كبيرا من خلال أحزاب الإسلام السياسي. بيد أن البراغماتية القوية التي يدخل فيها أهل الإسلام السياسي، إنما تضرب أساس تلك القطيعة التي عملوا على مدى عقود على تثبيتها في أدبياتهم الكثيرة. لقد انتقلوا الآن من المعارضة إلى السلطة، وهذا يزعزع أفكار الهوية والخصوصية التي كان قد كسبوا شرائح واسعة من الجمهور من طريقها. إنه مخاض كبير وشاسع الجنبات والآثار وسيولد بالتأكيد فكرا جديدا ومختلفا لدى الأصاليين ولدى خصومهم.