مراتب النفس في فلسفة الإشراق

محمد حلمي عبد الوهاب

TT

استعرضنا في مقالنا السابق مسألة النفس في فلسفة صدر الدين الشيرازي الذي أكد أنّ الأرواح تتفاوت في شدة النورية وضعفها؛ فضلا عن تدرجها ابتداء من النفس النباتية داخل الرحم، ومرورا بالنفس الحيوانية بعد الولادة، فإذا تم لها البلوغ الحيواني والاشتداد الصوري النفسي حدثت لها النفس الناطقة، يعني العقل العملي؛ لأن العقل بالفعل لدى الشيرازي لا يتم إلا للعرفاء من البشر الذين يتحصلون السعادتين الدنيوية والأخروية، والذين كثيرا ما كان يأسف لندرتهم في زمانه، شأنهم دائما في كل زمان ومكان، فيقول: «وأما روح القدس، فهو المخصوص بأولياء الله، وأما العقل بالفعل، فلا يحدث إلا في قليل من أفراد البشر، وهم العرفاء والمؤمنون حقا بالله».

في كتابه «مفاتيح الغيب» الذي يعد من أهم مؤلفاته الإشراقية يتناول في المفتاح الخامس عشر مسألة النفس تحت عنوان: «في شرح ماهية الإنسان من مبدأ تكونها من العناصر والأركان إلى أن ينتهي قيامه عند الله الديان»!! وفضلا عن تناوله مسألة نشأة الحياة والإنسان يعني الشيرازي بالبحث أيضا في صفات الإنسان ومقاماته، ومنازل سفره وسلوكه، ابتداء من أخس المبادئ إلى ما يدعوه بـ«أشرف العوالي»!! على أن تناوله للنفس، في هذا الكتاب، لا يخرج بحال من الأحوال عن ترتيبه السابق حيث نصادف فصولا بأكملها مكررة كما هي في بعض كتاباته!! ومنها على سبيل المثال؛ أننا نطالع في الأسفار الأربعة فصلا كاملا بعنوان: «في سبب خلو بعض النفوس عن المعقولات وحرمانهم من السعادة الأخروية»، وهو ما نجده مكررا في كتاب «المبدأ والمعاد».

أما كتابه «الشواهد الربوبية في المناهج السلوكية»؛ فتأتي تسميته تبعا لمضمونه، إذ يحتوي خمسة مشاهد تضم عدة شواهد في كل شاهد منها جملة إشراقات. وفي هذا السياق يخص الشيرازي المشهد الثالث للحديث عن علم المعاد، ويخص السعادة والنفس فيه بشواهد ثلاثة يعني في أولها بالبحث عن ما تتوقف عليه النشأة الثانية، ويدرس فيه أيضا مسألة تكون الإنسان والحيوان والنبات، وجملة قوى كل واحد منهم من خلال ثلاثة عشر إشراقا يضمها المشهد.

أما ثانيهما، فيهتم فيه بدراسة آنية النفس الإنسانية وأحوالها، والإشارة إلى ما فوقها، وما بين أيديها من أمور الآخرة. كما يبحث فيه أيضا مسألة تجرد النفس الإنسانية وحدوثها، وإبطال القول بتناسخها، مؤكدا خلودها في إشراقاته الإحدى عشرة التي يضمها هذا المشهد الذي يختص بالنفس الإنسانية وجملة أحوالها. وأخيرا يبحث في ثالثها مسألة تجرد النفس وإثبات معادها، بينما تهتم إشراقاته العشر بذكر حقيقة السعادة والشقاوة الأخرويتين.

ومن الملاحظ أيضا، أن مسألة المعاد تحتل جزءا كبيرا من الكتاب. ففضلا عن المواضع المتفرقة التي عرض لها فيها، أفرد الشيرازي المشهد الرابع بأكمله للحديث عنها، فتكلم عن الحشر الجسماني وأحوال النشأة الآخرة، لكن أغلب كلامه هنا لا يخرج عما سبق وذكره من قبل في كتابه «المبدأ والمعاد» الذي أفرده لبحث هذه المسألة. كما لم ينس الشيرازي أن يتحدث باستفاضة كذلك عن مسألتي السعادة الأخروية والشقاوة الحسية، موضحا سبب حرمان بعض النفوس من الأولى وعقابها بالثانية.

في كتابه «شرح الهداية الأثيرية»، يؤكد الشيرازي أن تكميل القوة النظرية عن طريق تحصيل العلوم الحقيقية وتقنين القواعد اليقينية يعد من أنفس ما تشتاق إليه النفوس الإنسانية قاطبة، وأن الإنسان إذا ما اكتسبها وألم بها أصبح فائقا على الأشباه والأقران، سالكا بذلك سبل العرفان! ومن المعلوم أن الشيرازي يقسم العلوم إلى قسمين: الحكمة النظرية التي يدخل الإيمان ببقاء النفس من ضمنها. والحكمة العملية التي يدخل فيها العلم بكيفية اكتساب الملكات النفسانية الفاضلة، وإزالة الملكات الرذيلة.

أيضا يؤكد الشيرازي في تناوله للفروق الكائنة بين كل من: العلم الرياضي والعلم الطبيعي، أنَّ الأخير يشتمل على علم النفس الذي يعد «أم الحكمة وأصل الفضائل، وأن معرفتها أشرف المباحث، بعد إثبات المبدأ الأعلى ووحدانيته، وأن الجاهل بمعرفتها لا يستحق أن يقع عليه اسم الحكيم، وإن أتقن سائر العلوم، فالعلم المشتمل على معرفتها أفضل من غيره».

وتبعا لوقوع العلم بالنفس ضمن مباحث علم الطبيعيات؛عالج الشيرازي المباحث المتعلقة بالنفس ضمن الفن الثالث من الطبيعيات، غير مكتفٍ بشرح آراء الأبهري وإنما قدم تعليقات مفيدة فيما يخص مسألة تقسيم النفس إلى: إنسانية، وحيوانية، ونباتية. كما نراه يمزج مرة أخرى بين الطبيعيات والإلهيات فيما يخص أحوال النفس في النشأة الآخرة، وما تشتمل عليه من أمر السعادة والشقاء، وذلك حين تعرض بالشرح لبعض أحوالها في فن الإلهيات.

أما «رسالة ذي الستين في الأخلاق»؛ فيعالج فيها مسائل أخلاقية كما يتعرض فيها لأمراض النفس التي تحول دون بلوغها السعادة القصوى. أيضا تهتم الرسالة ببيان القوى النفسية، وأنواع النفوس الأخرى. على أن أهم ما في هذه الرسالة الصغيرة هو تقرير مبدأ «الحرية الإنسانية»، وبحسب الشيرازي؛ فإن بمقدور المرء أن ينزل إلى أي مرتبة من مراتب النفوس، سبعية كانت أو غضبية، أو ملكية، مما يضفي على عملية البحث عن السعادة إمكانية ذاتية!! وفي السياق ذاته تعد «رسالة إكسير العارفين» من أهم رسائل صدر الدين الشيرازي من الناحية النفسية. فعلى الرغم من قلة صفحاتها، وتعدد موضوعاتها، فإنّه خصّص بها عشرين فصلا ضمن البابين الثاني والثالث لدراسة النفس يضم كل باب منهما فصولا عشرة.

ففي الباب الثاني، بفصوله العشر، يتناول صدر الدين النفس وإمكانية قبولها للعلوم تبعا لنظرية «الفيض» وترقيها من دور النقص إلى الكمال عن طريق اتحادها بالعقل الفعال الذي يضمن لها أن تحظى بأجلّ سعادة وأكملها. أما الباب الثالث؛ فيوضح العلاقة التي تربط بين كل من النفس والبدن مع مناقشة أمر بقائها بعد فنائها، وفي الباب ذاته ثمة تفصيلات تكاد تكون مكررة حول سعادة النفس وشقاوتها في الدار الآخرة.

أما كتابه «شرح حكمة الإشراق»؛ فقد تابع فيه بحسب البعض السهرودري في المنزع الإشراقي، لكن المتابع لآراء الشيرازي المتضمنة في شرحه لحكمة الإشراق يتضح له أن علاقته بالسهروردي ومذهبه الإشراقي علاقة تماثل وليس تطابق. يبدو ذلك واضحا من خلال النقاط العديدة التي لا يكتفي فيها الشيرازي بدور الشارح - كما يبدو من العنوان - ؛ وإنما يتعداها إلى لعب دور المفكر المفسر حينا، المعارض الناقد أحيانا.

ففيما يختص بالمجال النفسي تحديدا؛ نلاحظ وجود العديد من التعليقات المتميزة، وإن لم تأت دفعة واحدة، وإنما انتشرت في مواضع متفرقة من الكتاب. وعادة ما تتعلق تلك التعليقات برأيه في مسألة حدوث النفس وخلودها، وكذلك إبطال القول بالتناسخ على ما في مذهب الهنود، إلى جانب بعض تعليقاته الخاصة بمسألة الإدراك وأنواعه. وتبدو هذه التعليقات واضحة إلى حد كبير في المقالتين الرابعة والخامسة على وجه الخصوص، وذلك بحكم اشتمالهما على بعض المسائل المتعلقة بأمر السعادة الأخروية والمعاد الجسماني والثواب والعقاب.

أخيرا يهتم كتابه «الحكمة العرشية» بنظرية المعرفة من خلال التفريق بين العلم المكتسب عن طريق الكشف والعرفان من جهة، والعلم الذي يختص به رجال الدين والفلاسفة من جهة أخرى. ومن ثم؛ فإن «الحكمة العرشية» تعني تلك الحكمة التي تقوم على الإدراك المباشر للحكمة المتعالية المناقضة للتعليم الصوري، أو الاستنباط المحدود للفلاسفة ورجال الفكر الديني.

والملاحظ، فيما يتعلق برؤية الشيرازي لمسألتي السعادة والنفس، أنه يعبر فيها عن الاتجاه السائد في عصره المهتم بتناول مسألة الإحساس، وعلاقة النفس بالبدن، ومستويات النفس، وأنها جوهر روحاني، وحقيقة المعاد، وغيرها من المسائل المهمة، مع ربط ذلك كله بمسألة السعادة والشقاوة الأخرويتين بصفة خاصة.

تلك كانت أهم المؤلفات التي تناول فيها صدر الدين الشيرازي مسألة السعادة وارتباطها بالنفس وذلك بالإضافة إلى مجموعة رسائله الأخرى: «رسالة في القضاء والقدر»، «ورسالة في الحشر»، التي تعرض فيها لأدلة إمكانية حشر النفوس والأجساد، بينما عالج في «رسالة المظاهر الإلهية في أسرار العلوم الكمالية» مسألة النشأة الثانية للنفس الإنسانية، وما تحظى به من سعادة أخروية أو شقاء.

وهكذا يمكننا القول إنَّه لا يكاد يخلو مؤلف من مؤلفات الشيرازي من ذكر السعادة والنفس، فضلا عن أن كلامه عنها يدل على تعمقه وتعرفه على خبايا النفس الإنسانية، ويبرهن على قدرته في استبطان دواخلها، وعمق نظرته الكشفية التي تتبع منهجه الإشراقي العرفاني.

* كاتب مصري