الإجماع والتشريع والإجماع وسلطة الأمة

رضوان السيد

TT

أرسلت لي إحدى دور النشر مخطوطة لأحد الباحثين المغاربة من أجل تقييمها أو بحث قابليتها للنشر كالعادة. والمخطوطة معنية بنقد فكرة الإجماع؛ بل نقضها. وقد بدأ الباحث الناقض من «رسالة» الإمام الشافعي، الذي اعتبر الإجماع دليلا شرعيا بعد الكتاب والسنة، وقبل القياس. وأورد الباحث أدلة المعتزلة والشيعة القدامى على نفي اعتبار الإجماع من مصادر التشريع. وأدلة هؤلاء تتركز على أن آية «سبيل المؤمنين» لا تدل على حجية الإجماع، كما أن حديث: «لا تجتمع أمتي على ضلالة» حديث ضعيف. ويضيف بعض أهل الاعتزال على ذلك حججا من العقل مثلما فعل أبو بكر الأصم والنظّام. ثم يضيف الباحث نفسه برهانا رابعا يتمثل في أن مقصد الفقهاء من أهل السنة، إنما كان احتكار سلطة التشريع بالنخبوية، وتسخيرها لخدمة السياسيين عبر التاريخ الإسلامي الوسيط! وحتى في الفصل السياسي الذي عقده الكاتب، يذكر وظيفة واحدة للإجماع هي تسويغ الخضوع للسلطات، والمنع من التمرد بحجة الفتنة! إن هذه الدراسة عن الإجماع ونقاده في القديم والحديث، شأنها في ذلك شأن الدراسات النقدية الأخرى المعنية بتجديد علم أصول الفقه، تتجاهل الأصل السياسي للإجماع الذي ذكره الشافعي قبل التدليل على الوظيفة التشريعية له. فقد قال الشافعي إن المسلمين أجمعوا على وحدة الأمة ووحدة الإمام ووحدة الدار ووحدة القاضي.. إلخ. وعلى «سلطة الأمة» من خلال إجماعها، رتب الشافعي مبدأ اعتبار الإجماع حجة شرعية بعد الكتاب والسنة. وهو عندما فعل ذلك، ما كان ما فعله بدعا، فقد وافق عليه كثيرون، ومن بينهم معتزلة وغير معتزلة. إنما في حين أن سلطة الأمة التي تمارسها من خلال إجماعها حاضرة في جمهورها أو شائعة فيه؛ فإن الاشتراع لا يمكن أن ينسب إلى الجمهور؛ لذا فما كان الحديث عن إجماع العامة في الأحكام الشرعية؛ بل هو إجماع الفقهاء المجتهدين. ومن الطبيعي أن يكون كذلك؛ إذ كيف تستطيع العامة الاشتراع؟! لكن الكاتب إنما كان يريد التشنيع على الفقهاء، فتجاهل ضرورات الاختصاص عندما يراد الاجتهاد. ومن اجتماع آراء المجتهدين على أمر أو حكم، يصبح هذا الحكم أو العرف جزءا من حركية الاجتهاد إلى جانب الاستنباط من الكتاب والسنة.

والحق أن مشكلة علماء الكلام من المعتزلة مع الإجماع، ما كانت مشكلة منفردة، بل شاركهم فيها أهل الحديث وإن لأسباب أخرى. فأهل الحديث حملوا على الإجماع لاعتبارهم أنه يتخطى الكتاب والسنة. ومتكلمو المعتزلة حملوا على الحديث والإجماع معا لأنهم أرادوا الانفراد بالتفكير الديني بعد القرآن وتأويله. بيد أن أصولييهم - كما سبق القول - ما سروا بالإجماع إلا عندما تأكدوا أنه خاص بالنخبة العالمة، وهذا أمر طبيعي؛ فليس كل مصري اليوم- وسط النزاع على مسائل قانونية، يستطيع أن يعمل باعتباره فقيها دستوريا! لكن كل الذين اتهموا الشافعي بالخطأ لرفعه الإجماع إلى رتبة الدليل الشرعي أو الأصل الشرعي، أخطأوا خطأ فاضحا في فهمه، وظل هذا الخطأ ساريا على مدى الأعصار والأدهار. فقد قال الرجل منذ البداية إن المسلمين أقاموا على الإجماع سائر شرعيات مجتمعهم منذ وفاة النبي صلوات الله وسلامه عليه، ومن ضمن ذلك نظامهم السياسي الذي قام على الإجماع. ولذا، فكما قال النبي (صلى الله عليه وسلم) لمعاذ بن جبل في سؤال هو أسلوب الحكيم (في علم البلاغة)، عن ماذا يفعل إن احتار في حكم، فقال إنه يبحث عنه في كتاب الله، فإن لم يجد، ففي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن لم يجد فإنه يجتهد رأيه ولا يألو (أي لا يقصر).. وهكذا فإنه في الأمور التي تعم بها البلوى، وتتصل بالدين؛ فإن المسلمين يستطيعون اللجوء إلى إجماع علمائهم إن لم يجدوا ما يجيبون به في الكتاب أو السنة. ونحن نعلم أن هناك محدثين كثيرين شككوا في حديث معاذ بن جبل لجهتي المتن والإسناد؛ لكن الشافعي رأى شيوخه؛ ومنهم مالك بن أنس وفقهاء المدينة السبعة، وفقهاء مكة، وأهل الرأي بالعراق؛ كلهم يأخذون بالقياس، فقال به واستأنس بحديث معاذ. فالقياس الفقهي ممارسة تعود إلى أيام الصحابة، وتدل على شرعيتها مرويات تختلف قوة وضعفا. والشافعي الذي اعتبر القياس مصدرا تشريعيا، تابع في ذلك ممارسات الصحابة والتابعين والمرويات عن النبي صلى الله عليه وسلم. وهو فعل الشيء نفسه في الإجماع؛ فقد اعتبر التصرفات الاجتماعية والعامة منذ وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم التي تلقتها الأمة بالقبول، إجماعات. والإجماع شرع أو له قوة الحكم الشرعي. ومن ضمن ذلك وعلى رأسه الخلافة وإنشاء النظام السياسي الواحد. إنما السؤال في هذه النقلة من غير الديني البحت إلى الديني. فالمعروف أن الإمام مالك اعتبر عمل أهل المدينة دليلا شرعيا، لاختصاص المدينة بأنها دار رسول الله صلى الله عليه وسلم على مدى عشر سنوات هي سنوات ظهور الجماعة والأمة وتطبيقات السنة. لكن الليث بن سعد (من معاصري مالك)، والشافعي (من تلامذة مالك)، رأيا ومعهم آخرون كثيرون أن اعتبار إجماع أهل المدينة يعود إلى أنهم جماعة مؤمنة استبطنت الشريعة ومن ضمنها السنة؛ وهم لا يتميزون بذلك عن سائر المسلمين، فإذا كان إجماع أهل المدينة شرعا، فالأولى أن يقال إن إجماع الأمة شرع أيضا. وكانت هذه هي النقلة من الاجتماعي/ السياسي إلى الفقهي والديني. وما اهتم الشافعي في «الرسالة» بإيراد دليل «سبيل المؤمنين» القرآني، لأنه غامض بالفعل، بل أورده في رسائل أخرى عندما كان يرد على منكري السنة وحجيتها.

لقد ظل الفقهاء المسلمون في كتبهم في «الأحكام السلطانية» و«السياسة الشرعية» يعتبرون أن الخلافة أو السلطة السياسية قامت على الإجماع. وقد أضاف الماوردي للإجماع: العقل والنقل. لكنه أغمض في ذلك. فالعقل والنقل يدلان على ضرورة السلطة لاستمرار المجتمع وانتظامه. أما عندما نقول إن الإجماع هو الذي أنشأ هذه السلطة في المجتمع الإسلامي على وجه الخصوص؛ ومن طريق الشورى والبيعة؛ فإن هذا يعني أن السلطة شائعة في مجتمع المؤمنين هذا، وأنه يملك أن يوكلها إلى هذا الفرد أو إلى هذه الجهة بعقد معين وشروط معينة، وهذه تفاصيل تنظيمية، إنما الأصل أن السلطة السياسية أو التبرير حق المجتمع. وعبد الرحمن بن كيسان الأصم الذي أزعجته حجية الإجماع قال: «إذا تكاف الناس عن التظالم استغنوا عن السلطان»! وهذا يعني أن الناس يستطيعون أن يكلوا السلطة لهيئة أو فرد ويستطيعون الاستغناء عنها مطلقا في حالة ما وجدت من قبل، لكن تصورها ممكن! وفي زمن تلامـذة الشافعي مثل أبي عبيد القاسم بن سلام (-224هـ)، والمحاسبي (-243هـ)، نشب ذاك الصراع حول مفهوم العقل الذي قاده الكندي (-252هـ) من جانب الفلاسفة. وقال الكندي إن العقل جوهر فرد قائم بذاته. وقال المحاسبي بل إنه غريزة أو قوة من قوى النفس الإنسانية، ولا ينفصل عن الإنسان. والكندي شأنه في ذلك شأن أرسطو وأفلاطون من قبل، والفارابي وابن سينا من بعد، يذهب إلى أن الناس يتفاوتون في عقولهم تبعا لإرادة «العقل الفعال» ولأصلهم الطبقي. والفقهاء والمتكلمون المسلمون يذهبون إلى أن الناس يتساوون في العقل الفطري، وإنما يقوى ذلك العقل ويزيد بالتعلم والتجربة. ولذا، فإن السلطة لدى الفلاسفة هي من حق المتفوقين عقلا بإرادة العقل الفعال ونظام الأفلاك والطبقات؛ بينما هي عند متكلمي المسلمين وفقهائهم شائعة في الأفراد على قدم المساواة، وكذا في المجتمع، وكما يدبر العقل الفردي الإنسان الفرد؛ فكذلك يدبر العقل الجمعي شؤون الجماعة.

لقد أفضى بي إلى ذكر هذا كله، المخطوط الذي سبق ذكره في نقض الإجماع والتذمر منه، واعتباره سيئة من سيئات أهل السنة. ويأتي سوءه لدى المؤلف من أنه مركزي وإقصائي وسلطوي. وقد كانت هناك بالفعل ممارسات باسم الإجماع ما كانت دائما محمودة. لكن الإجماع لدى الفقهاء الكبار والأصوليين البارزين لا شأن له بأطروحة فوكو عن المعرفة والسلطة أو الخنزوانات الأخرى. ولست من أعداء الانتقاد من أجل التجديد في أصول الفقه، وبخاصة أن الدراسات الجادة ذات المنزع النقدي في الأصول، لا تزال قليلة. لكن ما فعله هذا الرجل، ودارسان آخران سبق أن قرأت لهما حملة على الإجماع، يدل على قلة العقل وسوء النية، وقلة العقل أغلب؛ إذ لو كان القصد حسنا، لأمكن البناء على أصل الإجماع في التمكين لأطروحة الأمة وإرادة جماعتها في زمن التغيير. وقد رأيت للفقيه أحمد الرسيوني دراسة صغيرة عن «الأغلبية» وحجيتها، استدل فيها - وهو الأصولي البارز - بأصل الإجماع لأنه يعرف معناه ومؤداه.

لدينا مشكلات كثيرة في الأصول كما في الفقه، لكننا لا نشكو من مسألة الأدلة الأربعة، بل مما تحتها وما حولها من طرائق في الفهم والقراءة. ولن يفيدنا في شيء الإنكار بحجة التجديد؛ فقد أصر عشرات من الأساتذة على مدى خمسين عاما على الهرب من الدين باسم الحداثة، وها هو الإسلام الحزبي ينزل بنا قبل أن ينزل بهم، فلننتبه قبل فوات الأوان: «وإن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَومًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أمْثَالَكُمْ».