من يقف وراء الفتنة الدينية في نيجيريا؟

إميل أمين

TT

إن المشاهد لما يجري على ساحة الأحداث في نيجيريا يجابهه سؤال مصيري: «هل هي الفتنة الدينية الطائفية أم الصراع العرقي وفخاخ الاستعمار الأجنبي السابق أم المصالح الاقتصادية والأيادي الغربية التي تقف من خلفها؟».

هذا السؤال ارتفع وبقوة في سماوات الأحداث مؤخرا وفي ضوء سلسلة العمليات الهجومية والعمليات المضادة ما بين المسلمين والمسيحيين، وللدقة لا نقول كل المسلمين النيجيريين بل جماعة «بوكو حرام» التي بات غالبية مسلمي نيجيريا يرفضون أفعالها ومآلات تلك الأفعال، لا سيما إذا أدرك الجميع هناك أنها ربما وبطريق غير مباشر تستدعي وبالا من التدخل الأجنبي في البلاد عسكريا، واقتصاديا، وأدبيا.

ما الذي جرى ويجري في نيجيريا؟ وهل أفريقيا برمتها مرشحة للدخول في هذه الدائرة؟ ومن يقف منتظرا لتحقيق مكاسب على الأرض من ذلك الصراع؟ المؤكد أن العنف المجتمعي في نيجيريا ليس بالأمر الجديد، فقد قتل هناك منذ عام 1999، والعهدة هنا على وكالة رويترز، نحو 10 آلاف نيجيري منذ انتزاع القادة المدنيين للسلطة من القيادات العسكرية. ومنذ شهر نوفمبر (تشرين الثاني) 2008 وحتى أوائل شهر يونيو (حزيران) الجاري اتسعت دائرة العنف لتشمل صدامات ذات طابع عرقي وديني في مجتمع يكاد ينقسم بين شمال وجنوب، ولكل قطاع جغرافي ملامحه وجذوره حتى وإن قبل بعضهم الإسلام منذ القرن الثاني عشر الميلادي أو اعتنق آخرون المسيحية قبل أو بعد ذلك... كيف ينقسم النيجيريون عدديا؟

بحسب أحدث البيانات الإحصائية فإن عدد سكان نيجيريا بحلول يوليو (تموز) 2012 هو 170 مليونا، يشكل المسلمون منهم نحو 50% والمسيحيون 40%، وديانات وثنية أخرى 10%.

على أن الاعتداءات التي تبنتها جماعة بوكو حرام مؤخرا على عدد من الكنائس والتهديدات من قبل مسيحيي نيجيريا بالانتقام، وإقدام البعض بالفعل على قتل عدد من المسلمين، جعلت المرء يتساءل هل بوكو حرام هذه بدورها مخلب قط يستخدمها أحدهم من أصحاب النفوذ العالمي لتحقيق مآربه في دولة تعد من أكبر منتجي النفط في العالم؟ يضيق المسطح عن التحليل والتأصيل لهذه الجماعة التي لا تستهدف المسيحيين فحسب، بل تهدف إلى تفتيت نيجيريا وتدمير مقدراتها بما يعزل المسلمين في مناطق فقيرة بلا نفط وبلا موارد طبيعية أو منافذ على البحار.

تأسست بوكو حرام عام 2002 ومن اسمها يمكن للمرء أن يكتشف «الخلل الآيديولوجي» المتجذر في بنائها التحتي، فمعنى المصطلح بلغة الهاوسا «التعليم الغربي حرام» أو منع التعليم الغربي. هنا كانت بوكو حرام تكرس نفسها لمحاربة تلك المدارس الغربية، ومنع الناس من إرسال أبنائهم إليها وقد بلغت ذروة المواجهة مع الحكومة النيجيرية في عام 2009 عندما أخذت الجماعة في تسليح نفسها وخاضت في شهر يوليو من ذلك العام مواجهات مسلحة مع القوات الحكومية في عدد من الولايات الشمالية أدت لمقتل المئات من الجماعة.

والشاهد أن البعض يحاول جعل الأمر مشهد تطهير عرقي من قبل المسلمين هناك تجاه المسيحيين، في حين أن خلاصة ما تستدعيه الحركة من أعمال عنف هو تفتيت للدولة الثرية، الأمر الذي تنبهت له النخبة الفكرية النيجيرية والتي أقدمت مؤخرا على إصدار بيان يرفض ما تقوم به ويتبرأ من ذاك الذي نسب إليها من عمليات... هذا المشهد يستدعي سؤالا من جزأين: هل النزاع ديني أم عرقي؟ وهل هو تطهير عرقي أم لا؟

عند بعض المراقبين والمحليين أن حقيقة النزاع هناك عرقية أكثر منها دينية، وقد طفت على سطح الأحداث تحت مظلة قضية تطبيق الشريعة الإسلامية، إضافة إلى أنه في خلفية ما يجري ملمحا وملمسا للصراعات السياسية الدائرة في البلاد بين الحزبين الكبيرين الجمهوري والديمقراطي، وعليه فإن القول بالصراع الديني أو تحميل الجانب الديني وزر وتبعة هذه الأحداث هو أمر غير دقيق.. هل يفهم إذن أن الجذور العرقية لا تزال تلعب الدور بالغ الأهمية والخطورة في المشهد النيجيري، وأنه هناك أياد خفية تحركها؟

بالنظر إلى الخريطة الدينية نجد أن غالبية مسلمي نيجيريا كانوا ولا يزالون على اتصال مع جذورهم في قبائل الهوسا، أما غالبية المسيحيين فهم جزء من قبائل الكتساف. وقد كان هناك صراع ضار بين القبيلتين قبل الاستعمار، ولذا فإن المشهد وإن أخذ من قضية تطبيق الشريعة الإسلامية وازعا أو مبررا للصدام، إلا أن جذوره أعمق في تربة عرقية قبلية. ومع ذلك فإن هناك استثناءات للمشهد الدامي، لا سيما إذا علمنا أن قطاعا عريضا من مسيحيي نيجيريا في كادونا رفضوا فكرة إحراق المسجد الكبير في طريق كانو وقتل عشرات المواطنين المسلمين ثم كان الرد والرد المقابل وهكذا دخلت البلاد في رحى الحرب الأهلية أو الطائفية.

يلفت الانتباه في أحوال بعض دول أفريقيا أنه حيث توجد ينابيع النفط وآباره توجد الفتنة الطائفية وتمضي سيناريوهات التقسيم قدما، وعلى غير المصدق لما نقول به أن ينظر إلى السودان وكيف أن جنوبه الغني بالنفط قد استقل منفصلا مشكلا جمهورية قائمة بذاتها، فهل سينسحب الأمر على نيجيريا في القريب؟ واقع الحال لمن درس طبيعة المشهد النيجيري يجد أن هناك حالة قائمة بالفعل من الفساد المالي والإداري في مؤسسات الدولة، وفي ظل ارتفاع أسعار الوقود في بلاد منتجة بالفعل للنفط ثم الزيادة الهائلة في أسعار الغذاء وتفشي الفقر بدأنا نلاحظ ظهور حركات شعبية مثيرة في شعاراتها مثل «احتلوا نيجيريا»، بالضبط على نمط تلك التي شهدتها شوارع مدينة نيويورك في الولايات المتحدة الأميركية العام الماضي «احتلوا وول ستريت»، ووقتها قال علماء الاجتماع السياسي إن المشهد «رجع صدى لا يتأخر ولا يتلكأ» لما جرى في بلدان الربيع العربي...

هل يكون الحديث عن التطهير العرقي أو الإبادة في نيجيريا هو المدخل لذلك الاحتلال القادم، لا سيما في ظل تقسيم أميركي صيني ماض على قدم وساق للاستيلاء على ثروات القارة السمراء؟ قبل الجواب المباشر نلفت النظر إلى أن هناك إشكالية حقيقية ينبغي أن تواجه بحسم وحزم وإلا فإن استفحالها سيؤدي إلى مزيد من الانقسامات وربما الاحتلالات وتتمثل في أن البعض يحاول الربط رسميا بين الصحوة الإسلامية في دول الربيع العربي، وحتمية أو ضرورة تعرض الأقليات المسيحية هناك للاضطهاد أو الإبادة، وهو مشهد جد خطير على أي نسيج اجتماعي قائم منذ مئات السنين.

لاحظ على سبيل المثال لا الحصر ما كتبته مؤخرا النائبة الهولندية السابقة الصومالية الأصل «إيان هرسي» عبر مجلة الـ«نيوزويك» الأميركية من أن هناك «إبادة جماعية للمسيحيين تحدث في العالم الإسلامي». علامة استفهام في حاجة إلى قراءة مستقلة، غير أن ما يهمنا هنا وفي هذا السياق كيف يرى رجال الدين المسيحي في نيجيريا الأمر؟ وهل يتنبهون لما يجري إعداده لبلادهم من سيناريوهات؟ الشاهد أن عددا من كبارات أساقفة نيجيريا كانوا على وعي ودراية تامين بما يجري من حولهم، فعلى سبيل المثال تحدث رئيس أساقفة العاصمة النيجيرية المونسنيور «أغنيشس ايا وكايجاما»، فقال: «إننا أمام مجموعة من المجرمين الذين يعتقدون أن الكنيسة عدو، لأنها في نظرهم تجسد الثقافة الغربية»، في تعليقه على تفجير انتحاري نفسه في كنيسة، وإطلاق مسلحين النار على كنيسة أخرى.

ويرى الأسقف النيجيري أن مثل تلك الاعتداءات «لا تمثل نظرة غالبية المسلمين في البلاد». فمن يقوم بالاعتداء على أماكن العبادة المسيحية، عصابة من المجرمين الذين ضلوا طريقهم تماما، ولم يعودوا يعرفون حتى ما يريدون تحقيقه من خلال هذا العنف.. بل إلى أبعد من ذلك ذهب إلى الاعتراف: «أنا لا أتفق مع أولئك الذين يتحدثون عن تطهير عرقي، أو ديني، فهناك أيضا جماعات مسيحية تميل إلى المبالغة في الوضع، بمساعدة وسائل الإعلام التي تقدم صورة مشوهة لما يحدث».

هل هذه شهادة غير مجروحة؟ نذكر أن ناشر هذه الشهادة هي وكالة أنباء كاثوليكية «آكي» ومن خلالها كذلك يعترف الأسقف النيجيري أن بعض المسيحيين في بلاده يشكون من عدم القدرة على ممارسة الطقوس الدينية، لكن «فيما يتعلق بأبرشيتي يمكنني التأكيد أن معظم المسلمين في نيجيريا يعارضون نشر مزيد من الذعر والارتباك، ففي لاغوس جماعة كاثوليكية قوية، ليس هناك ما يعرقل ممارستها الطقسية بحرية أثناء اجتماعات الصلاة وأداء الفرائض الدينية» حسب قوله.. هل من خلاصة يصل إليها رجل الدين المسيحي النيجيري؟

نعم «لا بد من توخي الحذر في نقل الحقائق، وإلا جازفنا بنشر مزيد من الذعر والارتباك، وأن معظم المسلمين في نيجيريا يعارضون جماعة بوكو حرام لأنهم لا يريدون حربا طائفية في البلاد»، داعيا الحكومة إلى بذل كل جهد ممكن من أجل حماية المسيحيين، والحيلولة دون وقوع هجمات جديدة تزرع الذعر والموت وسط الشعب النيجيري... هذه أخبار وأحاديث طيبة.. لكن هل تلقى آذانا صاغية عند أصحاب الأجندات الخاصة؟ وهل يتنبه النيجيريون بقضهم وقضيضهم للفخاخ التي ينصبها بعضهم لبعض دون وعي أو ضرورة لتفتيت بلادهم، كما جرى مسبقا مع السودان؟ لعله ضمن الموجة الأوروبية اليمينية التي نزيدها بأفعالنا أحيانا.

جاءت تصريحات عدد من وزراء خارجية أوروبا، ورؤساء المنظمات الأهلية، وكذلك منابر الاتحاد الأوروبي، وجميعها تتحدث عن الإرهاب الديني، والإبادة والتطهير العرقي، بل وصل الحديث كذلك إلى القول بأن الأمم المتحدة أقرت مؤخرا قرارا في مجال الدفاع عن الأقليات يتيح وسائل سياسية للمطالبة بإجراءات أقوى لحماية الجماعات الدينية المغايرة.

هل أتاك حديث صراع واشنطن وبكين و«القاعدة» في أفريقيا، ثم ماذا عن إسرائيل؟ هل قرأت ورقة دورية «سيكور ميمو قاد» الشاهد على ما يدور هناك من زرع لبذور فتنة لا تبقي ولا تذر؟