البغي والفتنة والجهاد: جلاء المفاهيم

رضوان السيد

TT

أصغيت منذ شهور إلى النقاشات في الفضائيات بشأن مشروعية الخروج على السلطات القائمة. وقد تعاظمت الفوضى في النقاشات تبعا لتصاعد العنف المستخدم بين السلطات ومعارضيها وبخاصة في سوريا. وقد انقسم الفقهاء على الفضائيات إلى قسمين، قسم ما يزال مصرا على أن ما يجري في سوريا إنما هو فتنة، وأنّ المشاركين بالسلاح ضد الأسد وقواته إنما هم محاربون ومدفوعون من الخارج لتهديد وحدة السوريين، وإسقاط حاكمهم الشرعي. وقسم ناقض ذلك تماما، واعتبر أنّ الثائرين بالسلاح على الأسد إنما هم مجاهدون، باعتبار أنهم - وبحسب الحديث الوارد في صحيح مسلم - إنما يتصدون «للكفر البواح الذي عندهم من الله فيه برهان». ولا جدال في أنّ القائلين بأنّ ما يجري فتنة يجب الاعتزال فيها، هم مخطئون، لأنّ رسول الله صلوات الله وسلامه عليه اعتبر في خطبته بحجة الوداع أنّ الدماء والأعراض والأموال حرام إلى يوم القيامة، وأنّ على المسلمين جميعا التصدي لمن ينتهك إحدى الحرمات الثلاث أو جميعها، ومن دون تردد. فلا جدال في أنّ الثائرين على الأسد هم محقون في ثورتهم، لأن الحكم السوري دأب خلال ستة أشهر من عام 2011 على التصدي بالنار والحديد والاعتقال والتهجير للمتظاهرين السلميين الذين كانوا وما يزالون يتقصدون الحرية والإصلاح واستعادة إدارة شأنهم العام. فالثورة بالسلاح وبغيره مسوَّغة بل هي واجبة على كل قادر دفاعا عن الحرمات الثلاث المنتهكة وما هو أوقع وأفظع. لكنّ الذين يقولون بالجهاد ضد الحاكم بالداخل السوري مخطئون أيضا. فالجهاد بنوعيه (جهاد الطلب وجهاد الدفع) إنما يكون ضد الخارج المعادي والمهاجم إمّا باحتلال الأرض، أو الإعداد لذلك. ولا أعرف فقيها معتبرا استخدم مصطلح الجهاد لتكييف أوضاع داخلية، حتى لو كان الحاكم قد وصل للسلطة بالتغلب كما هو شأن أكثر حكام الجمهوريات الخالدة. وإنما استخدم محمد عبد السلام فرج هذا المصطلح في كتابه: «الفريضة الغائبة» عام 1979، ثم توسعت في هذا الاستخدام تنظيمات مسلحة بسوريا وبمصر وبباكستان وصولا إلى «القاعدة» التي ما تزال تشرعن الجهاد بالداخل الإسلامي حتى اليوم. والذين استخدموه ويستخدمونه هم الذين يسمَّون جهاديين، وهم يبررون هذا الاستخدام في النظرية والممارسة استنادا إلى الحكم بالتكفير على الخصوم والأعداء الذين يقاتلونهم بالخارج والداخل.

إنّ الواقع أنّ الخلاف الحاصل بين السلطات والمعارضين في البلاد العربية ومنها سوريا ما كان من أجل أمر ديني أو تعبدي؛ بل بسبب الاختلال الفظيع الواقع في إدارة الشأن العام منذ عدة عقود. وهذا الاختلال اشترع له القرآن الكريم في سورة الحجرات (9) في قوله: «وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما، فإن بغت إحداهما على الأُخرى فقاتِلوا التي تبغي حتى تفيءَ إلى أمر الله، فإن فاءت فأصلِحوا بينهما بالعدل وأَقسِطوا إنّ الله يحبُّ المُقْسطين». فالقرآن الذي ما فرق في الآية بين الحاكمين والمحكومين اعتبر المختلفين جميعا مؤمنين، واعتبر أن بينهم ظالما ومظلوما. وطالب جماعة المؤمنين (وجماعة المؤمنين قائمة أبدا لأنّ الأمة لا تجتمع على ضلالة) بالتصدي للباغي أي المعتدي من الطائفتين، والإنصاف للمظلوم، والإصلاح. فإن أصرت الفئة الظالمة على الظلم فإنّ المؤمنين مأمورون بكفّها عن ذلك ولو بالقتال، ليعود الأمر فينتهي بالمصالحة لأنّ المؤمنين بداية ونهاية إخوة، والمطلوب الإصلاح بين الأخوين (الحجرات: 10). وهكذا فإنّ الاختلافات السياسية والإدارية بالداخل الإسلامي هي التي سماها الفقهاء في كتبهم منذ «الأُم» للإمام الشافعي (204هـ): البغي وأحكام البُغاة. والبغاة عند الفقهاء هم الخارجون على السلطات بتأويل سائغ، أي بمطلب سياسي أو إداري محق في الأصل. والثائرون هؤلاء في الأصل مسالمون ولا يحملون السلاح، لكنهم إن حملوه اضطرارا فإنّ ذلك لا يُنهي حقَّهم أو طلبهم بالإنصاف. ويستشهد الفقهاء على ذلك بخروج أم المؤمنين عائشة وطلحة والزبير على أمير المؤمنين علي، وبخروج الحرورية أو المحكِّمة فيما بعد على علي أيضا. فالذين خرجوا مع أمّ المؤمنين كان مطلبهم محقا وهو القَوَدُ من قتلة أمير المؤمنين عثمان. والمحكِّمة الذين فارقوا علي إلى حروراء كان مطلبهم محقا وهو معارضة التحكيم الذي أصر أمير المؤمنين علي عليه. وفي الحالتين فإنّ المطلب المحق لم يلبَّ واستعمل الطرفان السلاح. وعندما انتصر عليهم علي ما صادر أموالهم ولا أنكر عليهم حقوقهم الأساسية، ولا قتل من ألقى السلاحَ منهم. وهذا كله لا علاقة له لا بالكفر ولا بالفتنة. فالفتنة إنما تكون عندما لا يكون لدى الثائرين مطالب مشروعة، أو عندما يصر الأقوى من الفئتين على قهر الطرف الآخر، فتدور اضطرابات تقسم كلمة الجماعة، ويختلط الحق بالباطل. لكنّ السلطات درجت عبر التاريخ على اعتبار المتظلمين أهل نزاع وفتنة، أو اعتبرتهم محاربين (أي طبقت عليهم أحكامهم، وهي أحكام قطّاع الطرق والعصابات المسلحة).

ويعرف علماء الفقه أنّ ما ورد في الآية بسورة الحجرات هو عام، وما من عام إلا وخصص. وتصرف الإمام علي هو تطبيق على إحدى الحالات الخاصة، وتظل العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. فالنزاع يمكن أن يكون بين قبيلتين على المراعي، أو بين حزبين سياسيين يتنازعان على السلطة. ولا شكَّ أنه ينطبق على حركات التغيير العربية. فكلها تحركات سلمية، وتملك مطالب سياسية محقة، وقد قابلتها السلطات في كلّ الحالات بإطلاق النار وقتل الناس وليس التفاوض والإصغاء للمطالب. فعندما وصلت أم المؤمنين وأتباعها إلى البصرة أرسل الإمام علي إليهم من يصغي لمطالبهم ويحاول إنصافهم. وكذلك الأمر مع أهل حروراء، فقد ذهب إليهم علي بنفسه، واستطاع إقناع أكثرهم بالعودة إلى الكوفة. أما الباقون فقد أرسل لمفاوضتهم عبد الله بن عباس. والأمور مختلفة في هذا العصر والزمان. إنما لا القذافي ولا الأسد حاول إنصاف أهل بنغازي أو أهل درعا الذين تظاهروا وتحشّدوا من أجل مطالب محدَّدة. لقد ارتكب القذافي وانتهك الأسد في حق الثائرين السلميين من أهل ليبيا وسوريا الحدود الثلاثة التي ذكرها رسول الله صلوات الله وسلامه عليه وأكثر: سفك الدم، وانتهاك الكرامة بالاعتقال والتعذيب، وإتلاف المساكن والممتلكات والتهجير. وهكذا تحول الحاكم (وعلى مدى عقود) إلى صائل وباغ وما هو أكثر من ذلك. لقد سلكوا مسالك المحاربين من قطّاع الطرق والعصابات المسلحة. وعندما يسمّي الأسد الثائرين عليه الآن إرهابيين؛ فالواقع أنه هو وقواته هم الذين ينطبق عليهم هذا المصطلح. فالإرهابي - باصطلاح العصر - هو ذلك المسلح الذي يستخدم العنف لبلوغ أهداف سياسية، هي في حالة الأسد: الإخضاع واستمرار الطغيان.

ما فائدة هذا الحديث الطويل كله؟ ما عاد واردا بالطبع استخدام مصطلحات مثل الفتنة والإرهاب وشرعية الحاكم في وجه المتظلمين والمدافعين عن أنفسهم وأعراضهم. إنما ليس مسوغا أيضا المبالغة والتجاوز واستخدام مصطلح الجهاد. فالجهاد يكون للردّ على احتلال الأرض، أو للخوف من إقدام العدوّ على اجتياح البلاد. وفي أسوأ الأحوال بين ما كان يعرف بدار الإسلام ودار الحرب، أو عندما يكون الموضوع: ارتداد الحاكم عن الإسلام! وما كانت هذه هي المشكلة في الأساس. بل كانت هناك مطالب محقة ومظالم طال عليها الأمد. وهكذا فقد قامت معارضة سلمية تتوخى تحقيق المطالب، فكان ما كان. وما عاد يمكن تسمية المعارض باغيا أيضا. لأنّ قوات النظام القائم هي التي طغت وبغت وأرغمت المحتجين على حمل السلاح للدفاع عن أنفسهم وإلاّ قتلوا.

فإذا كان المتناقشون في شرعية الخروج وطبيعته يقصدون إلى التكييف الشرعي؛ فإنّ هذا هو التكييف الشرعي. فللجهاد مصدر ومورد، وكذلك للبغي والخروج. وقد جنى على المسلمين والإسلام كثيرا في العقود الماضية، الخفة في استخدام مصطلح الجهاد، وتصوير الأمر أنّ القتال جارٍ بين الإيمان والكفر حتى عندما يكون بين اليمنيين في اليمن أو بين العراقيين في العراق. وقد قامت منظومة دار الإسلام ودار الحرب لاستحداث تكييف شرعي وقانوني للعلائق التي كانت قائمة في العصور الوسطى بين المسلمين والبيزنطيين أو بينهم وبين الصليبيين أو بينهم وبين الصليبيين أو بينهم وبين الدول والجيوش الاستعمارية منذ القرن الثامن عشر. وما عاد الأمر على هذا النحو منذ دخل العالم الإسلامي في المنظومة الدولية. وإذا كانت هذه الاستعمالات ما عادت واردة بين المسلمين والآخرين بعد قيام النظام الدولي، فكيف يصح استخدام مصطلح الجهاد في الداخل العربي والإسلامي. بل إنّ مصطلح البغي يمكن أن ترِد عليه تحفظات كثيرة في التكييف والاستعمال اليوم. ذلك أنّ المعارضة صارت لها مسارب وأساليب يصونها القانون ويحفظها لجهتي الحاكم والمحكوم، بحيث لا يلجأ كلّ من الطرفين لاستخدام السلاح. لكنّ حكام الجمهوريات الخالدة والوراثية كأنما ما عرفوا شيئا من أعراف العصر وتقاليده ومسالكه. وسهَّل عليهم التعامل مع مواطنيهم كأنما هم وحدهم الأعداء، تسليم القوى الكبرى لهم بذلك، وحمايتها لتصرفاتهم أو غضّ النظر عنها. لكنّ ذلك لا يقلّل من مسؤوليتهم، بل يزيد من هولها وضخامتها. لقد اعتزمت شعوب الجمهوريات الخالدة على إنكار هذا الخلود وهذا التوريث للسلطة. وفي أخلادها قيم الإسلام، وصونه للضروريات الإنسانية الخمس التي ذكرها علماء أصول الفقه والمقاصد، وسواء أكان المعتدون من الأفراد أو الجماعات أو السلطات. وجماعة المسلمين عندما تسترد إدارة شأنها العامّ؛ فإنها ستستحدث من التنظيمات التي عرفها العالم منذ أكثر من مائة عام، ما يصون الحقوق، وما يحول دون الاضطرار لاستخدام السلاح للحصول عليها. هذه الأمور ليست بدْعا في عالم اليوم، حيث صار من الممكن تغيير الأنظمة بالانتخابات، وتغيير المنكر بالرجوع إلى القضاء المستقل.

لقد تأخر بنا الزمان عن مسارات العالم لعدة عقود. لكننا بلغناها الآن. وناسنا مقبلون على الإسلام كما كانوا دائما، إنما الجديد أنهم ما عادوا مستعدين تحت أي ظرف للاستغناء عن حرياتهم وكراماتهم وحقوقهم. وهذا هو الجديد الجديد، دونما حاجة لالتباس المفاهيم واستعمالها في غير محلها مهما بلغ من قسوة الظروف واستثنائيتها: «والله غالبٌ على أمره ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون».