مراجعة نقدية لكتاب عبد الرحمن الحاج «الخطاب السياسي في القرآن»

رضوان السيد

TT

يبدو هذا العنوان لأطروحة الدكتور عبد الرحمن الحاج: «الخطاب السياسي في القرآن، السلطة والجماعة ومنظومة القيم» (الشبكة العربية، 2012) جديدا جدة الثورات العربية الجارية، التي صعد فيها الإسلام السياسي صعودا بارزا. إنما الواقع أن الأطروحة مكتوبة قبل الثورات، لكنها تظل داخلة في البيئات التي سادت في الخطاب الإسلامي منذ الستينات من القرن العشرين المنقضي. والذي أعنيه أنه منذ تنظير أبي الأعلى المودودي فـ(سيد قطب) للحاكمية؛ فإن أدلجة هائلة داخلت كل الكتابات عن القرآن والإسلام على اختلاف اتجاهات الكاتبين. على أن الدكتور الحاج الذي يعرف عشرات بل مئات المقالات والدراسات عن القرآن والسياسة والحكم، وعن الإسلام والنظرية السياسية فيه، لا يقع دون شروط أو تحفظات في إسار الأدلجة الحزبية وغير الحزبية التي تنسب للقرآن والإسلام نظرية سياسية كاملة وجاهزة للتطبيق؛ بل يقوم بعمل أكاديمي من ناحيتي الشكل والبنية، ينطلق من مفهوم أو مفاهيم الخطاب بالمعنى المعاصر لذلك؛ دون أن يعني حذره المبدئي غياب الهم التأصيلي القوي لديه، وهو أمر شائع لدى سائر شبان الإسلاميين في العالمين العربي والإسلامي. ولكي لا نبقى في حيز التوصيف، يحسن التقدم باتجاه عرض على نحو ما للكتاب يوضح أمرين: مدى اندراجه في بيئات وعمليات التسييس الجارية منذ عقود للقرآن والإسلام، ومدى الجدة والتمايز في الوقت نفسه عن الموجة الغلابة من جهة، وإسهامه في استكشافات خصبة وجديدة للنص القرآني بالأدوات والمناهج الحديثة. فالخطاب عنده، السياسي وغير السياسي، هو رؤية للعالم فيها تبادلية دورية بين المعرفة والآيديولوجيا أو السلطة، حسبما ارتأى ميشيل فوكو. وإلى جانب الإيجاز في مفهوم «الخطاب» هناك إيجاز في مفهوم السياسة في الأزمنة والمصطلحات الحديثة، ولدى المسلمين في الأزمنة الوسيطة ولدى الفقهاء والفلاسفة. ومن هاتين المقدمتين يفضي الباحث إلى القسم الأول من دراسته عن «بناء الجماعة السياسية»، وهي تقع في فصلين: البنية المفهومية للجماعات (بنية جماعة المسلمين، وبنية جماعات الكافرين)، بينما يعنى الفصل الثاني ببناء الجماعة السياسية في القرآن: فالمؤمنون جماعة ذات بنية، ورب الناس (أي الجماعة الوظيفية!!)، والمسلمون أمة (المشروع الكوني التاريخي). ثم ينصب اهتمامه على الخروج من الحالة الجاهلية: تجميع السلطة المبعثرة، ومن القرية إلى المدينة. ومن بناء الجماعة السياسية ينتقل الحاج في القسم الثاني من دراسته إلى النظرية السياسية أو ما يسميه «هيكل الأمر»، وهي مكونة من فقرتين: في مواجهة النموذج القائم من طريق الرب الواحد، والتوحيد السياسي وتفكيك الهياكل القديمة؛ فاقتضاء الصراط المستقيم؛ أي هيكل الأمر باعتباره محصلة للأمر الأول، أي الرب الواحد والتوحيد السياسي. ثم يأتي تفصيل شديد الأهمية في الفصل الرابع من القسم الثاني بعنوان: النموذج (أو نظام الأمر): الله والرسول (مرجعية الشريعة، والنبي المؤسس)، ويتضمن ذلك: معنى أمر الله، ومعنى حكم الله، ومعنى الكتاب، ومعنى حكم الرسول، والكتاب والحكمة والحاكمية. أما الفقرة الثانية من الفصل الرابع فتنصب على أولي الأمر (أو نظام الأمر والطاعة)، ويشمل ذلك أمر أولي الأمر، وجماعات أولي الأمر، وحدود الطاعة، والأمة وولاية المؤمنين، ونظام الأمر (= الشورى والبيعة). أما القسم الثالث وهو القسم الأهم والأبقى في الدراسة، من وجهة نظري، فينصب على القيم السياسية، وهو الأمر الذي سأعود إليه بعد هنيهة.

استخدم الدكتور عبد الرحمن الحاج في هذين القسمين من دراسته عن الجماعة السياسية، وعن النظرية السياسية مناهج العلوم السياسية كما عرضها الأساتذة المصريون - وبخاصة حامد ربيع - في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي. والمعروف أن زملاءنا من تلامذة حامد ربيع بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة تابعوا عملية الأسلمة والأدلجة لنظرية الحاكمية مستعينين ومستعينات بأدوات العلوم السياسية وتعريفاتها ومصطلحاتها للسلطة والدولة والشرعية والشعب والأمة. وقد اعتبروا أنهم استوفوا بذلك شروط وظروف وأدلة وجود النظرية السياسية الإسلامية، والدولة الإسلامية، التي لا تعتمد في ضرورات قيامها وخلودها على التاريخ أو دولة الراشدين، بل على الكتاب والسنة، أي على الأصل الإلهي للمشروع السياسي الإسلامي، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. والأستاذ الحاج يعرف القرآن والدراسات القرآنية والإسلامية أكثر منهم بكثير، ولذا فقد استلهم الهيكل أو الشكل أو عذر ومسوغ العلوم السياسية الغربية في صيغتها الحامدية، ليمضي قدما حاشدا كل النصوص القرآنية وغير القرآنية، ومن الطبري إلى ابن عابدين، ليثبت في النهاية، بل منذ البداية، أن القرآن الكريم هو كتاب سياسي من الطراز الأول، فحتى الصلاة وحتى المسجد وحتى «المنافقون» وحتى «المؤمنون» وحتى «الكفار»؛ هذه المفردات جميعا لها أبعادها السياسية الظاهرة وأحيانا الغالبة. والطريف أنه بعد أن يدرس باستفاضة سياقات ورود مفرد «المسجد» مع التأويلات السياسية الضرورية، يختم ذلك بقوله تعالى: «وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا»، وكأنها تدل على رأيه في الأبعاد السياسية للمسجد؛ في حين أنها تعني ولا شك أنه لا علاقة لهذا الموطن التعبُّدي بنظرية الحاكمية السياسية. بل إن مفهوم «الولاية» الذي يذكره عرضا لا معنى له غير ضرب نظرية «السيادة» كما تقول بها الدولة القومية ووليداتها الغربيات، ويستحيل مع الولاية الإلهية المتعالية قيام الدولة الدينية.

إن الذي يحار فيه المرء أن الدكتور الحاج يعرف كل الموروث التفسيري والفقهي، أي أنه يعرف أن المسلمين القدامى (من أهل السنة بالذات) اعتبروا الإسلام دينا وليس مذهبا سياسيا، بل وما اعتبروا أنه يتضمن نظرية سياسية ونظاما للحكم (وهذا لا يعني أنه لا يتضمن رؤية للعالم بضمنها إشارات وقواعد للحكم والسياسة أو إدارة الشأن العام). وهو يعرف أن المتكلمين من أهل السنة عندما كانوا يعقدون في أواخر كتبهم الكلامية فصلا للإمامة، كانوا يعتذرون عن ذلك بأن الإمامة ليست من التعبديات بل هي من المصلحيات، أي أن مكانها ليس كتب العقائد والكلام، بل كتب الفقه والأحكام السلطانية والسياسة الشرعية.. إلخ، وأنهم إنما عقدوا لها بابا ليردوا على الخصوم بشأن شرعية خلافة الراشدين. وقد اعتبروا أن الخلافة (في شكلها المعروف تاريخيا) إنما قامت على الإجماع. وعندما يذكر الماوردي أن الإمامة واجبة بالعقل والشرع، يوضح أن المقصود ضرورة وجود سلطة تحفظ أمن المجتمع، وهو لا يجد نصا على ذلك الوجوب غير قوله تعالى: «أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ». وقد أورد هو نفسه (أي الحاج) الخلاف في مفهوم «أولي الأمر»، وهل هم العلماء أم الأمراء. ويشكو الجويني في «غياث الأمم» من أن الإمامة ما يزال يتحدث فيها المتكلمون ويتجنبها الفقهاء، ولا شأن لأهل العقائد والكلام عند أهل السنة بالبحوث السياسية لأنها ليست من العقائد أو من أركان الدين! وربما من أجل ذلك يشكو الحاج مرارا من قصور رؤى الفقهاء، وقصرهم «السياسة» في بحوثهم على تدخل الحكام في الحدود والأحكام القضائية (القائمة على الشريعة) سياسة! وقد أكرمني الصديق الدكتور عبد الرحمن الحاج بالاعتماد علي في القسمين الأول والثاني من أطروحته؛ وذلك بالعودة كثيرا إلى كتابي: «الأمة والجماعة والسلطة» (1984)، وبحثي: «مفاهيم الجماعات في القرآن» (1985). وعندما كتبت مبحث «الأمة في الكتاب»، ومبحث «مفاهيم الجماعات» كنت متحمسا للجوانب السياسية في القرآن، وفي تجربة الأمة التاريخية. لكنني بخلافه تماما (لأنني من جيل آخر)، أصررت على قراءة ذلك كله في الحقل التاريخي، أي كيف فهم المسلمون الأوائل (من خلال كتب التاريخ والتفسير) كل تلك المفاهيم. وكان من الصحابة، ومن المفسرين من ذهب إلى استظهار الطابع المهدوي والنشوري للأمة، ومن ضمن ذلك الاستخلاف الإلهي والتكليف الإلهي (وهو الأمر الذي أحبه الأمويون والعباسيون عندما سموا أنفسهم خلفاء الله)؛ لكن أحدا منهم ما اعتبر أن نظام دولتهم هو نظام قرآني لا يخلُّ ولا يزل ولا يتزعزع. القرآن كتاب دين وأخلاق وأمر ونهي واشتراع - وإذا كان يطرح نظرية سياسية تقوم عليها دولة؛ فإنها تصبح واجبة النفاذ، ويكفر من لا يقول بها، كما يكفر من لا يقول بالصلاة والصوم والزكاة، أو من لا يقول بالإمامة عند الشيعة. ولا يخفف من ذلك يا أخي أن تذكر الخلافات والاختلافات في تفسير هذه الآية أو تلك، ولا أن تذكر حدود الطاعة وإلزامية الشورى أو عدم إلزاميتها. أما البيعة للنبي صلوات الله وسلامه عليه؛ فإنها كانت بيعة على اعتناق الدين، وعلى الدخول في جماعة المؤمنين. ولو لم تكن يا أخي من جيل «الصحوة الإسلامية» لاهتممت لمبحث البغي والبغاة في كتب الفقهاء أي اهتمام. فالمعارضة السياسية التي تصل إلى حدود التمرد المسلح (وعلى الإمام العادل!) لا تخرج من الدين؛ وبخاصة أن الخروج الأول كان على عثمان وعلى علي، وكانت ردة فعل علي أن قال: «إخواننا بغوا علينا». ولو كانت هناك نظرية سياسية قرآنية مفروضة قامت عليها الخلافة، لما جرؤ مسلم على التمرد أو العصيان على الخلفاء الراشدين المهديين! وفي أطروحة الدكتور عبد الرحمن الحاج قسم ثالث عنوانه «القيم السياسية». وهذا القسم بالغ الأهمية، ولولا أن كل الوارد فيه موسوم بأنه قيم سياسية لقلت إن الأطروحة كان ينبغي أن تتأسس عليه، لأن هذه القيم تمثل بالفعل رؤية القرآن للعالم. وهذه القيم تؤثر بالطبع في الحكم والسياسية وإدارة الدولة، لأنها تتدخل في الأفراد، وفي الجماعة المؤمنة التي تملك حق إقامة الأنظمة والدول والنظريات؛ ومنها قيم التوحيد والمساواة والكرامة الإنسانية والحرية والمسؤولية. وهذا المدخل القيمي والأخلاقي لفهم القرآن الكريم هدانا إليه محمد عبد الله دراز، والمستشرق الياباني إيزوتسو، وقد ترجمت كتبه إلى العربية، وبعض من ترجمها من معارف الدكتور الحاج وزملائه، فلا أدري لماذا لم يرجع إليه حتى لو لم يكن إيزوتسو يعتبر هذه القيم قيما سياسية مباشرة. وكنت قد استظهرت في دراسات سيمانطيقية منظومة أخرى للقيم القرآنية هي: المساواة والرحمة والعدالة والمعروف والتعارف والخير العام.

كتاب الدكتور الحاج يتضمن استنارات كثيرة. وبالفعل فإن الأدوات المنهجية الحديثة للقراءة تكشف عن جديد كثير وبناء. لا اختلال يا أخي لا في دين الجماعة، ولا في تطبيقاتها لشرع الله. وإنما الاختلال الحاصل هو في إدارة الشأن العام. وأنا متفائل مثلك بالثورات، وبذهاب الطغاة والفاسدين. لكن الذي يحدث هو الهول الأعظم الذي نسأل الله سبحانه اللطف فيه. إنه يوم طويل طويل في حياة قصيرة، «وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ».